امتازت الأعوام الثلاثة الأولى من مأمورية رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني بتكريس منهج الانفتاح والتشاور ، وتجذير خيار النهج الديمقراطي الحضاري لخلق تحول مجتمعي وصياغة مشروع توافقي تسهر جميع أطرافه ؛ أغلبية ومعارضة على تطوير البلد وتنميته وتقوية أسس حكامته ، ولا مراء فى أننا اليوم نسير بخطى واثقة ورصينة على درب ترسيخ قيم الديمقراطية ، وتعزيز الحريات الأساسية وترقية الثقافة الحقوقية وتوطيد الإصلاحات التشريعية والمؤسسية ، ولا جدال فى أن حرية الصحافة والتعبير تجسدت مكسبا سياسيا وطنيا وخيارا استراتيجيا أساسيا ؛ يشكل ركيزة محورية للممارسة الديمقراطية ورافعة قوية للتنمية .
وانسجاما وتناغما مع هذه الخيارات الاستراتيجية الكبرى والمعالم السياسية التأسيسية الساعية لبناء دولة مدنية قوية وعصرية ، كان واضحا أن الحاجة ماسة فى هذه اللحظة الفارقة من تاريخنا المعاصر إلى التأسيس لخطاب إعلامي جامع ؛ قادر عل التعبير عن نبض المجتمع ، مساهم فى صناعة وتشكيل الوعي ، منسجم مع أهداف وأولويات التنمية البشرية ، مستجيب للرهانات المهنية والمؤسسية ، انطلاقا من رؤية جديدة لتمهين الحقل ، تنبثق من رحم مؤسسيه ومنتسبيه ، وتخلق جسرا للتواصل بين الأجيال الصحفية ؛ سبيلا إلى التلاقي والتلاقح بين التجارب والخبرات ، واستفادة اللاحق من السابق ، ومشاركة الجميع في بناء صرح الثوابت والمشتركات الوطنية ، وتجذير خيار الحرية المقترنة بقيم الوعي والمهنية والمسؤولية.
ويعد قرار رئيس الجمهورية القاضى بتشكيل لجنة عليا لإصلاح قطاع الصحافة تحولا جديدا وتجسيدا عمليا لتعهداته بالتمكين لحرية التعبير ، وتمهين الممارسة الصحفية ، فضلا عن كونه استجابة مقدرة للفاعليين بالحقل والداعين إلى ترقيته وتنقيته من كل الشوائب والاختلالات ، وقد عهد إلى هذه اللجنة بصياغة مقاربة إصلاحية شاملة للقطاع ، انطلاقا من مسار تشاوري استمعت خلاله للصحفيين والخبراء والمتخصصين ، وتوجت عملها بتسليم تقرير تضمن 64 توصية أقرت الحكومة تنفيذها -تدريجيا- وتحويلها إلى قوانين ولوائح تنظيمية وإجراءات تنفيذية لإصلاح القطاع ، انطلاقا من تعزيز المدونة القانونية وتطوير البنى التحتية ، وترقية المصادر البشرية والمالية ، وتحسين المضامين والمحتويات ومناخ الانفتاح والحريات.
وعلى مستوى تعزيز الترسانة القانونية الناظمة للإعلام فى البلاد تمت صياغة رزنامة قوانين جديدة ؛ من بينها قانون الصحفي المهني تكريسا لقيم الحرية والمهنية ، فضلا عن إصدار مراسيم البطاقة الصحفية والخدمة الإلكترونية ، إلزاما للمؤسسات الصحفية المعنية باكتتاب صحفيين مهنيين فى سياق توسعة دائرة الممارسة الصحفية الإلكترونية ، ناهيكم عن إقرار قانون مراجعة هيكلة السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية ؛ المتضمن توسيع صلاحياتها وزيادة أعضائها لتمثيل الكيان الصحفي والطيف المعارض فى مجلسها ، بغية تمكينها من لعب دورها المحوري فى الضبط والتطوير والتكوين والتمهين ، وتأمين النفاذ العادل والولوج المتوازن إلى منابر الخدمة العمومية ، وقد عرف أداؤها خلال الأعوام الأخيرة ديناميكية وحيوية مشهودة من خلال مواكبتها الدائمة للمشهد الإعلامي الوطني ، ومراقبة محتوياته ومضامينه وفحص مدى مطابقتها للالتزامات القانونية والأخلاقيات المهنية ، فضلا عن تطوير وتحسين خبرات الصحفيين عبر التنظيم المستمر للدورات التكوينية فى مختلف الأجناس الصحفية ، كما تم تعزيز البعد الكمي للمشهد الإعلامي بفتح مجال الترخيص لقناة تلفزيونية ومحطة إذاعية ، وفقا للمساطر الإجرائية والنظم المعمول بها فى هذا السياق.
وفى إطار تشييد البنى التحتية ودعم المصادر البشرية و المالية ، باشرت الحكومة إجراءات اقتناء دار للصحافة ، وشرعت فى فى إنجاز دراسات ممهدة لتشييد وبناء مدينة للإنتاج الإعلامي ، وقامت بمراجعة نظام الرواتب فى مؤسسات الإعلام العمومي ، لتصل إلى مضاعفة أجور العمال الرسميين ، وشهدت ميزانيات المؤسسات الإعلامية العمومية زيادة غير مسبوقة فى تاريخها بلغت إحداها أزيد من 3 مليارات أوقية قديمة ، وعرف الدعم العمومي للصحافة المستقلة زيادة معتبرة وصلت إلى نسبة 55% مع التزام رسمي بمضاعفتها فى أفق 2024 ..وحصل مزيد من الانتشار البنيوي والتوسع الأفقي لخدمات الإعلام السمعي-البصري ، من خلال فتح العديد من المكاتب التلفزيونية الجهوية وإطلاق المحطات الإذاعية المحلية ، تجسيدا لإعلام القرب وتعزيزا لقاعدة الخدمة الإعلامية العمومية .
وفى سياق الانفتاح ومناخ الحريات وتطوير المضامين والمحتويات الإعلامية ، ظلت بلادنا محتفظة بمكانتها فى صدارة البلدان العربية فى مجال حرية الصحافة ، وحرصت السلطات العمومية فى تعاطيها مع المؤسسات الإعلامية الدولية والمحلية على تقديم التسهيلات الضرورية ، وخلق بيئة مستقطبة لحرية التعبير وممارسة العمل الصحفي بحرية وأريحية ، طبقا للأدبيات المهنية والضوابط الدستورية التى تكفل ترسيخ التنوع وتكريس قيم التعددية والثقافة الديمقراطية ، وهذا ماجعل البلد قبلة للعديد من المؤسسات الصحفية العريقة التى تقاطرت عليه تباعا بشكل يبرهن على الأهمية السياسية والدبلوماسية والمكانة الجيو-ستراتيجية لبلادنا ؛ إقليميا وقاريا ودوليا ، ولعل آخرها تنظيم إذاعة فرنسا الدولية لسلسلة حلقات نقاشية وندوات إذاعية هي الأولى من حيث الحجم والتنوع فى تاريخ تعاطى هذه المؤسسة العريقة مع البلد ومعالجتها لملفاته وقضاياه المختلفة.
وعكست مضامين ومحتويات الإنتاج الإعلامي الوطني مزيدا من تجسيد إعلام القرب ؛ سبيلا إلى القطيعة مع مركزية " هنا نواكشوط " ..وسعيا لإيصال "صوت المواطن " وإشراكه فى إنتاج مضمون الرسالة الإعلامية ، تكريسا للعلاقة التفاعلية بين المواطنين والدولة ، وتعبيرا عن حاجاتهم المادية والمعنوية ، عبر توظيف كافة الأجناس الصحفية فى مجال التغطيات الإخبارية والبرامج الحوارية ، ضمانا لتوسيع الدائرة الديموغرافية والخريطة الجغرافية للجمهور المستفيد من الخدمة الإعلامية العمومية ، وخصوصا في الأرياف والمناطق النائية ، فضلا عن مزيد من الانفتاح على الفرقاء السياسيين ونشطاء المجتمع المدني والخبراء والمتخصصين لإنارة الرأي العام الوطني حول قضايا ومشاغل الإنسان وتنمية واستقرار الأوطان.
وتظل الآفاق واعدة والتطلعات مشروعة نحو مزيد من التمهين والتمكين لقيم العمل الصحفي الناضج الناصع والنابع من رؤية إصلاحية قارة واستراتيجية اتصالية مدروسة ، تهدف إلى بلورة رسالة إعلامية تتسم بالمصداقية والمهنية والمؤسسية ، تسهم فى صناعة محتوى إعلامي قوي وعميق ومؤثر ، يدعم قضايانا السياسية الوطنية الكبرى ، ويعضد مسيرتنا التنموية ويعزز لحمتنا الاجتماعية.