ولعل السؤال يطرح نفسه على المراقبين، والمتابعين للشأن السياسي العام في بلادنا، وقد يختلف التساؤل من مراقب لآخر، فمثلي كباحث اجتماعي، اتجنب الأسئلة من النوع السابق نظرا لما تحمله لغة السؤال من انكار للظاهرة، كما يرى البعض ، وهذا يتناقض مع النظرة الموضوعية للظواهر على أساس، أنها إما موجودة، أو غير موجودة. أما تصورها على اساس الوجود الممكن، فهو من قبيل "الثالث المرفوع" ، ولا يمكن دراسة الظواهر الا إذا كانت موجودة فعلا،، ويحصل يقين حول الاعتراف بوجودها..
لذلك اطرح السؤال في إطار الأشكال البحثي، على أن هناك ظاهرة ما، تسمى الحراك السياسي، ومن اجل ذلك ينبغي تعديل الأشكال كما يلي: إذا كان في بلادنا حراك سياسي، فما هي مظاهره الفاعلة، او المنفعلة، أو اعراضه غير القابلة للتفعيل؟
وعندما يطالب اكبر مسئول في وزارة الداخلية بالأمس من ممثلي الاحزاب السياسية للحضور، فإن ذلك انما يعبر عن التفاعل الرسمي مع قوى الحراك السياسي، ومحاولة تفعيل دورها سياسيا قبيل الانتخابات المزمعة في المستقبل القريب..
والسؤال الموضوعي، هو: ما دور الحراك السياسي في اقطار الوطن العربي، ومن ضمنها دور الحراك السياسي في موريتانيا منذ الاستقلالات السياسية خلال الخمسين سنة الأخيرة من القرن الماضي، وحتى الآن؟
ولعل التعريف المختصر للحراك السياسي، هو: انه مختلف القوى السياسية المدنية التي طالبت بالاستقلال السياسي من المستعمر في فترة ما قبل الاستقلالات، وغداة الاستقلالات، شكلت احزابا مدنية للدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية، وساعدت الانظمة الوطنية، حيث شكلت الاستقلالات الوطنية ظاهرات متباينة من حيث التوعية السياسية، والسيادة الوطنية، واحياء المشاريع الثقافية، وتحديث المجتمعات، وتمدينها، ومأسسة التحولات الحضارية..
ومن هنا تباينت الأدوار للحركات السياسية التي عبرت عن وعيها الوطني في إطار ما سمي بحركات التحرر الوطني، كحركات التحرر في اقطار المغرب العربي التي خاضت معارك، وصدامات مع القوى العسكرية للمحتل الفرنسي، كالذي حصل في المغرب، وكاد أن يحيي مشروع ثورة المغرب في شماله التي قادها المرحوم عبد الكريم الخطابي في ثلاثينيات القرن الماضي، وكذلك حصلت صدامات في تونس مع المحتل الفرنسي.
بينما الذي حصل في الجزائر، كان أعلى درجة من الصدام السابق في بعض المدن الكبر ى في كل من تونس والمغرب،، ففي الجزائر، كانت الثورة التي شارك فيها كل الشعب، وكانت التضحيات اكبر جسامة من حيث تعداد الضحايا التي وصلت إلى ست وأربعين الف مواطن في المدينة الواحدة..!
بينما في موريتانيا، ظهرت حركة النهضة، وحملت السلاح، قبل الاستقلال الوطني، وقامت بمحاولات أولية لحرب العصابات في نواحي مدينة اطار، وحصلت مواجهات مشرفة،، ولم تتراجع الخلايا العسكرية لحزب النهضة عن المواجهة العسكرية، حتى بعد الاستقلال، إذ قامت بما عرف ب "عمارت النعمة"، وقتلت افرادا من الحامية الفرنسية..
غير أن فرنسا طاردت القيادات السياسية للنهضة قبل الاستقلال، وبعده، ليملأ النظام السياسي حديث العهد، الفراغ السياسي، وهذا الذي حصل ضمن التفاهمات التي ترجمتها كلمة السر بالموافقة ب"نعم" في الصندوق الانتخابي..
وبعد إقصاء القيادي" بوياكي ولد عابدين" وافشال محاولته لتكوين حزب سياسي معارض، وتعديل الدستور لمنعه من تكوين معارضة تحت الحماية القانونية.
بدأ مسلسل الحزب الحاكم، وتعددت اسماؤه من حزب الشعب إلى الهياكل، و الجمهوري، والاتحادي المعدل في نسخته الجديدة تحت اسم "الانصاف"، المعلن عنه في هذا الاسبوع،،
لقد كانت الاحزاب الأخيرة بنظام حكمها " العسكر- مدني"، تشكل توليفة مركبة منسجمة من حيث الطلعات قصيرة النظر، وجاءت كاقتراح فرنسي تحت مظلة التعددية الحزبية، وشرعنتها مرتبطة بحماية فرنسا للنظام منذ تتويج قائد الجيوش الفرنسية للانقلاب في العام ١٩٨٤م.
واليوم تشهد موريتانيا تعدادا حزبيا، وصل مائة حزب،، لكن السؤال عن مدى الجدية في تبني واحد منها لمشروع الدفاع عن الحقوق المدنية، والسياسية للمواطن الموريتاني، بينما القاسم المشترك في برامج تلك الأحزاب هو: الوعي القبلي، والجهوي، الموضحين للميول، والاتجاهات الرافضة للنظام الجمهوري، وتحديث المجتمع، رغم التفاعل المشترك بين النظام السياس، وتلك الاحزاب، لأنها في رؤاها، وبقادتها، وجمهورها، تسعى جاهزة للمحافظة على النظام القبلي، والتكتلات المناطقية، وذلك لفرض مظاهر الوعي، والتخلف، والتفكك الاجتماعي القبلي، والجهوي..
وهل يعي على النظام السياسي الجمهوري ذلك، وهو الذي يرفع طاقية الحداثة على هامته بانتماء قادته للمؤسسة العسكرية الحديثة،، وبتبني طروحات النظام السياسي المدني، والتشريع الدستوري الذي شرعن التعددية السياسية بعد غياب "بوياكي"صاحب المشروع المدني التغييري الذي كان من المؤمل أن يقود مشروعه الى تأسيس حراك سياسي بعوي وطني للدفاع عن كل الوطن واستقلاله، والمواطن في حقوقه المدنية، وهو ما رفضته فرنسا، ونظام الحكم في بلادنا في ستينيات القرن الماضي..؟
إن الإجابة على التساؤل السابق عن دور الحراك السياسي، ومدلولاته الغائبة، فيما تجسده الاحزاب التابعة للرموز القبلية والمناطقية بما في ذلك الهدف من ايجادها، إن على مستوى قادتها، أم على مستوى المشرعن لها لحاجة في نفس أنظمة الحكم المختلفة منذ المسلسل الانتخابي في تسعينيات القرن الماضي..!
وذلك أن معظم رؤساء الاحزاب لا يعرف اسماءها الا الوزارة الداخلية،، ولا يسمع عن هذا التعداد الحزبي المئيني(١٠٠)، الا في فترة مواسم الانتخابات...
وفارق القياس بين هذه الاحزاب وغيرها من الاحزاب في المجتمعات الاخرى، هو أن في الاخيرة نخبا مثقفة، تسمى احيانا " الطليعة" الثورية، نظرا لتبنيها مشاريع سياسية، توعوية، و تغييرية للعقليات، والبنيات الاجتماعية المتخلفة، كما في مجتمعاتنا العربية والافريقية..
اما في المجتمعات المتقدمة، فالنخبة السياسية باحزابها، هي الشريك للنظام من جهة المراقبة لمجالات التسيير، ولتحسين الاداء، والمنافسة للدفاع عن الحقوق،، واكثر من ذلك الاجماع على تبني الثوابت الوطنية، وحمايتها، وتجنيد وعي المواطن، وخلق رأي عام، وذلك في سبيل حماية المشروع الوطني،،
فهل التزمت قوى الاحزاب السياسية القبلية في بلادنا بالثوابت الوطنية، كحماية الوحدات الاجتماعية، والترابية، والنظام الجمهوري، والتداول السلمي للسلطة،، او اننا نرى العكس، حين يلاحظ الدفاع حد الاستماتة لتقويض النظام الجمهوري، واحياء النظام القبلي، والجمعيات السكانية في العوازل، وتقويض أواصر الوحدة الاجتماعية بالوعي العرقي، الإثني، والوعي الرمادي، التبشيري التمسيحيي - المتصهين، والجهوي، والقبلي..
ولعل مظاهر السلوك اليومي لقادة الاحزاب وارتباطاتهم المشبوهة بالسفارات الأجنبية، وطوابير السياسيين، الوكلاء الجدد من رؤساء الجمعيات غير الحكومية، أمام مداخل سفارتي الامبرياليتين: الامريكية، والفرنسية، وكذلك تغطية الأنشطة السياسية للسفراء الأجانب في المواقع الافتراضية.. كلها اعراض على غياب الوعي الوطني، وإحتضار ما يمكن أن يطلق عليه بتحفظ، حراك سياسي وطني..
إن غياب النخبة السياسية، وموت الوعي الايديولوجي، ومطاردة قواه المثقفة، والتحفظ على اعطائها التراخيص لتأسيس أحزاب وطنية حداثية، وبالمقابل تقديم التسهيلات والعطاءات لشراء ولائها الذي لا يساوي شيئا، بما في ذلك التراخيص للاحزاب الموسمية المتخلفة،..
هو جانب من المسئولية التي تتحملها الانظمة المتعاقبة، وهذا يعبر عن القصور في النظر، لأن الوعي الايديولوجي، وعي وطني حداثي، يشاطر النظام الجمهوري الرؤية للتطور الاجتماعي، والسياسي، والسعى من اجل التقدم الاجتماعي، وتأطير الوعي العام بفكر يتجاوز الاشتراطات التي تراهن عليها قوى التخلف، والتفكك الاجتماعي، وذوي الانتماءات الفئوية الذين يسعون للانقضاض على النظام الجمهوري غير المسند بحراك سياسي وطني، حداثي، ،
وقد عبر الحراك السياسي في طبعته الرثة ممثلة في الاحزاب السياسية القبلية بما فيها الحزب الحاكم بقيادته السابقة لأحياء القلبية ورموزها، وبعث نظام الإمارة بعد موته منذ اكثر من قرن !
والسؤال الأهم، هو متى يتنبه النظام إلى خطورة التحالف مع الاحزاب القبلية، الأمر الذي يهدد مستقبل البلاد، وبالتالي ضرورة تجيبها الحروب الاهلية التي تقودها الميليشيات القبلية التي لا تتورع عن التحالف مع المتطرفين، وكذلك الجيوش الغربية التي تحاربها نهارا، وتتعشى معها ليلا في اناء واحد، وتسلمها السلاح للدفاع عن نفسها امام الجيوش الوطنية، حتى تسقط الانظمة، وتعم " الفوضى الخلاقة" لا قدر الله، كما حصل في ليبيا، والسودان، ودول الساحل الأخرى..؟!