من ضمن ما ينهمل علينا يوميا في وطننا، من الأحداث والوقائع، وما تنثره صفحات وأصوات الإعلام، سمعت حديث رئيس الفريق البرلماني لحزب "الانصاف" عن ما سماه "نواب الصدفة" .. ورغم تشعبات الاهتمام الكبيرة، وصخب الأزمة السياسية والواقع المعاش عموما، فقد فتحت حالة "الصدفة" ودلالتها لدي الرغبة في التأمل في ما هو واقع منها!
لا أتحدث عن الصدفة هنا، بنسبة أحد أو جهة إليها، بل أشير إلى حالة الصدفة كقراءة عامة للواقع.
تعني الصدفة، في دلالتها العميقة حدوث الأشياء دون تخطيط أو توقع، وهي واقعية إذا كان بالإمكان التحكم في كل ما يحدث أو توقعه، وفق تخطيط عميق للتحكم في سير الأحداث، المفروض أن تكون أسس الدولة ودستورها وقوانينها ناظمة بشكل تلقائي ومتحكم في العقد الاجتماعي والميادين المدنية والسياسية، لكن واقع اللعبة غير المتوازنة وحالة الإفلات العامة، يجعل الحديث باستغراب عن الصدفة، ضرب من تجاهل جوانب وحيثيات أساسية من الواقع المعاش..
واقع "الصدفة" الذي نعيشها، عمره أكبر من الفترة الحالية والعشرية التي سبقتها، وربما بسنوات قبل ذلك، ولجت موريتانيا باب "الصدفة" منذ أمد وأشرفت مرات عديدة على التيه في عوالم المجهول، وترسخت "الصدفة" في كل شيء، وتعاطت الدولة والنخبة مع افتراضات ومواضيع تحمل من الهشاشة والانتهازية ما ينبئ عن ضعف التوقع والتماسك والتحكم ..
وفي الواقع، ليس هناك في الواقع، ما يحيل إلى قاعدة ثابتة في تسيير الشأن العام أو منطق سياسي أو أخلاقي يبعد "الصدفة"، ما لم ينتهي التيه وترسوا سفينة الوطن على الوطنية بكل أبعادها، ويصحو الشعب على دولة متماسكة وقوانين محترمة من الجميع، عندها ستعود "الصدفة" إلى موقعها خارج السياق ..
معطيات الواقع تكرس الصدفة في كل شيء، وعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك وزراء الصدفة، وموظفي الصدفة، ونواب الصدفة، وأحزاب وحركات الصدفة، والسبب هو حالة الارتباك العامة التي جعلت كل شيء صدفة..
ولتقريب الطرح، فسبب كل ذلك، هو معالجات السلطة والأنظمة، للإحداث الصدفة؛ بالتقبل وتعدي وتسهيل قوانين التماسك والتحكم في الدولة لمسايرة الأحداث الصدفة الموجهة من الداخل أو الخارج، في ما يعرف بالتنازلات ..
وكما يقال فإن تقديم التنازل عن الشأن المصيري يحيل إلى الارتهان دوما للتنازلات والإصغاء إلى الابتزاز والانتهازية، وبالطبع في حالات التنازل غير المحدودة، لاشك ستولد حالات كثيرة من الصدفة!
خلاصة، فإن معالجة الواقع المنفلت عموما، أو محاولة حصر الصدفة والظواهر غير المحسوبة، لا يمكن أن تنجح، الا اذا اتفى التساهل في القانون والتنازل على حساب الوطن وهيبة السلطة وصرامة الدولة وسيادتها، ولا تكون تلك الا الحفاظ على الهوية الواحدة للشعب وتحصين العقد الاجتماعي والتلاحم بين مكونات المجتمع، من خلال العودة الى أصالة وثاقة هذا الشعب، كل الشعب،
الشعب ليس الانتهازيين والشعب تربطه من الوشائج عبر قرون التاريخ وقيم القوية واللغة والدين ما يجعله عصيا على الفتن وأكثر وعيا في مواجهة الأخطار..
وعلى الدولة أن تفتح الحوار والحرية الفردية، وتنشر الوعي بكل القضايا والقوانين، بشكل شعبي مباشر دون وسائط، فالوسائط السياسية الانتهازية أكثر خطرا من وسائط التواصل الاجتماعي كلتاهما مبوءة وملوثة وغير أمينة.. حتى يعزز التماسك والتحكم وتنتهي "الصدفة"!