قد يبدو هذا العنوان للقارئ - للوهلة الأولى- عنوانا فلسفيا غامضا مجنحا ومجردا ، بيد أنه فى الحقيقة جملة دالة وتعبير مكثف عن خلاصة استقراء واقعي واستنتاج ميداني لبعض ممارسات وأنماط السلوك الإداري والتسييري الذى يحكم علاقة الرؤساء بمرؤوسيهم والمسيرين بمؤسساتهم فى هذا المنكب البرزخي القصي ؛ المتحرر - فى الغالب - من الأعراف الجامعة والمنفلت من القوانين الناظمة للدول والكيانات ، حيث تصبح الأمزجة والأهواء الذاتية والميول والنزعات الفردية هي الفيصل والمرجع الوحيد الذى يوجه العمل ويحكم القرار ، فى ظل غياب تام وخرق سافر لقواعد وضوابط التسيير الإداري المؤسسي ذى التقاليد الراسخة المنبثقة من رحم القانون والمجسدة لروح النظام.
ولايغيب عن الأذهان والأفهام أن من آكد دلالات وخصائص النظام ؛ التكامل والتناغم والانسجام والعمل المؤسسي وخدمة الصالح العام ، ممايقتضى القطيعة الكلية مع القنوات التقليدية والممارسات الفردية المزاجية ؛ المناقضة لقيم وأسس الدولة المدنية العصرية ، وتأسيسا على هذا الطرح يتعين استلهام ماهية ووظائف النظام السياسي بوصفه : " عناصر مجتمعية متفاعلة فيما بينها وفق نمط سياسي وقانوني معين ؛ في بيئة محلية وإقليمية وعالمية ، من خلال مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية ، لتحقيق أهداف تنموية وأمنية ؛ قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى ".
وتستدعى اللحظة الراهنة من التاريخ السياسي المعاصر لبلدنا ضرورة التشبث بهذه المعاني ، والاستئناس بها فى منهج الحكامة وفلسفة التسيير ، بعيدا عن المهاترات العبثية والمناكفات العدمية والصراعات الشخصية المستحكمة فى سلوك بعض النخب المؤتمنة على تسيير وتدبير مصالح البلاد والعباد ، لاسيما أن الشروط الموضوعية متوفرة والصلاحيات الضرورية ممنوحة ، فلاعذر اليوم لمقصر أو عاجز ، ولامندوحة عن الصرامة مع مضيعى الأمانة ؛ المنشغلين بالخصومات والصراع عن العطاء والأداء والإبداع.
تحتاج المرحلة إلى تفعيل المصادر البشرية الحكومية ورفدها بدماء شبابية ، تتمتع بكفاءة عالية قادرة على الإنجاز والتخطيط والتفكير ، كماتحتاج إلى خطاب سياسي مستنير وإعلام مهني قوي ؛ يجسدان أصالة التصورات ورصانة المقاربات فى هذه اللحظة المفصلية التى تواجهنا فيها تحديات جوهرية ؛ أمنية وتنموية - إقليمية ودولية ، وتنتظرنا أجندات سياسية واستحقاقات انتخابية ، تستدعى إلى جانب حصافة القرار ووضوح الرؤية والخيار ، ضرورة تضافر الأدوار بين أذرع وأجهزة الدولة التنفيذية والسياسية والإعلامية.
وفى هذا السياق نتطلع إلى أن يسفر مؤتمر الحزب المرتقب عن إحداث تغيير جذري فى قيادته ومساره واستراتيجياته ؛ من خلال اختيار طاقم جديد يمتلك عمقا فى الرؤية ودقة فى التصور وشمولية فى الطرح وقدرة على النصح ، تعضدها فصاحة فى المقال وحصافة فى السجال وحنكة وحكمة فى الحجاج والجدال ، بغية تدارك الموقف ورأب الصدع ورتق الفتق وترتيب البيت الداخلي ، وتبنى أجندة واضحة وصياغة استراتيجية إعلامية ترقى إلى مستوى التأثير في المواطنين ، وتشكيل أرضية صلبة لمواكبة السياسات التنموية ومؤازرة العمل الحكومي.
ويبقى الشباب مدعوا فى هذه المرحلة للمشاركة بقوة فى عملية التغيير المجتمعي والتشكل الحزبي ، من خلال الانخراط الفعال فى العمل السياسي الجاد والإنجاز التنموي الواعد ؛ تصورا وتخطيطا وتنفيذا ، لأن البلد بحاجة إلى طموح الشباب المندفع نحو التغيير ، ورغبته الجامحة فى جودة الحكامة وحسن التسيير ؛ فمشاركته فى قضايا الشأن العام وصناعة القرار والتخطيط والاستشراف ، وجهود التنمية والعملية السياسية باتت ضرورة ملحة ؛ بوصفه المكونة الاجتماعية المهيأة ديموغرافيا وإديولوجيا والجاهزة ذهنيا وفيزيولوجيا ؛ لتشبثه بمبادئ الفتوة والاستقامة والقوة ، وتمثله لقيم البذل والعطاء والتضحية التى تشكل وقود النجاح.
تحتاج الحكومة إلى ذراع سياسي فعال ورافعة حزبية صلبة تتمتع برؤية استشرافية وقدرة على التخطيط والتفكير الاستراتيجي الخلاق ، فضلا عن الحاجة الماسة إلى مشهد إعلامي وطني بحجم المرحلة ومقاسها ، يعكس قيمها وخطابها ويسوده التناغم والانسجام وعلاقات التكامل والتفاعل ، لاعلاقات الإقصاء والإلغاء!..وبهذا الثالوث نستطيع الوثوب من جديد والعبور الآمن بسفينة البلد إلى بر الأمان قبل فوات الأوان ، من أجل تنمية الإنسان وتأمين الأوطان ؛ عبر صياغة خطاب سياسي عميق وعقلاني ، وصناعة محتوى إعلامي مؤثر وقوي ؛ يدعمان قضايانا الوطنية الكبرى ، ويعضدان مسيرتنا التنموية ويعززان لحمتنا الاجتماعية ؛ سبيلا إلى إرساء نظام سياسي معاصر وبناء مجتمع حداثي مغاير ، تغيب فيه الذوات وتحضر المؤسسات.