تصر الطبقة السياسية في هذا البلد المضطرب اجتماعيا و أخلاقيا و أمنيا أكثر مما هو معلوم و معتبر سياسيا، على أن تحجب عن نفسها هذه الحقيقية المرة بقدر خطورتها المغفلة في ظل التجاذبات "السطحية" أو "المسطحة" التي لا يبدو أنها تتجه إلى التقريب من بعضها مواقف المعارضة بطيفها المتباين عقديا و تنظيميا و الموالاة المتباينة
هي الأخرى في القوة و الحضور، إدراكا منهما للفضل الذي يمكن أن يجره عليهما من جهة ذلك التقارب إن حصل و بأي مستوى كان، و من جهة أخرى تماهيا مع متطلبات الاستقرار الذي بدونه لن يتسنى للديمقراطية، التي "لا تطوع و لا توجه"، أن تترسخ لفائدة دولة القانون القوية القادرة على تأمين العدالة و المساواة و ضمان الأمن و الاستقرار الدائمين،.
تجاذبات لا تحمل بعمق هم الوطن و لا ترتكز عمليا على البحث العملي عن آليات حوار ملهم للشعب تجعله يأخذ من خلاله و بفضله مواقف واعية، منطقية و موضوعية من كل القضايا الكبيرة و تحقق من ثم أمرين مطلوبين في التعاطي السياسي الايجابي و البناء و:
ـ أولهما عمل الفاعلين و الناشطين على كل المستويات داخل الأطر السياسية من خلال الحضور الشعبي الملموس في صناعة المطلب و الغاية و تحديد إطاره و آليات تقديمه و تحقيق مأربه،
ـ ثم ثانيهما الدمقرطة الفعلية للإطار السياسي بوصفه إطارا جامعا و حيث لا تفقد فيه التراتبية الهرمية التنظيمية أهم ركيزة فيه و هي ندية المنتسبين الناشطين في التشكيلة الجامعة و العاملين على حد سواء بمقتضى نصوصها و خطاباتها و فلسفتها و منهجيتها العملية.
و لو انصب الجهد داخل كل الأطر السياسية و النضالية، أحزابا كانت، تنظيمات أو حركات، محررة من "الشخصنة" و "عبادة الفرد" على رأس الهرم و مركزة الخطاب و القرار و التوجيه و العمل لانفكت عقدة الجمود الحاصلة و قدر للأطراف أن لا تظل راكبة أدمغتها فتتنازل إلى حد قبول الآخر و في ذلك تمهيد للوفاق على الحد الأدنى الذي يحفظ للبلد كيانه و للمواطن أمنه. كلمتان تبدوان ممجوجتين و لم تعد أي منهما تثير الإنتباه و لا القلق مع أنهما فيما عليه، من غياب عن الحس الوطني و يقظة الضمير، و في نشوة الحكم من جهة و غلبة عدم الحصول عليه من جهة أخرى، يمثلان في حالة الإخفاق عن تلافي الواقع المرير "حشوة" المتفجر الشديد الذي لا يبقي و لا يذر، و صمام الأمان و مبعث الأمل في رسو دولة القانون على جودي السلام و الازدهار في حالة تغليب المصلحة العليا للوطن.
و في لجة هذه الظروف المتسمة بـ"عمى الألوان" بغلبة اللونين الأسود و الأحمر، و انسداد الأفق في وجه تصالح ممكن من خلال الحوار المباشر على مائدة "ود الوطن" المشترك الذي دعت له مع ذلك جهات أبقت للأمل في بعض ثنايا المشهد القاتم بؤرا من ضوء مفتقد، تبقى الإنتخابات الديمقراطية بابا لا يحق لأية جهة أن تسده و بأية حجة كانت و إن كان لها أن تسعى بكل الطرق السلمية إلى تأمين أن تكون هذه الاستحقاقات شفافة و نزيهة.
لقد أصبح خيار الديمقراطية "خيارا أمميا". و لم تعد الشعوب الواعية اليوم و في ظل الانفجار الإعلامي و ألمواصلاتي لتسمح بالتراجع عنه في أية بقعة على وجه كوكب الأرض الذي أضحى قرية كونية واحدة مرتبطة الأطراف كالجسد الواحد إذا اضطرب منه يلد تأثرت بذلك البلدان الأخرى. و ليست موريتانيا إلا حلقة في هذه القرية و محط أنظار الأخيرين و قد أحصوا كل صغيرة فيها و كبيرة، تتناقل كل أخبارها و على مدى الساعة وسائل الإعلام التي لم تعد تحمل جنسية و لا تعرف حدودا. في هذا الخضم المتسم بالسرعة العالية و الشفافية المطلقة و على هذه الخارطة الجديدة للعالم تبقى وحدها الدول الديمقراطية التي تجاوزت كل "المعوقات التقليدية" المنتمية للعقلية ولت وعرفت طريقها إلى التناوب السلمي على السلطة الشامخة في وجه زوابع عصر التصفية النهاية للصالحين لولوج مستقبل تنفصل فيه مركبته نهائيا عن حاضر ما زال يحمل من الماضي بعض سوءاته. و لن تكون موريتانيا بأفضل حالا من غيرها من المرشحين للخروج من حلبة السير إن لم تتبن خيار المصالحة مع الذات و التوجه بأسرع ما يكون إلى منصة الانطلاق عساها تلتحم بمحطة العالم الجديد.
فهل يسمع أصحاب القرار و السياسيون في السلطة و على أطرافها هذا الطرح الذي هو ملك الواقع، و إن استخفوا به أو حتى تجاهلوه، فيستفيقوا من إغماءة "التخلف السياسي" ليبادروا قبل فوات الأوان لسرج مطاياهم إلى خضم انتخابات مقبلة تضغط بنتائجها النهائية زر الانطلاق للالتحام بالمحطة الكونية و تمكين البلاد على حد قول الدكتور عبد السلام ولد حرمة رئيس حزب الصواب: "إن موريتانيا تعيش أزمة سياسية لا يمكن تجاوزها إلا بانتخابات توافقية شفافة ونزيهة" يشارك فيها كل الطيف السياسي".