موريتانيا بقية خير رأيته / افاه ولد الشيخ ولد مخلوك

 افاه ولد الشيخ ولد مخلوكموريتانيا هي موروث المرابطين ونتاج جهد عبد الله ابن ياسين ويوسف ابن تاشفين وهي الدولة الوحيدة المسلمة مائة في المائة . وهي دولة الشناقطة الحفاظ المحافظون، وهي بلاد العلم والضيافة وهي وهي...

وهي كذلك البلاد التي نيطت علي بها تمائمي وكبرت وترعرعت بها وفيها . ولدت ونشأت في حضن الثقافة و العادات قديما وحديثا، وفي كل مكان؛ البادية حيث صفاء ونقاء السكان الأصليين، وما إن كدت أدرك و أحس الأشياء حتى رأيت فضائل أحدثكم عنها تحسبونها ضربا من الخيال ولكن ـ والله وتالله ـ القوم كانوا كذلك . وما إن بلغت الحلم حتى تغير لي لون اللبن أسود ورأيت تلك الفضائل والقيم والأخلاق مولية على أعقابها مودعة وداعا لا رجعة فيه قائلة إليكم المدينة وأخلاقها وعاداتها وسلوكياتها قائلة لبيت قديم : إن السلامة من سلمى وجاراتها أن لا تمر بواد حول واديها مرددين قول الشاعر الموريتاني : والله لا آتي السد ير وأهله وإن قيل عيش بالسـد ير نضير به البق والحمى وأسد ضرية وعمرو بن ود يعــتدي ويجور لكن المشايخ وكبار السن والعقلاء ومن عرف تلك القيم والأخلاق ظل يردد قول الشاعر الفيلسوف صالح ابن عبد القدوس الذي قتله عليه الخليفة العباسي المهدي وهو : والشيخ لا يترك أخــلاقه حتى يوارى في الثرى رمسه ولقد رأيت وعشت من الحياء الشيء الغريب ومنذ ذلك كنت إذا رأيت امرأة تخرج في الليل أو في الغلس يبادرها ساكنة الحي جازمين أنها وأهلها ألم بهم خطب جسيم ونسمع في المجالس آل فلان طرأ عليهم طارئ فقد رأينا منهم امرأة تخرج في وقت كذا وكذا . ولقد رأيت النساء لا يتخضبن أبدا في بيت فيه كبير سن وإذا تخضبن يهجرنه يوما أو يومين حتى تنمحي جدة الحناء حياء وإكبارا وهبة للأكابر وخاصة إذا كانوا آباء وأجدادا أو إخوة . والحال نفسه مع باقي وسائل التجميل وإذا أرادت الواحدة منهن الذهاب إلى الأفراح والمناسبات وبعد أن تصحب محرما؛ أختا أو رفقة كن، نراها تتسلل لواذا حياء و سكينة فسبحان الخالق ما أبعدها من فتاتنا اليوم ولقد شاهدت ذلك في أخواتي شخصيا . أما العروس والمرضعة والمطلقة وزوجة الابن فمخالطة الواحدة منهن للأكابر عدم للحياء في القطر لا يغفر ناهيك عن من مس جلدها أجنبي أو خالطها مخالط فالعروس في بداية زواجها من لا تتظاهر بما عندها زينة لأبيها ولا لإخوتها ولا لكبار السن حفاظا على الحشمة والحياء . أما المرضعة فتكاد لا تمس ابنها بحضرة الأكابر وحتى لو رأته يسقط في النار أو تطأه دابة حشمة وحياء أيضا واليوم تزينه بكامل زينته وتباهي الشيخ الكبير العالم والجاهل و الصغير والكبير، أما الصغير من الذكور فلا يشرب الشاي بجانب من هو أكبر منه، ولا ينظر في المرآة ولا يدخن بجانبه، ولا يمتنع عن أمر له، والعريس يأخذ عمامة لباس العروس كي لا يكون لأثر لباسها عليه علامة.وحياء الطالب من شيخه أشد من حياء العفيفة في خدرها، لا يبتسم في حضرته، ولا يستنكف عن خدمته حتى ولو كانت رعي غنمه أو إبله أو بقره ،أما أوامره فنافذة ومنفذة أما عن الضيافة والكرم فحدث ولا حرج فلقد رأيتهم يبادرون الضيف كل واحد منهم يناديه في خيمته كي يحظى بضيافته. ولقد كنا ونحن صغارا إذا رأينا الضيوف نختفي خوفا من أن يبعثنا الكبار إلى الغنم التي تكون في الغالب بعيدة في مرعاها نأتي بالذبيحة.

وقد يكون أهل البيت وما يملكون سوى شاة واحدة وقد تكون زكاة فيذبحونها لأول ضيف نزل بهم، وكان الصبية إذا اشتاقوا للحم أو جاعوا يعمدون إلى آلة الطحن الكبيرة المسماة عندهم بـ " المهراز " رحى كبيرة من الشجر فيكفونها ويجلسون عليها ظنا منهم أن ذلك يأتي بالضيوف، أما عن إيثار الضيف على الأنفس والأولاد في اللبن زمن الصيف وفي الماء زمن الحر، فلا يمكن حصرها ولا التمثيل لها فهي العادة والحياة والسلوك .

أما كرمهم فقلد سمي فيهم الحي ببلاد الأربعين جيدا " أي معطاء وجوادا وسميت فيهم المناطق والجهات بتسميات لا تقل أهمية ولا مجانسة للماضية .

ولقد رأيت السائل ينزل بالحي صفر اليدين ويرجع بغنم كبيرة بعد أن يبادره كل فرد بإعطائه شاة أو بقرة أو ناقة .... وهكذا .

ورأيت المرأة تنزل بالحي تريد تجهيز بنتها أو أختها في ذهابها إلى أصهارها مع زوجها فيبادرها نساء ذلك الحي ويجتمعون عليها كل يعطي على حسبه وقدره .

والحال نفسه في حفر الآبار وفي من يريد الذهاب إلى الحج ومن أصابته آفة في الحرث أو الحيوان كل يبادر بعطاياه له .

أما عن الشجاعة فلا تكاد تصدق القصص الكثيرة المرعبة والمدهشة التي هي أقرب ما تكون في نسجها من الخيال والأدب وأفلام "هيليوود" وهلم جرا .

ومع ذلك واقعية يشهد عليها العلماء والثقاة ولقد رأيت بعيني امرأة يجمع الجمع علي أنها تشادت مع سبع في شاة من الغنم فغلبته ورأيت كذالك رجلا بات مع أسد في كهف واحد في ليلة ممطرة مظلمة .

ورأيت من بات في المقابر في خلاء من الأرض في ليلة الظلمة والبرد ، ورأيت رجلا كان معه رديفه في السفر(وهو أجنبي على البلاد) فجاءهم المطر فنزلوا بمقبرة كبيرة مخيفة معروفة محتمين بشجرة فيها فخطف البرق فرأى الرجل ميتا فقال لصاحبه لو وجنا ميتا ماذا نفعل قال له: نفعل كذا وكذا، فخطف البرق ثانية فقال له هذا هو الميت، فجن الرجل الثاني حينئذ فأخذ الحبال وقيده حتى الصباح فدفن الميت وحمل المجنون معه على جمله وأتى به إلى حي معروف والقصة معلومة عندنا .

والأمثلة أكثر من أن تحصى أما في ما نسمع في القصص والحكايات فالله به عليم .

وفي تميز الشناقطة بالعلم لا تزور للوهلة الأولى موريتانيا حتى ترى العجب العجاب أحرى من أن تولد وتشب بين ظهرانيهم ووسط طلاب محاظرهم .

ولقد درست في المحاظر الخصوصية والعمومية وأعني بالخصوصية التي لا يدرس فيها إلا طلاب الحي، أما العمومية فهي التي تشد إليها الرحال ويلتقي عندها الطلاب من كل جنس وكل جهة وكل عمر وكل لون .

وشاهدت العجب العجاب رأيت الطلاب الذين يحفظون القرآن الكريم من قراءة وتكرير الذين تجاوزوهم، ورأيت طالبا يحفظ رسما للقرآن يزيد على 400 بيت، وهو في الجزء الثاني من القرآن الكريم، أما حفظهم لخليل وألفية ابن مالك والأنظام وطريقة معاملاتهم ومساجلاتهم ومداعباتهم واحترامهم للشيخ واحترام الناس لهم أنفسهم وتوديعهم لبعضهم واستقبالهم للبعض الآخر وفرحهم بمن ختم القرآن وأجيز فيه ومن ختم حفظ متن من المتون فسبحان الذي خلقهم إنه أمر باعث للحيرة والدهشة لا أكاد اذكر منه شيئا إلا بكيت بكاء وارتعدت ارتعادا حنينا إلى الماضي وكتب فيه من هو خير مني، وللاطلاع عليه ينظر كتاب المنارة والرباط للأستاذ والأديب والمفكر الخليل النحوي حفظه الله ، وكتاب طريقة حفظ الشناقطة وكتب المشايخ ومسيرة حياة العلماء أمثال الشيخ سيديا و محمد عالي ولد عبد الودود وشيخنا وعلمنا و أبينا الراحل المغفور له لمرابط محمد سالم ولد عدود ، والوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ومناظرات ورحلات ولد التلاميد والأمين الشنقيطي وغيرهم، كما ينظر كتاب العلامة المحدث الأديب الفتى محمد الحسن ولد الددو: فقه العصر الذي هو في الأصل مقابلة معه وكتب ومقالات الموضوع أكثر من أن تعد أو تحصى وأشير أخيرا إلى أن التعليم المحظري الموريتاني لم يعط حقه إذ هو يعلو الجامعات و المعاهد فمثلا المساجلة الأسبوعية والامتحان الأسبوعي ، الطالب يأتي إليه لا يعرف عم يُسأل؟ ولا من أين؟ ولا كيف؟ ومع ذلك عندهم الخطأ معرة لا تغتفر، وفي الوقوف مع كتاب الله وسنة نبيه محمد عليه أزكى السلام وأتم التسليم، يبدو لك الأمر جليا حين تطأ بقدميك حيا أو قرية من قرى الموريتانيين فيما أدركت فتسمع التهليل والتكبير والاستغفار بطريقة مدهشة غريبة دأب عليها الكبير والصغير، وهي في الغالب " لا إله إلا الله " تسمعها عالية مدوية هذا يكررها في مصلاه، وهذا إثر قطيعه وذك تحت بقرته أو ناقته أو شاته يحلبها .. وآخر يمشي في الطريق يكررها و كذا الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم .

والمصاحف عندهم محترمة مقدسة يزينون ملابسها من الجلود وبالألوان وكذا جميع الكتب محترمة معظمة ومن المستحيل النادر إعارتها أو إعطاؤها ويبدوا وقوفهم مع القرآن والسنة جليا في معاملاتهم في البيوع وفي شهاداتهم أمام القضاة وفي سلوكهم وفي تعاملهم حتى مع البهائم والوحوش والأشجار .

فتجد الصبي يتجنب الكثير من السلوك مع البهائم ويعرف أصلا أن هذا من الوحوش يقتل، وهذا لا يقتل، والأشجار التي يجعلونها حماية للحيوان من الذئاب، وحفظا لها من الرياح والأمطار، ومن الضباع وغيره، لا يقطعون منها إلا ما أباحته الشريعة وأجازته . ويجعلون لكل أمر محرم شرعا أو مكروها قصصا تخويفية للصبيان حتى يتجنبوه؛ تارة يربطونه بالجان، وتارة بالفقر، وتارة يربطونه بالجنون .

ولهم أهل التقى وموطنه وأهل الفضائل والمحامد، ومن يتقى الله يجعل له مخرجا ويتوكل عليه فهو حسبه . وفي الصبر والأنفة والأدب والشعر والفتوة لا أقول إلا هم عند صبر أيوب عليه السلام وأنفة عمر ابن كلثوم وأدب العصور الجاهلية والإسلامية والأموية والعباسية . والشعر هم علوا فيه امرأ القيس ومن بعده حتى لقبوا ببلد المليون شاعر ومن لا يعرفهم إلا قليلا .

أما الفتوة فحازوها بالإسلام والعلم والفصاحة وباقي الخصال السالفة .

هذه شهادة لم أنقلها من كتاب، و لا بنيتها على حكاية، ولا على حس بل عاينتها وشاهدتها وأدركتها في رمقها الأخير مع صغر سني وعدم تجربتي في الحياة، لكني مع ذلك رعيت الغنم ورعيت البقر وحلبتها وحزت الثقافة الشعبية من أصولها، ودرست في المحاظر الموريتانية في أكثر من مكان، وركبت السيارة والحيوان تجولا في وسط البلاد، ومع ذلك خالطت المدينة ودرست فيها وتخرجت من الجامعات والمعاهد، مما جعلني ملزما بتبيين خلق الله لتلك الثلة من البشرية وصدق الصادق المصدوق فيها .

28. مارس 2011 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا