"أخبرني أي لغة تتحدث ..أخبرك كيف ترى العالم..."
استبشرت خيرا بتحرير الفضاء السمعي البصري، ليس انتصارا للحرية كقيمة كونية فحسب، بل لأن فك عقال هذا المجال وإطلاق لجامه سيسمح بالتعبير عن خلجات النفوس المكبوتة منذ أمد بعيد، ويُسطع النورَ على زوايا أدلجت من حياتنا وأفكارنا ويجلو ويشحذ طاقات وإبداعات وشخصيات اكتنفتها زوايا الخمول والنسيان.
كان يقلقني أن إذاعتنا وتلفزتنا الفريدتين والمنفردتين منذ فترة، تحتكران لسان الحال فلا ينطق إلا بما يُرضي السلطان ولو بسخط الرعية وكنت آلم لأن الكثير من الكتاب والمبدعين خاصة من فئة الأحداث لا يجدون من يُصغي إلى صرير أقلامهم أو حفيف أوراقهم حتى تذبل وتتساقط...
ومع أن الآمال كانت جسيمة في غد أفضل لأقلامنا وأصواتنا فقد كنت مقتنعا أن تحرير الإعلام في موريتانيا سيكون سبيلا وعرا ، لأنه يأتي فرضا من لدن المانحين ـ ككل مباهج الديمقراطية ـ أكثر مما ينبع من إرادة وطنية حرة، ولأن تحرير الإعلام المخنوق منذ عقود سيحدث طفرة قد تخرج على الكثير من أدبيات العمل الإعلامي فتكون أقرب إلى " يوميات مراهق " منها إلى التنوير المنشود من الإعلام الحر. أما شح الموارد والمصادر المالية فتكاد تكون بديهة في مجال كهذا في بلدنا.
كنت أتوقع كل ذلك وأفهمه وغيره في فجر تجربتنا الجديدة، سوى أنني أتعزى وأتعلل عن كل ذلك بالكادر البشري الذي حسبته يضطلع يقينا بتلك المهمة ويعوض بكفاءة تلك النقائص.
وانطلقت الإذاعات تترى من كل جانب ومن ركن كل شارع وتنبعث من أثير كل موجة لكنها كانت مخلصة لأمها كما بنات التلفزة الوطنية ..انتقلت كل الصفات الوراثية إلى الجيل الإعلامي الجديد مع تشوه كبير في الأشكال والمضامين...
لا أعرف صراحة أي لغة يتحدث هؤلاء، ولست أدري كيف يرون العالم ولا أستطيع رسم معالم رؤيتهم التي يبدو أنها لا تزال في طور التكون والنشوء لكنها تجمع كل رطانة العجم وخواء الخرائب وأفكار الصبية وطرح الغافلين أو المتغافلين وتجمع كل الهنات والتراكيب المشوهة والممجوجة وسيلا عارما من الجمل المتنافرة والعبارات الناشزة المبعثرة ونزرا يسيرا من الوعي والموضوعية ونورا خافتا من العقلانية والمهنية، وفضلا عن الأخطاء اللغوية والتركيبية هناك ترد في الحوار، مستوى وإدارة ومنهاجا.
لن أقدم للقارئ الكريم اي أمثلة لأن الحال يغني عن المثال ..يكفي أن تدير موجة جهاز إذاعي حتى تكتشف بنفسك قدرة صحافتنا الأفذاذ على تحطيم قواعد النحو البسيط والمبسط ومواهبهم في "تفعيل" الإسم و"تسمية" الفعل ناهيك عن الرفع إلى عنان السماء والخفض إلى حضيض الأرض والنصب والإحتيال على والسطو على الصرف والتصريف في نشرات أخبار تنشر فيها صفحات "باقل" وتطوى قراطيس "قس" إلى إشعار آخر...
من المفارقة أن تشكو الدولة من رأسها إلى أخمص قدميها كثرة أهل الشعر والأدب وأرباب القلم والطرب وتتسمى قبلا بأرض المليون شاعر..ثم لا تجد من يُحسن قراءة نشرة الأنباء، ومعلوم أن المشكلة ليست في انعدام الكفاءات ولكنها في بنية هذه المؤسسات وأسسها التي لم تراعي كما يبدو
الرأي قبل الكلام والمضمون قبل الشكل طبعا، لا مراء في ذلك ولست أدعو إلى التنسك في محراب اللغة أو التشبث بلغة الأعراب ولغة الإغراب فالأمر أبسط والحل أقرب، وفي البلاد الكثير من القامات الإعلامية والأعلام لو أٌنصف الدهر ولن تعدم الأجهزة الإعلامية من يأتي بالأحسن والأجمل لا بل من ينافس على مستوى المنطقة والعالم عندما تُحكم الكفاءة ويسود الإنصاف في مجال حساس وأساسي كالإعلام، لا يتعلق بتربية الناس وتثقيفهم وبالرقابة والتحسيس والوصل بين الأجيال فحسب بل يرسم صورة الدولة ومعالمها في الداخل والخارج... وإلى أن يتحقق ذلك، فليرحمنا فقط أصحاب هذه المؤسسات ويُكرموناـ على الأقل ـ بمن يفرق بين حرية التعبير وحرية التكسير.