لاشك أن العلوم الإنسانية في دراستها للإنسان وتفرعها في دراسة مواضيعه المتعددة ( علم النفس، علم الاجتماع، الاقتصاد، السياسة.. )، ونتاجه من ظواهر، ومسلكيات تواجه الكثير من المشاكل في تحقيق تلك الغاية، ذلك أن العلوم الإنسانية هي أكثر العلوم تعقيدا، لأنها منوطة بالإنسان وسلوكياته، وذلك بجزئية غير قابل للحتمية، بل متغيرة مع مرور الزمن..
" إذا كان كل علم من العلوم الإنسانية يدرس
جانبا أو اكثر من جوانب الإنسان أو المجتمع فإن علم الإجتماع يدرس المجتمع ككل في ثباته وتغيره، ويدرس الإنسان من خلال علاقته بالمجتمع، أي أنه أكثر شمولا من أيّ من العلوم الإنسانية".
والإنسان بطبيعة الحال كائن معقد، متقلب المزاج من حين إلى آخر، اليوم هادئ وغدا ثائر.. ولكل حالة من هذه التغيرات التي تطرأ على الإنسان تحتاج إلى عقل واعٍ ومدركٍ بكيفية التعامل معها ودراستها ( المعرفة العلمية ) بمختلف جوانبها، الجانب النفسي للفرد داخل المنظومة الاجتماعي، والجانب الاجتماعي، الإقتصادي، وحتى السياسي، وذلك يقتضي فهم الإنسان بذاته، والمحيط الاجتماعي، والتأثيرات التي تحدث داخل نطاقه على مستوى معرفي علمي.
لكن كيف يحدث هذا الوعي بالموضوعية من الإنسان في دراسته لنفسه ؟
وكيف يمكن للإنسان أن يدرس نفسه؟
هذا وحده عامل أساسي في تعقيد هذه العلوم ..
الا أن محور الجواب لهذا السؤال يكمن في الدراسة الموضوعية والحياد .. وأن دراسة الإنسان للمجتمع ( دراسة الإنسان لذاته ) هي أقرب إلى معرفة الحقيقة في نظري إلى حدّ ما كونه يدرس نفسه، أي أنه سوف يدرك الكثير من الحقائق من الوعي واللاوعي، وكذلك الحقائق التي لاترى النور لقائليها من الأفراد، هذا لأنه إنسان اجتماعي، ولايمكن للإنسان أن يخرج عن نطاق تصرفات المجتمع في مسلكياته، بمعنى آخر أن الإنسان أدرى بتصرفاته وهذا يرجح كفة الفهم والتفسير لذات المجتمع.
وبذلك تكون المعرفة حتمية إذا لم تخرج عن نطاق الحياد.
يقول موريتس شلـيـك Schlick.M " أن تقدم العلم والمعرفة العـلـمـيـة مرهون بالتفسير ".
أي أن التفسير أداة لتبسيط المعرفة، وادراكها، وهي منوطة بالعلم، وهنا يمكن اسقاطها على المعرفة الاجتماعية..
إذ لا يمكن تحقيق العلم الا بالتفسير، ولا يمكن تحقيق التفسير الا بالفهم..
لا يمكن أن نغفل عن مفهوم الفهم أيضا وهذا يعني أن الفهم والتفسير مفهومين مترادفين لايمكن الاستغناء عن أحدهما أبدا، لأن كيف يمكن أن نُفسّر من غير أن نفهم؟ وما قيمة أن نفهم ولانفسّر؟ أو من غير أن نفسّر؟ وما قيمة المعرفة إذا لم يتم مشاركتها مع المجتمع؟
وذلك عن طريق التفسير، أي تفسير الظواهر والمشكلات الاجتماعية، وذلك طبعا بتشخيصها أولا..
هذا لأن الفهم والتفسير وجهان لعملة واحدةٍ.
مما لاشك أن العلوم الإنسانية تتطور وذلك التطور مرهون بالعلن بمعنى أن التفسير خاص والفهم عام .
خاص إذا تعلق الأمر بتفسير الظواهر من قبل متخصصين في هذا المجال، وعام للمجتمع من أجل فهم المشكلات الاجتماعية والظواهر بمختلفها. وهنا تظهر أهمية التخصص وكذلك القدرة على التفسير من زاوية علمية.
إن أي ظاهرة اجتماعية يجب أن تخضع لقانون التفسير، وإلا ستبقى مرهونة بالتعقيد وعدم الكشف عن أسرارها. لذلك فهم المجتمعات مرهون بتفسيرها، وتحليلها.
ولهذا " لا توجد مجتمعات ناقصة المعرفة لكن توجد مجتمعات ناقصة التحليل" ، وطبعا عصية على الفهم السوسيولوجي، لذلك لايمكن أن نغفل عن هذه الحقيقة التي تعتبر ركيزة أساسية في محور عملية التفسير السوسيولوجي للظواهر الاجتماعية.
لاشك أن عدم معرفتنا بخصوصية المجتمعات تجعل من عملية الفهم والتفسير الاجتماعي أكثر تعقيدا، هذا لأن الجانب الاجتماعي يترك بصمته في الظواهر الاجتماعية لنأخذ على سبيل المثال سبب معين من أسباب الطلاق في مجتمعنا ( المجتمع الموريتاني ) مثلا ..
إن البعد الديني في المجتمع الموريتاني يظهر في الظواهر الاجتماعية بمختلفها حتى تلك الظواهر التي لا علاقة لها بالدين بحيث يفرض المجتمع لها بُعداً دينيا كنوع من التدين.
لنأخذ مثالا على أسباب الطلاق وهو الخيانة الزوجية :
إن الخيانة الزوجية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعملية التنشئة الاجتماعية بخلاف المجتمعات الأخرى ماذا نعني بهذا الكلام.. ؟ يعني هذا أن المجتمعات العربية مثلا والتي تعتبر " المصافحة " الذي تحدث بين الرجل والمرأة هي وليدة المجتمع، وليدة العادات والتقاليد وليس لها بُعد ديني، هذه النظرة لهذه المسلكيات الاجتماعية تختلف تماما عن نظرة المجتمع الموريتاني الذي يعزل الرجل عن المرأة حتى في التنشئة الاجتماعية، وبالتالي فإن الخيانة هنا يتم اكتشافها بسرعة عن طريق " المصافحة " فقط، بدرجة أدنى، لأن المجتمع هنا يربط هذه العملية بالدين، لماذا لأن خصوصية التنشيئة الاجتماعية في هذا المجتمع تختلف عن المجتمعات الأخرى..
التي لا تربط الخيانة بعملية " المصافحة " وإنما تربطه مثلا بأمور أخرى كالمبيت معاً ( الرجل والمرأة، .. ) على سبيل المثال..
فعندما تكتشف المرأة أن زوجها يُبادل يديه بين يدي النساء مُصافحا إياهن، يعني ذلك أنها درجة من الخيانة وتمهيدا لما هو أعظم.
هنا بالضبط يتم اكتشاف الخيانة، وتبدأ المرأة في ترتيب أغراضها.. لأن مفهوم الخيانة مرتبط ارتباطا وثيقاً بخصوصية المجتمع وثقافته الاجتماعية لذلك يبدأ المفهوم بالتشكل.
هذا لأن عملية دراسة المجتمعات تحتاج إلى فهم وتفسير من أجل رؤية علمية يتم من خلالها معالجة البنى الاجتماعية لكي لايفسد النسق الاجتماعي كما يقول تالكوت بارسونز ( إن البناء الاجتماعي عبارة عن نسق متكامل، أيُّ خلل في وظيفته يؤدي إلى اختلال في النسق الاجتماعي) .
والمجتمع من غير الفهم والتفسير لايوجد أعلى من هذا الخلل الذي يواجه بنياته الاجتماعية، ليحدث بذلك صدع لا يمكن معالجته إلا بإصلاح ما فسد سابقاً وهو التركيز على الفهم والتفسير، كتفسير الظواهر الاجتماعية بمُختلَفها وبأبعادها الاجتماعية المختلفة، الإقتصادية، والسياسية إلى ذلك.
لذلك يعد التفسير سمة ضرورية لفهم الظواهر الاجتماعية وتحليلها وفهم المجتمعات بصورة عامة.