تمر موريتانيا في الوقت الحاضر بأزمات خطيرة وداهمة حالت دون وصولها إلى تحقيق الحد الأدنى من متطلعات شعبها في التنمية والوحدة والحرية والالتحاق بالدول المجاورة التى قطعت اشواطا لا يستهان بها فى تلك المجالات رغم عدم امتلاكها للمقدرات التى نمتلك نحن , وأدت هذه الازمات بالتالي إلى الفشل في الارتقاء إلى مستوى الحياة اللائقة أسوة بباقي شعوب وحضارات العالم ويعود السبب الرئيس في هذا الفشل الذريع والتخلف إلى تعرض الشعب الموريتانى ، على مدار معظم تاريخه السياسي " الطويل" ، إلى ممارسات أنظمة شمولية مستبدة وصلت إلى الحكم بقوة السلاح أو التبادل ، وتسلطت على الشعب باللاشرعية، وحافظت على طغيانها ووجودها بالعنف والقمع والاستبداد تحت عنوان الامن وحماية الرموز. وشرعنت ذاك بقوانين , مع الاسف يشرعنها لها من يفترض ان يكونوا ممثلين للشعب - على طريق جميع دول العالم – ولا يعرفون ان الامم والشعوب لم ترتقى إلا بالعدل والدفاع عن حقوق الشعب فى العيش الكريم والحرية والاحترام وعن مقدراته المادية.
إن ركود الحالة السياسية الآن فى بلادنا ، وصمت الشارع الوطنى (السياسي والمثقف) , وأحيانا مجاراته على الوضع الذى هو فيه من مصادرة حريات وجوع وعطش وتهميش واستغلال , دون ادنى مبرر منطقى او علمى , ما هو إلا نتيجة "طبيعية" و"منطقية" لممارسات الأنظمة وللقمع النفسي الشديد الذي مورس ويمارس ضد هذا الشارع وبخاصة ضد طلائعه المثقفة ,
و كان من نتائج ذلك أن تحول الشعب الموريتانى إلى شعب مثقل بهمومه السياسية والمعيشية ومخاوفه الأمنية اليومية. إن الشعب الموريتانى في ظل مثل هذه الحالة لن يكون قادرا على مواجهة مشاكله التنموية فضلا عن الواقع المتردى و مسدود الافق. فالوضع السياسيى وطريقة تسيير المال العام وتوجيهه الى وجهة غير التى يجب ان يوجه إليها على رغم الجيوش المجيشة لإخفاء الاثر , تقتل في الشعب إرادة التفكير والتطوير والإبداع وتخلق مجتمعا متأزما اسير الواقع الذي يعيش خاملا فاسدا ضائع القصد ، حائرا لا يدري كيف يميت ساعات وقته.
ويتضح جليا ان سعي حكومتنا الى سن قوانين استثنائية(قانون الرموز) أوقفت العمل بعدد من تلك الحقوق والحريات الدستورية والضمانات القانونية , وإن كانت محدودة ، إلا أنها مكتسبات لم يحصل عليها الشعب الموريتانى إلا بالنضال الطويل والتضحيات الكبيرة والجسيمة ضد الأنظمة , وتحمل القمع والسجون والتشهير والتنكيل من اجل الحصول عليها . إن ما نحن فيه اليوم من فقر وعوز وأمية وتخلف كان نتيجة طبيعية لاستمرار حرمان المواطن الموريتانى من حقوقه وحرياته الأساسية بأساليب جديدة ومتطورة قامت على سياسة "الإلهاء"، والترغيب والترهيب أو العصا الغليظة التي اتبعتها الأنظمة الموريتانية الرسمية المتعاقبة او اغلبها واستهدفت بواسطتها تدجين المواطن الموريتانى وتطويعه وصولا إلى تعطيل اهتماماته العامة ومن ثم تقزيم أهدافه الوطنية والقومية ويعتبر غياب الحياة السياسية والحزبية الصحيحة من الأمور التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من وضع مأساوي وغياب للقدرة على منع الاستبداد ومحاربته , بشكل ديمقراطى ودستورى ,
وكانت تجاربنا السياسية(الحزبية) اسوأ بكثير من اسليب الانظمة المتعاقبة , المستبدة. فالأحزاب السياسية لم تلبث ان تحولت بعد قيامها 1991م وما بعدها , والى يومنا هذا , الى مكاتب اشد سوء من الدولة العميقة وملحقاتها , الامر الذى جعل المثقف يختار القتلة الكبيرة على الصغيرة ويرتمى فى احضان نظام هو يعرف انه سيأكله , او الارتماء فى احضان حركات متطرفة تأكل الاخضر واليابسة باسم الدين تارة وباسم الهوية تارة اخرى. اننا نعيش اليوم فى وهم سياسي , نرفع شعار الديمقراطية ونمارس الاستبداد أسفلها , كل حاكم جاء يجيء بحرس الدولة العميقة ويمنحه اسم " الحزب الحاكم ", فى حين انه حرس حاسم , وان طعم بالمصفقين والمنافقين والانتهازيين ورجال العمل.
وعجزت جميع الانظمة المتعاقبة على بلادنا عن وضع خطط عملية لمواجهة الفقر والامية وبناء اقتصاد الدولة وترشيد ثرواتها ومحاربة الارث الاستعمارى الفرنسي الذى ترك فينا افراخا تبيض و تتكاثر فى هرم الدولة الامامى , والذي يستهدفنا فى ديننا ووحدتنا ولغتنا , بل وفى نهضتنا الحضارية . ورغم ثرواتنا وإمكانياتنا الضخمة ,لا يبدو حتى الآن أن من أولويات هذه الأنظمة العمل على تنفيذ إصلاحات اقتصادية وعلمية جذرية أو تحقيق انفراجات سياسية واجتماعية حقيقية والانفتاح على شعبها والعمل على تحسين مستوى معيشته أو فتح المجال أمامه لمزيد من حرية التعبير والرأي. ولكن على العكس تماما من ذلك تستغل الأنظمة جميع الوسائل لنبقى فقراء, ومتخلفين , واميين , كي تزيد من سطوتها وجبروتها وتعسفها,
لقد استغلت أنظمتنا طيبة هذا الشعب كثيرا . .يقول المفكر العربي الكواكبى :" فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم كذلك ليس من مصلحة المستبد أن تتنور الرعية بالعلم" وهذا ما يبرر وجود جامعة واحدة (هذا مع ذكر جامعة لعيون) فى دولة مترامية الاطراف وشعبها فقير لا يستطيع نقل ابنائه من فصالة او كوبنى او قابو الى اخره , الى نواكشوط والسكن فيه من اجل تدريس ابنائه وهو لا يمتلك درهما , والسلطة لا تتكفل بمنحهم. وبهذه السياسة التجهيلية والتغاضى مكنت أنظمة الاستبداد السياسي في دولتنا من تحويل مجتمعنا إلى مجتمع ميت سياسيا وفقير اجتماعيا واقتصاديا , وقادته بسهولة دون عناء يذكر.
وان اخوف ما يخافه الشعب الموريتانى اليوم امام تفجر ثرواته الطاقوية (الغاز والنفط), ان يصبح طريدا من وطنه او على اقصى الهامش مثل ما وقع لشعب زنجبار حين تحكم العسكريون فيها ووضعوا غالبية شعبها فى سجن داخلي رهيب , وغيروا اسم الدولة الى تانزانيا. ولا يثق الشعب فى منظومة الطابور الامامى الذى يتوارث السلطة عن بعضه البعض , ولا يأتمنه على مقدراته النفطية والغاز بسبب تجارب سبقتها فى السمكن والحديد والذهب والنحاس. صحيح ان انظمتنا اعتمدت اسلوب التنفيس: ويتمثل هذا الأسلوب في تمكين الصحافة من التعبير عن رأيها إزاء الأعداء الخارجيين وتسويق سياسات النظام , والسماح لها بتوجيه "النقد السلس او المحابي " - ان صح التعبير- الى النظام ولكن بشكل مدروس وعام وشريطة عدم الدخول في التفاصيل إلا ما يناسب منها مصلحة النظام فقط مع استمرار خطر التطرق إلى كشف حقيقة النظام نفسه بشكل تفصيلى. ولله الامر من قبل ومن بعد.