كان الوقت في حدود الواحدة ليلا، وأنا جالس في الغرفة اقرأ، وأمامي كتاب، والى جانبي كاس من الشاي ارتشف منه من حين لآخر،، وفي ليال الصيف البيضاء في الشمال الأوروبي تكون ساعات الليل قليلة، إذ تصل احيانا الى حدود اربع ساعات ونصف، بينما اليوم صائفا، وطويلا، ومع ذلك فالحرارة لا تتجاوز حدود 25 الى 30 درجة، لذلك قضيت ساعات منتصف النهار على الشاطئ .
وبينما أنا مستغرق في القراءة، سمعت طرقا خفيفا متسارعا على الباب، فذهبت متباطئا مستغربا من الزائر، أخمن في الزميل الذي يأتي في زيارة ليلية هذا الوقت من دون موعد، فتحت الباب الداخلي للمنزل، وتركت الباب الخارجي مغلقا، فنظرت من مرآته لعلي تبين وجه أحد ما، كان الضوء مطفأا، والممر الخارجي مظلما، وقفت في انتظار أن يعيد الطارق لعبة أصابعه على زر الجرس التي كررها في أول مرة، ثم استأنف الطرق، فقلت: من؟
قالت: إذا كنت تريد ان تعرفني، افتح الباب لنتحدث معك قليلا، صحيح إنه وقت غير مناسب للزيارة.
الكاتب: عليك أن تعرفي بنفسك، من اجل ان اتخذ قرارا في الموضوع .
قالت: إذا كنت غير راغب في المقابلة بداع الوقت المتأخر، فلنتكلم على الهاتف الذكي.
الكاتب: احسنت، فلنتكلم هاتفيا، سجلي الرقم التالي:
(............)، وامسحي بالحبر السري على الارقام، فستظهر لك على التوالي ـ قلت في نفسي لعلي سمعت هذا الصوت من قبل ـ
قالـت: بعد التحية المسائية، أنا معزة الزعيم التاريخي "غاندي"، وقد تجشمت عناء زيارة الكاتب الذي رافقني في رحلتي التي كتب عنها خلال تجوالي في احياء عاصمة بلاده انواكشوط، ألم تكن أنت، هو صاحب الحلم الأثيري؟
الكاتب: نعم، أنا هو، مرحبا بك، لكن ماذا أتى بك في هذا الوقت من شبه القارة الهندية، أيتها المعزة المضحية بوقتك على الاقل؟
المعزة: لعلك من الكتاب الذين لا ينامون ليلا، وان ناموا، فينتقل نشاطكم الفكري الى احلام تتساوق مع طروحاتهم الفكرية الوطنية( مقاطعة)
الكاتب: اتقصدين الاشارة الى المشروع الوطني، والتحرري، و النهضوي للزعيم الراحل " غاندي"؟
المعزة: هذا الذي قصدت من هذه الزيارة، وهو موضوع حديثي معك الليلة، وقد يكون حديثنا في في حوار مفتوح معك في اوقات اخرى لو تسمح لي بذلك.
الكاتب: لا مانع عندي، لكن كيف تستطيعين ان تقنعي قراء المواقع الموريتانية من حيث قدرتك الرائعة هذه على الكلام، وأنت من فصيلة الماعز، ومن جنس الاغنام، ونوع الحيوان الذي ليس بمقدوره تجاوز الحركة الغريزية نحو الأكل، والتناسل قبل ان تمتد اليه يد الإنسان بنهمه، وشراهته، وشهيته المفتوحة لالتهام ها بقضها، وقضيضها.. وإياك من مجتمعي فهو من آكلة لحوم الاغنام التي يفضلونها على الاسماك، وعلى أي لحم طير مما يشتهى.؟
أما عن الخواص الانسانية، فاين لك بالنطق، والضحك على الذقون ما دمت سياسية، وتعملين على تنوير الرأي العام الوطني، واطلاعه على المشروع النهضوي ل" غاندي" بفاصل 72 سنة بعد اغتياله، فضلا عما يحتاجه الأمرمن التنظير لأصلاح النظم الاجتماعية، والادارية، ومواجهة آثار الفساد، والمحاكم الوطنية والدولية لاستعادة الثروات الوطنية من ايدي المفسدين، ولعل من الصعب عليك التنظير في التدبير السياسي، كالحكامة، والاستقلال الوطني، والتحرر من التبعية التي جرت ـ بتضعيف الراء ـ معظم ما في المجتمع، والوطن من ثروات الى مجتمعات ما وراء البحار، وكذلك ما في شواطئنا الغنية بالاسماك، وزادت التبعية على ذلك تهيئتها للظروف المساعدة، كاختلاق القلاقل السياسية في سبيل التمكين من المجرور الجديد، واقصد بذلك الغاز المسال عبر الانابيب ـ لقربه من القارة العجوزـ سواء منه الخاص بنا، المكتشف في الشواطئ بين العاصمة انواكشوط، وانواذيبو، أم المشترك مع الأخت العزيزة السنيغال، وإن كانت صديقة ل(جارنا) ـ على رأيه ـ ورغم ذلك، فهو أعزعلينا من أختنا، وهذا من الاخطاء التي تجب مراجعتها، فنظرنا اليها ـ خطأا ـ كما لو أنها واحدة من نون النسوة في فترة الولادة التي لا يفضلها العرب في موروثهم الاجتماعي، بينما كان غرام الجار لأختنا مفسدا للود الأخوي معه، وربما كان ذلك بسبب تصريحه عن حبه الوقح، على طريقة مجنون ليلى في عشقه الذي أضاع عليه، وعلى محبوبته فيما كانا، يطمحان اليه من ( التقارب) مع بعضهما البعض، وجمع الشمل،،
ونظرا لمواضعات العرب المتوارثة، فقد امتنعت القبائل المغاربية في المغرب العربي عن زواج الجار المغاربي بالاخت سينغال، ولو كان زواجا مؤقتا في تلميحاته، لأنه على حساب الشقيق..!
المعزة: أظن أنك استطردت في مواضيع عديدة، شغلت تفكيري عن الاجابة على سؤالك المهم.
الكاتب: تفضلي بالاجابة لو سمحت على سؤالي: كيف تسنى لحضرة " المعزة" يومئذ ذلك الحديث الجريء، والاجراء العملي اللذين واجهت بهما رموز الفساد في بلادي، وكانت مواجهتك ممتعة، وقد ساعدتك خصائصك التعجيزية، وإن حصل تعب التجوال في أحياء العاصمة انواكشوط، ثم إن حديثك الآن معي بهذه الطلاقة بسان عربي فصيح، لهو مفخرة لبني جنسك من الاغنام على سائر النوع الحيواني؟!
المعزة: وأزيدك ـ على قدرتي على النطق، والرد على سؤالك ـ من الشعر بيتا، ( مالي لا اقول ولي لسان.. وقد نطق الزمان بلا لسان).
الكاتب: يا سلام، لقد اخرست سامعك بهذا الشعر الحكمي، لكن هل سيبقى منطقك الاقناعي أحاديا، واقصد بذلك، ان تنزلي من حين لآخرمن عالمك الروحاني( الحيواني ـ بلا مؤاخذة)، وتجمعين المواطنين لاستحلاب ضرعك؟
المعزة: لا، طبعا، وسيكون لكل مناسبة اسلوبها، رغم استعدادي للتضحية في سبيل اقامة مشروع وطني في بلادكم، لذلك لا اضن بلبني، تيمنا بما قال ابن صريم التغلبي ( رئمان أنف اذا ما ضن باللبن .. )
الكاتب: انه استعداد ملفت للنظر، واكثر من ذلك اسلوبك في الاقناع الذي تسحرين به السامع، ولا شك أنه سيكون مؤثرا على القراء نظرا لحلاوة اللسان العربي، واستحضارك لشيطان الشعر، لكن ربما ستكون أمامك مشكلة عويصة، سأسألك لأرى موقفك منها ( مقاطعة)
المعزة: اعرف انك تقصد بذلك ما يواجهنا من تحديات ذاتية من جهة، طابع الجدية في مواضيعك، وما قد يؤثرعليها من حضور معزة، لا تفتح شهية ذهنية للتفاعل معها في النقاش السياسي، بل الشهية نحوها، إما لشرب لبنها، أو ذبحها، وأكل لحمها، ولعل هذا قد يسبب ابتعاد جمهور القراء عن كتاباتك الحداثية التي لابد أن تتميز باسلوبها ومضمونها، غير أن الأمر يتطلب ادخال هذا الاسلوب الحواري الطريف الذي، ستكشف جاذبيته طالما اقتنعت به، تجاوزا لموقفك الذي يمكن أن ألخصه في قول الشاعر:( مالي أشايع غزالا له عنق،،، كعنق الدو، إن ولى، وإن مثلا !)
الكاتب: المعزة المحترمة، إن كلامك جميل، ولكنه غير معقول الى حد ما، لأنك تعرفين أن الحيوان من النوع، وتحديدا من فصيلة الاغنام، التي شهيتها مفتوحة على الأكل، والصياح إما للأكل. وإما للاتحاق بقطيع من الفصيلة، وذلك للألفة الدائمة في وسطها، وبيت القصيد، بله نقطة الاحراج في المجتمع الذي سيقتنع أفراده بالحوارات السياسية، والتفاعل مع افكارك النهضوية التي اجملتها في مشروع الزعيم الراحل " غاندي"، وينبغي أن تعرف المعزة صاحبة المشروع السياسي التحرري، أن مجتمعنا، يحترم الزعيم التاريخي للهند في شخصه، ومجتمعه، ودولته الحديثة، ومشروعه النهضوي، ونعرف نحن الموريتانيين، والعرب عموما أن بسبب اغتيال" غاندي" كان لتجنيب بلاده الحروب الاهلية، وهو ما فسره بعض المتعصبين على أساس تعاطفه ـ غاندي ـ مع المسلمين سواء منهم الذين استقلوا بدولة عن الهند، أم الذين بقوا في ظل الحكم الهندي،، لكن تلك العاطفة، واحترام الزعامات التاريخية المعاصرة، لا تساوي ذرة رمل عند الكثير منا، احرى ان تتمكني أنت باحداث تعديل في ولاءات مواطنينا الموزعة بين الخضوع الأعمى للمشايخ القبلية، بما فيهم رموز الطرق المذهبية الذين استعادوا الحكم السياسي في محاولتين ناجحتين، فصلت بينهما سنوات "العشرية" المظلومة مسكينة من طرف رؤساء القبائل بأوسمتهم العسكرية، والقابهم الرئاسية، وبالتالي فكل قبيلة حكمت تلعن أختها خلال ستين عاما. أما رؤساء القبائل الآخرى، كانوا يتسابقون ليكونوا أعوانا ومساعدين للأنظمة في تاريخ التحاقهم بالقوافل اينما كان اتجاهها، وفي مرحلة ظهور حركات التحرر العربي، كانوا هم يرفعون على هامات رؤوسهم طاقية " الكميان" ـ بالحسانية ـ ، وذلك في سبيل جمع " العشر" للمحتل الفرنسي خلال الخمسين سنة الاولى من القرن الماضي، ثم تناسلوا: كالفأر النرويجي، وذلك لإيجاد مترجمين مؤتمنين، ولما قام النظام السياسي غداة الاستقلال ، اصبح ابناء شيوخ القبائل هم الوزراء في النظام السياسي، ومواليهم اداريين، وعناصر وطنية في الجيش، والشرطة، والدرك، والجمارك، حرس الحدود البرية، والموانئ البحرية.
وحين انهزم الجيش، وتولى الأدبار، كان من الطبيعي أن يظهر في عرض مسرحي، ويحتمى من العدو في ردهات القصر الرئاسي، ويشكل حكما عسكري المضمون، مدني الشكل الخارجي الذي تحالف مع ذراري رؤساء القبائل من الرعيل الثاني، والثالث، ليتوزعوا، كالطحالب بين نظام الحكم، والمعارضة، التي شكلت أحزابا قبلية، وجهوية، وتعاطفت مع الجمعيات التي اجتذبت الأنظار إليها باللون القزحي الاستثنائي، وابتساماته الذاتية، والمجتمعية، وتألقه في الأفق الخارجي، حتى ما وراء البحر في سماء إحدى المدن اسويسرية، حيث قام الشبح الهلامي بالتعريض بنظام حكمنا أمام الجمعيات التبشيرية التي كانت توجهاتها واضحة في حرق الكتب الدين الاسلامي، ولم لا؟ وهو الذي يتلقى التعليمات من السفارة الصهيونية في عاصمة السينغال، ومن سيدة السفارة الأمريكية في عاصمة بلادنا..!
ولعل هذه الاوضاع ، هي التي أثارت الحساد على بلادنا ، لجمالية تلك الألوان القزحية الغرائبية، وقدرتها على تمييع الوعي العام، والخاص معا( مقاطعة)
المعزة: إن الامور التي تطرقت اليها في الحديث، تجعل المخلصين لأوطانهم، والاصلاحيين واتباعهم مثلي، مطالبين بفتح حوار فكري، ايديولوجي، وليس سياسي ساذج، كالذي قصد به تضييع الوقت، وتأجيل الاصلاح الى وقت غير مسمى ..
واعطي مثالا من الهند، فهي بلاد القوميات العديدة، والديانات الطبيعية، والالهية، وهي مركز اللغات المئينية التي تنطق يوميا في الهند، وقد انسجم الجميع وتفاعل مع المشروع الوطني لغاندي، ولم يحدث التراجع عن منطلقاته الفكرية.
أما اوضاع بلادكم، فهي الآن ربما في حالة الهدوء، وقد تعودتم على العواصف، لكن الرملية، ولعل تلافي المشاكل الاجتماعية، والثافية، والسياسية، والحضارية، يكون بالحلول العملية، ويساعد عليها تقديم الرؤى الواضحة في طرح القضايا العامة، وتقديم الحلول العملية لها، وفي تقديري الخاص أن الأمر، يستدعي تعديل القناعات، فحسب، وذلك لفهم مشاكل مجتمعكم الذي يشكل نسبة، لا تتجاوز كثافة حي واحد من الاحياء في العاصمة " نيودلهي"، والمدن الهندية الكبري، وليس معنى ذلك أني ابسط الامور بطرح ساذج، ك" معزة"، بل الأمر يحتاج الى تفكير موضوعي، نظري، وسياسي عملي..
ولا بد ان يؤسس لذلك بحوار مفتوح على وسائل الإعلام الرسمي، والمواقع الافتراضية، ووسائط التواصل الاجتماعي، ومن جهتي (( أبت شفتاي اليوم الا تكلما)) على حد تعبير الشنفري..!
الكاتب: عجبت من أمرك، من جهة وضوح الرؤية، والاستعداد للحوارات الفكرية، واكثر من ذلك استعدادك للنقاشات السياسية، ثم تنقلك من بلاد العجائب التي طالما تفاعلت مع مجتمعاتنا العربية، وتبادلت التجارة معها منذ القدم، كالتوابل، والجواهر، وحديثا وصل الى بلادنا نماذج مغايرة في ثقافتكم المختزلة في الأفلام التي تروج للاغاني، والمناظر الطبيعية الجميلة، والألعاب السحرية، ولكن ذلك لم يكن كل ما عرفناه عن الهند، فقد كانت مواقف حكوماتها الوطنية مساعدة لنا نحن العرب في مواجهة السياسات الاستعمارية في المحافل الدولية،،
واليوم تتطلعين، أنت ـ المعزة الهندية ـ لتشاركينا في بناء رؤية اصلاحية سياسية، كترياق لحل مشاكلنا( مقاطعة)
المعزة: إن المجتمعات النامية اليوم، تواجه تحديات، تكاد تكون مشتركة وهي تهدد مستقبل المجتمعات الانسانية في "القرية الكونية"، وأي اختلال في أي منها، سيؤثر على موازين القوة الدولية، لذلك الرؤية الانسانية، هي مشروع يهدف للمساعدة، والتحفيز على مواجهة قضاياكم الوطنية، ولا تتناقض اطلاقا مع رؤيتك القومية، وأقول مقتبسة من الشاعر القديم (( فغض الطرف إنك من نمير.. فلا كعبا بلغت، ولا كلابا )).
وسؤالي لك، هو: لماذا ضاق وعيك في الواقع، عن وعيك في الاحلام، ومرافقتي في رحلتي السابقة؟!
الكاتب: جوابي على السؤال، يتعلق بمدى تفاعل القراء مع هذا الحوار، والذي سبقه في رحلتك، وكان حضورك ملفتا، ليس لكونك، ولأول مرة تكلمين مجتمعنا، كمعزة، وهذه ظاهرة فريدة، بل لأن الجمهور الذي حضر، لاستحتلابك ليس إلا.
ولعلك لا تتضايقين مني اذا قلت صراحة، أن الخطاب السياسي اليوم في مجتمعات القرية الكونية، يختلف عن مجتمع" كليلة ودمنة" في نسختيها الهندية، والعربية معا، كما أن المجتمع العربي، ومنه الموريتاني، لا يلقي بالا لكتاب يصطحبون الحيوانات، ويحاورونهم، كما فعل توفيق الحكيم مع حماره في ثلاثينيات القرن الماضي، ومع ذلك، سنجرب في هذا الحوار، وسأعطيك موقفي النهائي بعد الاطلاع على آراء القراء لا حقا، وتصبحين على خير.
المعزة: تحياتي لك، ولقراء المواقع الموريتانية التي تنشر مقالاتك فيها، ولعلي من الآن سأحاول قراءة مقالات كتابها للاستفادة، والتفاعل معهم .