إن العائق الأكبر أمام تلقي المعلومة العلمية والسبب الأبرز في الفشل المدرسي لكثير من أبنائنا هو العائق اللغوي, ولن ادخل في تفاصيل ذلك فقد بينته في مقالات عديدة. فلله الحمد والمنة أن الأمة بعد عشرين سنة من التيه الذي لا يمكن أن نفهم كيف أفضينا إليه وكيف مكثنا عقدين وزيادة, عادت إلى صوابها. للقائمين على هذا المشروع الشكر على التقيد بالإرادة الجامعة التي عبرت عنها مختلف مراحل المشاورات, كما أشكر الذين ساهموا معي في نشر المحاججات التي سعت لبلورة هذا الإجماع, وإخراج الأغلبية الصامتة عن صمتها, ورفد المدافعين عن إزالة العائق اللغوي بما يلزم من حجة, وأخص بالذكر هنا الأستاذين كريم الدين خليفة ومحمد الأمين الفغ.
إن التلاميذ أبناؤنا الذين سيحملون هذا الوطن على أكتافهم وإن ذلك يقتضي أن يدركوا أن الإنسان غاية العملية الإنتاجية ومحركها, وذالك يقتضي ترسيخ بنية ذهنية تخدم العمل والانضباط وتحمل المسؤولية. إن فلسفة الطفل المبجل لا تخدم الصرح التنموي, إذا لم يصحح البرلمان المقاربة التربوية لهذا القانون فإنه قد يثمر جيلا من المنتظرين يعتقدون أن لهم الحق في كل شيء قعودا في منازلهم, وأنهم إذا لم يحصلوا عليه فذلك لأن الآخرين فاشلون وفاسدون.
بدا النص متأثرا بالرؤية الفرنسية للمدرسة, ولهذه الرؤية خلفيتها وواقعها. فخلفيتها فلسفة الثورة الفرنسية المتأثرة بكتاب اميل لجانه جاك روسو وهي ثورة حريات وحقوق لها ما يبررها في وقتها وظروفها. وواقعها سيطرة اليسار على المؤسسة التربوية في فرنسا. وهي فلسفة لا تعطي العمل والانضباط وتحمل المسؤولية المكانة الضرورية. وتدفع فرنسا تنمويا ثمن هذه الرؤية إذا ما قارناها مع جارتها الشمالية الشرقية ألمانيا التي أخذ العمل والانضباط والتنظيم و تحمل المسؤولية مساحة أكبر في منظومتها التربوية. لا اعتقد أن القائمين على هذا النص قصدوا بالضرورة نقل الفلسفة التربوية الفرنسية, لكن ذلك ما نتج عن كثير من الفقرات التي تبدو مترجمة أو منقولة دون أن تُخضع لما يلزم من المراجعة المتعقلة.
مآخذي على مشروع القانون هذا تتمحور أساسا حول نقاط ثلاث, أرجو أن يصححها البرلمان عند مرور القانون بين يديه :
1. مكانة العمل
خلت التوطئة من كلمة عمل وإنتاج وعملية إنتاجية وكل ما يحمل هذا المعنى إلا في عبارة واحدة هي “أعمال تطوعية” وهي مفهوم أخلاقي. كما خلت الغايات من كلمة عمل. وقد بدت الغايات للأسف الشديد في مجملها مطاطية, شعاراتية غير قابلة للقياس. إن القيم والعلم والعواطف على أهميتها لا تضع لبنة تشييدية واحدة دون عمل, دون عمل كسبي إنتاجي. بصراحة في هذا النص لم يجد العمل المكانة التي يستحق, وهي مسألة غريبة في مجتمع نعلم أن الإتكالية والإنتظارية تشل تنميته. يجب أن يأخذ العمل مكانة الصدارة في التوطئة وفي الغابات. يجب أن نكون واقعيين, إن للتعليم كلفة وهي مقتطعة من العملية الإنتاجية, من عرق المنتجين بشكل أو بآخر, وأحد أهدافه الجوهرية هي تسليح الأفراد بالمعارف والخبرات والعقليات التي تهيئهم للمشاركة بفاعلية في خلق الثروة, وإن حجم تحسين أدائهم في العملية الإنتاجية يعكس فاعلة التعليم ويجب أن يكون ذلك واضحا –غير ضمني- لا غبار علية في الغايات, هذا بالإضافة إلى كون العمل قيمة أساسية من الناحية الأخلاقية, تجب تربية الأجيال جميعا عليها.
وردت في المادة 44 من القسم الرابع المخصص للتكوين التقني والمهني عبارة "ترقية العمل بوصفه قيمة كونية” إن قيمة العمل لا تقتصر على التكوين التقني والمهني بل هي شاملة للجميع, وأقترح أن تضاف للتوطئة عبارة “ترسيخ أهمية العمل بوصفه قيمة كونية وإسلامية, مطية الدنيا والآخرة” وأن تضاف إلى الغايات التي يسعى التعليم إلى تحقيقها عبارة “تسليح المتعلمين بالعقليات والمعارف والخبرات الضرورية لمشاركة فعالة في العملية الإنتاجية".
2. مكانة المدرس
المواد 12, 13 و14 تحتاج إلى إعادة صياغة بشكل يحدد بعض المفاهيم الفضفاضة, ويخفف من نبرة الوعيد للمدرس ويظهر احترامه, ويلزم المتعلم بالانضباط, ويحث أسرته على تربيته على ذلك, ويحضض على حماية المجتمع للمدرس وانتصاره له, لسنا بحاجة إلى مواد تنفر المتميزين من مهنة التدريس التي نعلم للأسف الشديد حجم جاذبيتها اليوم. صحيح أن المدرس خادم للعملية التربوية ولكن لكي يتمكن من خدمتها بشكل جيد يلزم أن يعامل كسيد, وصحيح أن التلميذ غاية العملية التربوية ولكن لكي تخدمه يجب أن يتقيد بالانضباط وأن يَقِر في قلبه تقدير مدرسيه والعرفان لهم بالجميل, ويجب أن تظهر النصوص ذلك لتخدم العملية التربوية. اعتقد أن استيراد فلسفة الطفل المدلل لا يتفق مع هويتنا الثقافية ولا يخدم أبناءنا ولن يسهم في نجاح العملية التربوية.
3. الانكليزية
كان اختيار لغتين أجنبيتين, هما الفرنسية والانكليزية, للتدريس, الأولى تبدأ من السنة الثانية من الابتدائية والثانية من السنة الأولى إعدادية خيارا موفقا. ما لم يكن موفقا ويجب أن يصححه البرلمان، هو تحديد الأولى والثانية. فالأوْلى أن نترك للأسر اختيار اللغة الأولى لأبنائهم. فمن اختار الانكليزية لغة أولى درسها من السنة الثانية ابتدائية ودرس الفرنسية من السنة الأولى إعدادية والعكس بالنسبة لمن اختار الفرنسية لغة أولى. إن الخريطة اللغوية العالمية معروفة للجميع, وقد أصبحت الانكليزية لغة النشر العلمي والتواصل عبر العالم, لا تنازعها في ذلك لغة, ولا يجادل في ذلك مجادل, ويكفي انحيازا للفرنسية مساواتها بالانكليزية في المعاملة التربوية, قد يكون ذلك صعبا للكثيرين لأسباب لا تخلو من وجاهة يمكن تفهمها, لكننا لسنا من رسم الخريطة اللغوية العالمية, ولا مناص من أن نتعامل مع الواقع بواقعية.
قبل أن أختم, من الغريب أن لا ترد كلمة انضباط في مشروع قانون تربوي, وأن ترد كلمة إنصاف ومشتقاتها أكثر من عشر مرات. خلعت تسمية حزب سياسي بهذا الاسم عن كلمة إنصاف ثوب الحياد, وتكرر هذه الكلمة بهذا الحجم يطبع القانون المؤطر للمنظومة التربوية بخلفية سياسية نحن في غنى عنها, ولعلها ليست إنصافا.