عندما يحل شهر مارس أحس بإشفاق على قضية المرأة العربية والإسلامية، نظرا لصعوبة صقل الذهنية الثقافية العامة، المشرعة لإقصاء ها وتكريس دونيتها...! وبما أن هذا الشهر في حقيقة أمره لا يعنينا في شيء، لأنه شهر المرأة الغربية بامتياز، ففيه نالت حريتها، فخلعت ثياب الذل والتهميش، ولبست الجديد، واحتفلت بعيدها ...!!.
ونحن المجتمعات العربية و الإسلامية مجرد مقلدين، بمنهج القاعدة الخلدونية، لكن – ورغم ذلك- فإننا نحتفل بهذه المناسبة، انطلاقا من عضويتنا الأممية، مما يجعلها بالنسبة لي كباحثة عن حيثيات التحرر، مناسبة بإمكانها أن تكون مسوغا لي في تخصيص قلمي كامل أيام هذا الشهر لإثارة تساؤلات، ونقاش إشكالات، تتعلق بطبيعة مسلكنا لدرب الدعاية التحررية، الذي ينادي بحرية المرأة وحصولها على الامتيازات، لكي تستعيد عضويتها كاملة في مهمتي: حمل الأمانة والاستخلاف في الأرض...
وعند استعادتنا لتلك العضوية المفقودة أو المعطلة سوف نلبس الجديد ونردد النشيد ، لكن قبل تحقيق هذا الحق الإنساني المشروع ، فإن الاحتفال في نظري نوع من تبرير الواقع ، فينبغي الاستغناء عنه بتوظيف هذه المناسبة للتأمل والاستشكال ، وإثارة أشياء تتعلق بكنه القضية وأبعادها المختلفة ، بعيدا عن الاستهلاك السياسي ، والاستعراضات الخطابية ...!!
وبما أننا امة خطابية قد أسست لها مختبرات لصناعة الكلمة وسجعها وشعرها قبل البعثة النبوية في سوق عكاظ ودومة الجندل، فإن القضية في نظري مازالت مجرد ترويج واستهلاك سياسي لا أكثر من ذلك.
وهذا ما أتذكره أكثر في غمرة استعراضات الثامن من مارس، فثقافتنا المتناقضة وقدرتنا على التكيف مع منهج المتناقضات، جعلت القضية تتيه في عتمة التخلف، وضبابية الانحطاط الثقافي والفكري، الذي عشناه واقعا منذ أكثر من ألف سنة من الزمن...
وهذا ما يستدعي وقفة إجلال لعهد النبوة: فجر الحرية والانعتاق، العهد الذي أخرج المرأة من أدران التخلف والإقصاء، إن المقام هنا يقتضي إثارة أشياء من عالم مختلف، أي تسليط الضوء على فترة البعثة النبوية، ومرحلة التاريخ الإسلامي في طور نقائه، تلك الفترة التي غيب دور المرأة فيها، لأن التاريخ كتب بعقلية رجالية متعصبة، فانطلقت من مبدا تجاهل دور نساء العهد النبوي، لكونهن نساء الحريم فقط، فتم بذلك حجب تلك التجربة النسائية، التي تجلت في مختلف مظاهر الحياة، في ذلك العهد المضيء من تاريخنا.
فعندما انطلقت رسالة الهدى ودين الحق بنداآت الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة، كان الإنسان الأول الذي اعتنق هذا الدين، وآزره ونصره امرأة هي : خديجة بنت خويلد، وعندما تعرض السلمون الأوائل للعذاب والمضايقة والتشريد والقتل، قدمت النساء أولى ضحايا هذا التعذيب: الشهيدة سمية أم آل ياسر...
وكن النساء هن أول المهاجرات الفارات بدينهن من طغيان الكفر وظلمه، وتواصلت المسيرة النسائية مع الإيمان الصادق، حيث لم يسجل التاريخ ارتداد النساء بعد إيمانهن، وكذلك خلوهن من عادة النفاق، تلك الظاهرتان اللتان اشرأبتا في صفوف السادة الرجال، كظاهرة تزامنت مع أتساع رقعة الإسلام.
فكان تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع النساء غاية في السمو والرقي، مما أعطى للمرأة دفعا وحضورا، متجاوزة بذلك الحدود الجاهلية بكليتها، لكن بمنهجية ربانية لا ظلم فيها ولا حيف...
وكان القرآن الكريم يتنزل من أجل تجسيد العدل والمساواة بين المرأة والرجل من جهة، وبين البشرية جمعا من جهة أخرى، أي القضاء على الطبقية، وإقصاء المرأة، فهذان المبدآن كانا أهم أساسيات الإسلام، وقد قال عمر بن الخطاب فيما يتعلق بالمرأة: "كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئا فلما جاء الإسلام وذكرهن القرآن فيما ذكر رأينا لهن علينا بذلك حق". فشاركت سيدات عهد النبوة في القتال، والهجرة والبيعة، كما كان لهن حضورهن في الشورى، مما أدى بعبد الحليم أبو شقة(معاصر) تأليف كتابه: "تحرير المرأة في عصر الرسالة" أراد من خلاله أن يصحح المفاهيم التي شابت النظرة للمرأة، ولكن ترسيخ الظلم الذي يستمد مناعته من التراث والتاريخ عندما تحولت مسيرة الإصلاح إلى مادة غير مفعلة، مع أتساع الحضارة الإسلامية ، وانتقال عاصمة الخلافة من المدينة المنورة إلى دمشق في عهد الدولة الأموية، وإشاعة الأقوال الإقصائية للمرأة، بفعل إحياء التراث الجاهلي، ودور الترجمة في التأثر بالثقافات الوافدة، التي كانت في معظمها تهين المرأة وتكرس دونيتها، إضافة إلى الابتعاد عن عهد النبوة ، فترة التأسيس الحضاري العادل.
فدخلت المرأة حظيرة الحريم واختفت معالمها الإنسانية، ودورها من حمل الأمانة ومهمة الاستخلاف...!
يتواصل