يصطف المواطنون الفنزويليون في طوابير تمتد عدة كيلومترات لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان زعيمهم الراحل هوغو تشافس. ولم يمنع قرار السلطات الإبقاء على جثمان تشافس أسبوعا كاملا في الأكاديمية العسكرية لتمكين المواطنين من وداعه آلاف النساء والأطفال والمسنين والمعاقين من المبيت مصطفين في الشوارع مرددين أغان وأناشيد تمجد الزعيم البوليفاري وأعوام حكمه التي استمرت قرابة خمسة عشر عاما.
قد لا يعني رحيل هذا الرجل المثير للجدل الكثير بالنسبة لنا كموريتانيين فنحن لا نعرف عن فنزويلا التي تقع على الضفة الأخرى للمحيط الأطلسي سوى القليل ولم نقم معها علاقات دبلوماسية إلا منذ ثلاث سنوات في خضم التذبذبات التي تلت انقلاب 2008 والتي رمت بنا برهة من الزمن في خانة الدول المثيرة للجدل حتى لا نقول المنبوذة عالميا (إيران وفنزويلا وليبيا...) قبل أن تستقر سفينتنا على شاطئ الولاء للغرب خاصة القوة الإستعمارية السابقة.
وقد تلا قرار إقامة العلاقات توقيع مذكرة تفاهم تتعلق بتزويد السوق الموريتانية بمنتجات بترولية فنزويلية ربما جعلت المواطن الموريتاني المنهك بالصعود المستمر لأسعار البنزين يأمل أن يأتيه خير من بلد يسعد مواطنوه بأخفض سعر للبنزين على وجه الكرة الأرضية (0و06 دولار للغالون أي أقل من 5 أوقية للتر) بفعل السياسات الإقتصادية التي انتهجها هوغو تشافس.
لكن التشابه بين رئيس فنزويلا الذي رحل عن الدنيا بعد صراع مع المرض ورئيس موريتانيا الذي تطالب المعارضة برحيله عن السلطة بعد "انتصاره" على "المرض" ربما يذكي جذوة الإهتمام أكثر لدى الموريتانيين بهذا البلد وقائده الراحل.
فكلاهما يلقب برئيس الفقراء.. وكلاهما خاض السياسة وهو قائد عسكري.. وكلاهما يتمتع بنزعة شعبوية ووصل إلى السلطة بحجة الدفاع عن المظلومين وحماية الطبقات المسحوقة ومحاربة الفساد.. لكن الخلاف ربما يكمن في نظرة كل منهما للطريقة التي يحقق بها هذه الأهداف وهو أمر طبيعي إذا ما نظرنا إلى الإختلاف الحاصل في تكوينهما الأكاديمي والعسكري.
ولد هوغو تشافس لأبوين كانا يعملان في التدريس والتحق بالأكاديمية العسكرية وهو في السابعة عشرة ليتخرج منها عام 1975 مهندسا في العلوم والفنون العسكرية قبل أن يحصل لاحقا على ماستر في العلوم السياسية.
كانت أولى محاولات تشافس الوصول إلى السلطة عن طريق تمرد عسكري على حكم الرئيس كارلوس بيرس عام 1992 وهو برتبة مقدم وحين لم يتمكن من السيطرة على القصر أنذاك أعلن وقف التمرد حقنا للدماء كما قال ليدخل السجن مع رفاقه.
أما أول تمرين قام به الرئيس محمد ولد عبد العزيز للوصول إلى السلطة وهو برتبة مقدم كذلك فكان عام ألفين وثلاثة حين أفشل "مع رفاقه" المحاولة الإنقلابية التي استهدفت الرئيس الأسبق معاويه ولد الطايع وأعاده إلى كرسيه بعد أن سالت الدماء وأدرك تلك اللحظة أن من يعطي يمكنه أن يستعيد أعطيته متى شاء.
بعد عامين من السجن أفرج عن هوغو تشافس ورفاقه بعفو من الرئيس الفنزويلي أنذاك رافائيل كالديرا رودريغس لكنه اعتزل العمل العسكري متفرغا للسياسة حيث أسس حركته المسماة "الجمهورية الخامسة" بعد أن كانت المحاولة الإنقلابية عاملا أساسيا في الدفع به على الواجهة السياسية.
وبعد عامين من إعادة ولد عبد العزيز و"رفاقه" السلطة إلى معاويه ولد الطايع استرجعها منه في الثالث من أغسطس عام ألفين وخمسة بحجة وضع حد لحكمه "الدكتاتوري الإستبدادي الفاسد" وتنظيم انتخابات ديمقراطية ونزيهة تعيد الحكم إلى المدنيين.
انتخب هوغو تشافس في 6 ديسمبرعام 1998 رئيسا لفنزويلا بنسبة 56 % من الأصوات لفترة رئاسية مدتها خمسة أعوام وأطاح الجنرال محمد ولد عبد العزيز في 6 أغسطس عام 2008 بالرئيس سيدي ولد الشيخ عبدالله المنتخب بنسبة 53 % من أصوات الشعب الموريتاني في أول انتخابات ديمقراطية تشهدها البلاد، بعد انقضاء عام ونصف فقط من فترة رئاسته الممتدة خمس سنين.
كان الإصلاح وتصحيح المسار الديمقراطي هو السبب الذي أعلن ولد عبد العزيز أنه دفعه للإنقلاب على الرجل الذي دعمه أثناء ترشحه لكن ذلك لم يكن مقنعا بالنسبة لكثير من الموريتانيين الذين انتظموا في جبهة للدفاع عما وصفوه بالديمقراطية المسلوبة ليقاوموا بعناد الرجل الذي بدأ حربا لا هوادة فيها على "الفساد والمفسدين" وسعا إلى "تحسين" الظروف الإجتماعية للفقراء والمحتاجين واعتبر ما أبداه الشعب من تأييد له أثناء خرجاته بمثابة استفتاء على ما قام به من "استبداد" ضد خصومه وانفراد بالسلطة ضد مؤيديه.
أما تشافس وبعد شهرين من انتخابه رئيسا فقد أعلن عن تنظيم استفتاء شعبي لتعيين جمعية تأسيسية يعهد إليها بكتابة دستور جديد للبلاد يمنح الرئيس صلاحيات واسعة نصت من بين أمور أخرى على إعطائه الحق في حكم البلاد لمدة سنة دون الرجوع إلى البرلمان الذي أصبح يتشكل من غرفة واحدة وكانت تلك المدة كافية كي يصدر الرئيس الفنزويلي قرارات مصيرية تمثلت في بسط سيطرة الحكومة على قطاعات حيوية كالنفط والمعادن والزراعة وهي القطاعات التي يقول رئيس فقراء فنزويلا إنها كانت تخضع لعمليات نهب ممنهجة من قبل الشركات الأجنبية.
وقد كان لتلك القرارات أثر واضح على التحسن الذي شهده الإقتصاد الفنزويلي حيث ارتفع الناتج الداخلي الخام خلال الأعوام الأولى لحكم شافس إلى 18% كما ارتفع دخل الفئات الأكثر فقرا إلى نسبة بلغت أحيانا 15 % غير أن الفقر مازال يمس أغلبية الفنزوليين في حين أعلنت اليونسكو فنزويلا بلدا خاليا من الأمية بعد أن كانت نسبة الأمية فيها تصل إلى 80 % أيام وصول هوغو تشافس للحكم.
أما رئيس فقراء موريتانيا فقد سارع منذ وصوله السلطة إلى تمكين حفنة من المقربين منه من وضع اليد على كل مفاصل الإقتصاد الوطني ولم يحتج إلى إجراء استفتاء لتوسيع سلطاته "الواسعة أصلا" وأصدر أوامر بالتمديد للمؤسسات الدستورية المنتهية فترتها دون الحاجة إلى تنظيم انتخابات جديدة.
إلا أن هذا الإختلاف البين في مسار رئيسي الفقراء والتباين الواضح في رؤيتهما السياسية لا يعنى أنهما لم يلتقيا قط في قراراتهما بل حدث ذلك على الأقل مرة واحدة ولكن في السياسة الخارجية فقط. ففي 7 يناير 2009 وفي اليوم الثامن عشر من حرب إسرائيل على غزه قرر الرئيس الفنزويلي تشافس طرد سفير إسرائيل في كاراكاس ليتخذ الرئيس الموريتاني القرار ذاته بعد ذلك بشهرين تحت ضغوط من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وبعد قرار اتخذ في الدوحة بتعليق كافة أشكال العلاقات مع إسرائيل.