إنّ من ضـرورات وجود الدولة المُعاصرة _كإطـار ناظم لمُجمل الحياة الإجتماعية والسياسية والاقتصادية فيها _ دَمقرطتُها، بحيث تتجسدُ السلطة العامة في الشعب عن طريق المُـشاركة الفعّالة التي لا تتمثل إلا بالتكـامل والتعاون بين الحكومة من جهة والشعب من جهة أخرى ما يُشكل الضمانة المُثلى لتجسيد المصلحة العامة للبلد (اندرو هيود).
تكامل لا يُتحصّـل إلا بوعي تام من الطرفين بكل الإلتـزامات المُترتبة والحقوق المتاحة بقوة القانون.
والأصل أن تعمد الدولة بما لها من سُلطة فوقية وعين راعية مُتبصرة إلى تحقيق المسألة التربوية للمواطن التي هي بمثابة المُبرر الأنجع لوجودها وديمومتها.
يكون ذالك فقط بتهذيب عقليته وشحذ مَلكاته وتقويم سلوكه وتنشأته الأخلاقية، أفعال توجدُ بالعلم فقط والعلم تفرضه الدولة وتُـوّفره.
يتساءلُ آدم سميث، ألا يجبُ على الدولة إذاً أن تهتم بتعليم الشعب؟ ولكن بأي طريقة يصحُّ لها فعل ذلك؟! يـُتابع... في بعض الظروف من الضروري أن تتخذ الحُكومة بعض الإحتياطات لمنع انتشار الفساد والرشوة الشـاملة في هيئة الأمة.
فالشخـصُ الذي يقضي حياته في القيام بعدد قليل من العمليات البسيطة والتي قد لا تتغير نتائجها أبدا، لا يجدُ ما يدفعه لتطوير ذكائه ولا لإستخدام خياله في البحث عن ذرائع لتجنُب مشاكل لا يواجهها أبدا ولذالك فهو لا يفقه بشكل طبيعي عادة توسيع مجال ملكاته أو مجال تطبيقها، ويتحول بصفة عامة إلى أغبى وأجهل مخلوق يمكن تصور وجوده.
إن فتور ملكاته الأخلاقية لا يجعله فقط عاجزا عن تذوق أي حوار عقلاني ولا عن المُشاركة فيه، ولكن يجعله أيضا عاجزا عن الإحساس بأية عاطفة نبيلة وسخية وحنونة، وكنتيجة لذالك يعجزُ عن تكوين أي حُكم سليم شيئا مّا حول مُعظم الواجبات وحتى الواجبات العادية المتعلقة بالحياة الخاصة، أما بخصوص الاهتمامات الكُبرى والقضايا العظيمة في البلد فإنه بعيدا عنها كل البُعد .
هذا التضعيف كما يُسميه «عبد الله العـروي» تمتهنهُ الدولة الشمولية لتبقى بعيدة عن أي تشويش مُحتمل.
غير أن التّقارب والتماهي بين الدولة ومواطنيها يقلل من تفاقُم الأزمات ويحدُّ من طابع الكره والإنتقام، فتماسُك الدولة وقوتها يعودان إلى نجاح التقاء المصـالح الخاصة للأفراد مع المصلحة العامة للدولة، حيث يتمكن كل منهما من تحقيق رغبات الطّرف الآخر وتؤدي هذه الحـالة من الإنسجام إلى فترة ازدهار الدولة وتقدمها، كما يتصور «هيگل».
وبمفهوم المُخالفة فإن الهُوة التي تخلقها الدولة بينها والمُواطن تُؤثر عميقـا على العلاقة بين الطرفين، حتى في تعبيره عن تذمُّـره ورفضه لبعض سلوكيات الدولة يكون المواطن غيرُ عابئ بمثالية تصرفاته اتجاه هذه الأخيرة.
أزمة التفاهم هذه ألقت بسُدولها طويلا على الدولة الموريتانية وهي نتيجة حتمية لتراكم الممـارسة السياسية المترهلة التي كرستها الأنظمة المُتعاقبة والتي افتقدت دائما لرؤية قويمة عن تصور الدولة في معناها ومناطها وفي دورها الريادي ، فتحصّل من ذالك مواطنٌ غير عابئ بوجود الدولة ورموزها في عديد الحالات.
فالدولة كما يراها (شوبنهاور) ليست سوى كمامة الهدفُ منها جعل الإنسان، هذا الحيوان الضاري مُسالما وتحويله إلى حيوان عاشب.
لذا فإنه على الدولة ألا تكـون من الصغر حيثُ تفقدُ القدرة على حل المشاكل الكبرى، وإنما على قدر من العظمة بحيث لاتفقد القدرة على حل المشاكل الصُّـغرى التي في مُقدمتها تربية المُواطن (دانيال بيل).
إن تطور مفهوم الدولة خاصة على الصُّعد الاقتصادية المُواكبة لسيرورة الحداثة الكونية والتكنلوجية المُتطورة قادها إلى الإنتقال من مفهوم الدولة "المُتدخلة" إلى دولة "أكثر تدخلا" وهو ما يعبر عنه الاقتصاديين بمفهوم «الدولة الناظمة» التي تنطلق من مقاربتين أكثر نجاعة هما: "التحفيز _ التنظيم", بهدف خلق مواطن في غاية الكفاية الإنتاجية والاقتصادية.
وفي الدولة الإسلامية قديما فقد وجدت مقولة مُعاوية ابن ابي سُفيان رضي الله عنه: « لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ، قيل وكيف؟ قال : لأنهم إن مدوها خليتها وإن خلوها مددتها»، صدى حتى لدى منظري العُلوم السياسية في العصر الحديث، لما بها من عميق فهم وحسُن تعامل وتقارب بين السلطان ورعيّته.
علاقة مـايزالُ «جان جاك روسو » حريصـا على تأكيدها واعتبارها ضرورة فيما يعتبره "عقد اجتماعي" يؤطر لصيغة تشاركية غايتها حماية الدولة ومؤسساتها، يلتزم الطرفين بالتقيد به وحمايته.
ولمّا كانت قوة الدولة مُتـأتية من قوة المجتمع (المُواطن) فإن ضعفها وانهيارها يقعان كلما ضعُفت مؤسساتها وانحدر الوعي الإجتماعي فيها، فالدولة القويمـةُ هي بالضرورة دولة مؤسسية تسعى إلى التماهي بين القمة والقاعدة؛ بين السُّلطـة والشعب، يقع ذالك بإحترام القوانين والنُّـظم وثوابت الجمهورية، فتتكون من ذالك شخصية مواطنة مُتفهمة مُفعمـة بالوطنية وتغليب المصلحة العليا.
وغير ذلك يؤدي إلى ضعف هيبة الدولة ثُم إلى إفراز نُخب سياسية مُتحكمة وغير مؤهلة تسوق مسـار هذه الأخيرة، نحو تكريس المصلحة الشخصية وتقزيمـها لدى العامة من الشعب.