منذ ما يناهز عقودا من القهر وتنكيل الإنسان بالإنسان، عندما سلب القائد الذي ظن الخلود فران على قلبه هواه حرية الشعب الضعيف، الذي تشبث بالحياة راضيا بالضيم مغلوبا على أمره، ولم تسعفه الأيام أن تراوده أفكار الحرية تلك الكلمة التي رسمت لنا في الصغر بغير وجهها فظننا أنها لا تعنينا وإنما تعني ذلك العصفور الذي يغرد في قفصه الصغير المرصع بالذهب،
والسجان يظنه يشجو بالأغاني، بينما هي أصوات الاستعطاف وبكاء الشوق الى الفضاء ونوم الهناء بين الأتراب. فرغم ما أعد السجان من زينة السجن لم تتوقف تغاريد الرحيل، ولما كبرنا طار العصفور بحريته ووجدنا أنفسنا في سجن كبير لا فرق سوى أنا لم نتكلم يوما ولم ننشد الرحيل ولم يرصع سجننا بالذهب ولم يقدم لنا الماء والغذاء .
ولكنها الأيام كعادتها لا تدوم وسنة الله في الظالمين هي الهلاك، فزلزلت أصوات الثوار كراسي البغاة وعصفت بهم نداءات الرحيل وبنادق المجاهدين ودماء الشهداء التي رسمت المشهد الجديد الذي مازالت غيومه متلبدة الى حين، فمتى يتضح هذا النور وينجلي عن أشعته الظلام الذي يعكره يبن الفينة والأخرى.
نعم تلبده دماء الأبرياء بجهل الجهلاء الذين لا يفهمون معنى التحرر، فاندفعوا في فوضاهم مشكلين عقبة أمام جني تلك الثمار العظيمة التي رامها الضعفاء و ازدرعتها أيادي الثوار منذ بدء تحرر الشعوب من بين أيدي صانعي أقفاصها.
أفكار راودتني أسالت الدمع وحركت شجون نفسي وأنا أراقب قمر "شنقيط" وأندب حال المسلمين في فلسطين ومصر وسوريا وليبيا واليمن والعراق ومينمار ومالي وأمتنا جمعاء، بعدما جف نبع التاريخ وذوت أغصانه التي أرسلت ورقا ذابلا ميتا لا حياة فيه، وها هي أمتنا الإسلامية أضحت كالباب المهدوم بين الماضي الذي كان قصرا وبين المستقبل الذي هو أنقاض ذالك القصر .
وما أكثر ما يرثى لها من مجد تليد ضائع، ينحدر الدمع عندما تمتد العين في كتاب التاريخ لتجول في مساحاته الشاسعة منذ نشأة الخلافة الإسلامية عندما ألفت الكتب وحفظ العلم وقدر العلماء وأعطي للضاد حقه حتى عرفه الغرب صاغرا وأيقن أن لا فلاح بلا معرفة مفردات لغته.
عندما أقيم العدل وتساوى الناس، الخادم بالسيد والإمام بالمأموم، لا فضل إلا في ميزان العمل الذي حث عليه الدين والقيم التي عرفها المسلم بعد بعثة رسوله الكريم الذي وطدها وأتمها ليخرج للناس تجسيد النبل حاضرا في أجساد وأرواح أمته التي رباها وأتم لها دينها وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها.
واليوم أين تعاليم الإسلام وأين المسلمون، أين شهامتهم وصولاتهم على أعداء أمتنا العظيمة، لقد حق لي نظم المراثي في بطولاتك وأبطالك ولو أني رثيتهم فردا فردا لطال بكائي وفاضت الأنهار من فيض دموعي. فأين غبت يا حضارة الإسلام والمجد والإباء، حضارة التنزيل والترتيل. رغم اختلاف المذاهب توحدت قلوب أبنائك على مر القرون ليركع العالم صاغرا تحت أحكامك، ويخاطب الخليفة المزن قائلا: أمطري فأنى كان ذالك سيصلني خراجك .
أبكيك بعدما انقلبت المفاهيم، وهمش الضاد في أذهان أبنائه وأعدائه. لاشيء بعدما كان كل شيء. أبكيك بعدما ملئت بغداد بأبناء العم سام. أبكيك على أنقاض دمشق التاريخ وأشلاء ابنائها وأنين جرحاها بعدما نكل بهم، هناك ينادون بكل أدوات النداء والصراخ والدموع والدماء والدمار بعدما سامهم فرعونهم الوبال وأسحم عليهم السماء .
فمتى يغني الفجر لهم لحن الأمل في غد بلا دخان، بعدما جار عليهم شتائهم وليلهم الطويل وهم يجلسون منتظرين حكم القضاء ليرحلوا خلف زمر الأطفال الذين يموتون كما يولدون على بساط الخوف عندما تدمدم الطائرات بأصواتها التي تدك منازلهم مخلفة أرقام الموتى.
مساكين أولئك الأبرياء يمضغون الخوف والجوع ليحيى ساسة الظلم، وليس لهم نصير سوى فتاة الأغنياء الممنون عليهم في ساحات التشهير. مساكين أبرياؤنا في كل مكان أضحوا غرقى في لجة الموت الرهيب ونحن نرقبهم بقلوبنا المتحجرة وهم يصرخون أين المسلمين.
فمتى تعتصمين بحبل الوصل والتكاتف يا أمتنا الحاضرة في أفعال الثائرين في جميع أرجائك، والميتة في قلوب جلاديهم و"بلطجيتهم" وشبيحتهم "وهنتاتتهم" وباقي أبنائك من عملاء الغرب المتربصين بمسار الثورات. أما آن للشتات أن يجتمع، أما آن للشعب أن يستجيب لنداء الاصلاح والحرية.
أما آن لك أن تهمسي في آذان أبنائك أن التشبث بالرغبات إنما هو باطل في حياتنا ووهما في قدر الفناء المحتوم. وأن الحياة بكل أفراحها وحلوها وسعادتها ونجاحها مدة قليلة لو اكتمل لنا فيها كل مبتغانا، فإن الموت آت والكرامة هي الميراث الأصلي لهم ولا خير في حياة يضيعون فيها ميراثهم.