توطئة : Introduction
شكَّلت مِحوريّة الاقتصاد والنّجاعة والفاعلية، أو ما يُعرف في الأوساط الفرانكفونية ب"Management des trois E"[*] في الأداء الحكومي؛ مطلباً مُلحاً، ورهاناً ركيزا، ومرتكزا أساسيا في المقاربات الإصلاحية الرّاميةِ إلى عقلنةِ التسيير المالي والإداري.
ولقد تعزّزت الحاجة إلى هذا المطلب مع تزايد الحاجات في ظلّ محدودية الموارد والإمكانات، وتفاقم التحديّات المالية التي تطرحها التغيرات الاجتماعية الكُبرى للقطاعِ العمومي.
ولئن كانت هذه المفردات هي الكلمات المفاتيح للتسيير المُعقلن؛ فقد شكّلت بتركيبتها النظرية، وآفاقها العملية، إحدى أهم مقوّمات الحوكمة الرشيدة، محتلّةً بذلك مكانة بارزة في الفكر الاقتصادي الحديث، دخلت على إثرها، وعبر الباب الواسع، أدبيات المؤسسات الدولية الكُبرى، ذات الدور البارز في صياغة وتوجيه السياسات المالية والاقتصادية للدول. وفي هذا الصدد، تتالت المقاربات المؤطرة لهذه المفردات تحت مفهوم "الحكامة الرشيدة" (Bonne gouvernance) من قبل هذه المؤسسات سعياً إلى إمداد الاقتصاديات المنضوية تحتَ لوائها بآليات ومعايير التسيير الرشيد انطلاقا من الوعي العميق بالعلاقة الوثيقة بين الكفاءة الإدارية ومستوى النمو الاقتصادي.
وفي هذا المضمار، افتتح البنك الدولي (BM) هذه المقاربات نهاية عقد الثمانينات من القرن المنصرم، عبر سلسلة من التقارير قدم خلالها تصورا شاملا حول مفهوم الحكامة الرشيدة، لتتتالى بعد ذلك مقاربات المؤسسات الدولية الأخرى كصندوق النقد الدولي (FMI)، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (PNUD)، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE) وغيرها من المؤسسات الدولية الكُبرى، المؤطرة والداعية لهذا التوجه الجديد الرامي إلى جودة الحكامة ودعم الشفافية.[1]
ودون الإطنابِ في الحديث عن فحوى هذه المقاربات، يُمكن القول اختصارا إن أهم ما دعت إليه خُلاصاتها يمكن حصره في بعدين رئيسيين أساسيين؛ الأول منهما سُلِّطَ الضوءِ فيهِ على السياسات العامة، فأوصِيَ فيه على ضرورة واقعية هذه السياسات، وانفتاحها، وبُعد النّظر في أهدافها ومراميها. بينما تركزّت الخلاصة في البعد الثاني على الجانب التنفيذي، فأُوصِيَ فيه على كفاءة الجهاز الإداري ومهنيّته.
وفي هذا الإطار، وإسقاطاً لهذه الخلاصات على الحقل المالي والمُحاسبي، نُصّ على الدّقة في السياسات الميزانوية ضماناً للواقعية والوضوح، والتوافق في لغة المحاسبة في القطاعات الحكومية ضماناً للانفتاح والشفافية، والبرمجة في الميزانيات ضماناً للنتائج ووجاهة الإنفاق، كما نُصّ على الجودة الهيكلية والتنظيمية للمؤسسات العمومية والوحدات الاقتصادية ضمانا للفاعلية والنجاعة في التنفيذ.
وقد سايرت الدول هذه التوجيهات، فشرعت مواكبةً لهذا التحول في اعتماد مقاربات ميزانوية جديدة انطلاقا من اعتبار أن مستوى النمو الاقتصادي هو المرآة العاكسة لجودة الحكامة. وهكذا، ظهر بشكلٍ عمليٍ وعلى نطاقٍ واسع؛ مفهوم الإدارة بالنتائج (Management par objectifs) [*] كتوجه جديد اعتمدته الدول في تسيير ميزانياتها، وهو التوجه الذي يتبنى موازنة البرامج والأداء (BPP) المؤسسة على عقلنة الخيارات (Rationalisation des choix)، وذكاء الأهداف (SMART objectives).[2]
وانطلاقا من هذه المعطيات، ومُسايرةً للتوجه الدولي الجديد، ووعياً بالدور الأساسي الذي تلعبه أساليب الإدارة الحديثة، وكذا المعايير المُحاسبية الدولية في عصرنةِ الإدارة وتجسيد الشفافية، وسعياً إلى تحقيقِ انفتاح اقتصادي يُواكب التطوّر الدوليّ، ويُعزز ثقة الفاعلين الاقتصاديين والشركاء الدوليين استقطاباً للاستثمارِ تمكيناً للتنمية؛ سعت وِزارة المالية مُمثّلَةً في هيئاتها الإدارية مُؤطرةً بسياستها الاستشرافية حول الحكامة الرشيدة إلى وضع جملة من الإصلاحات المالية تُؤسس لتسيير مالي وإدراي جديد معقلنٍ سبيلا إلى تحقيق الفاعلية في الأداءِ الحكومي ترشيدا للمواردِ وعقلنةً للإنفاق.
وقد تمثّلَ هذا التوجه الإصلاحي في سِلسلة من الإجراءاتِ الإصلاحية بدأتها بوضع القانون النّظامي (Loi organique) رقم 039/2018 الصادر بتاريخ 2018/10/09 الذي ألغى وحلّ محل القانون النّظامي (Loi organique) 78-011 الصادر بتاريخ 1978/02/19.
لقد شكّل هذا القانون النّظامي الأَثاثَ التشريعيَّ للنُقلة النوعية التي أحدثَتها الوزارة في الفلسفة المُوجِّهة للتسيّير الميزانوي، حيث أسَّسَ لجملة من التحديثات العميقة في المالية العامة ارتكزت على تحوُّلين عملاقين جوهريَّيْن :
الأول هو التحوّل على المستوى الميزانوي من نظام موازنة الوسائل (Budget de moyens) القائمة على روتينية التخصيص (Services votés) وشبه تلقائية إقرار النفقات (Reconduction semi-automatique des dépenses)، إلى نظام موازنة النتائج (Budget axé sur les résultats) القائمة على التخطيط الاستراتيجي (Planification stratégique) وربط الاعتمادات الميزانوية (Crédits budgétaires) بالبرامج والأداء تطبيقا للمادة 25.
والثاني هو التحوّل على المستوى المُحاسبي من النظام النقدي (Méthode de comptabilité de caisse) المنغلق على التدفقات النقدية (Flux de trésorerie) حصرا للاهتمام المحاسبي على الدفع والقبض (Encaissement et Décaissement) إلى نظام الاستحقاق (Méthode de comptabilité d'exercice) المنفتح على التعهدات والتوقعات (Engagements Et Prévisions) والقائم مبدأ معاينة الحقوق والواجبات (Principe de constatation des droits et des obligations) وذلك تطبيقا للمادة 66.
إن عُمق هذا التوجه الإصلاحي وشمولية مقتضياته لمختلف أبعاد وجوانب المالية العامة، أمليا ضرورة تنفيذه على نحوٍ تدريجيٍ يمر بالعديد من المراحل المُمهّدة للانتقال من التسيير التقليدي القائم على منطق الوسائل إلى التسيير الجديد القائم على منطق الأهداف والنتائج. وهو ما حدا بوزارة المالية إلى اعتماد مقاربة تهميدية ذات مدى يصل 5 سنوات قابلة لإضافة سنتين ضمّنتها لمقتضيات القانون النظامي الجديد، بدأت سنة 2019. وخلال هذه الفترة الانتقالية التي انقضت، وفي خِضم التحضير لهذا التحول؛ تحقّقت على أرضِ الواقعِ جملة من الإصلاحات الجوهرية لعلّ أهمها :
أولا : تحيين المنظومة القانونية المالية والمحاسبية.
Mise à jour du système juridique, financier et comptable.
عمدت الوزارة في هذا الإطار إلى مراجعة مختلف النصوص القانونية والتنظيمية الضابطة للتسيير الميزانوي والمحاسبة العمومية، وذلك بغية مواءمتها للتوجه الإصلاحي الذي جاء به القانون النظامي الجديد، وهو ما تمثل في المراجعات التالية :
1- استحداث مدونة ضرائب جديدة (Code général des impôts) جامعة في خطابها التشريعي مجمل المقتضيات الجبائية، مُشتمِلة في بُعدها الاستقطابي على مُحفّزات الاستثمار، متضمّنة في مردوديتها الإيرادية دعائم الميزانية، وقد ضُمِّنت هذه المدونة في القانون رقم 019/2019 الصادر 2019/04/29.
2- استحداث مدونة تسيير ومحاسبة جديدة (Règlement général de gestion budgétaire et de la comptabilité publique) ضابطة في آلياتِ تحصيلها، مرنة في مساطر إنفاقها، مُلائمة في تسييرها للتوجه الجديد. وقد بُثَّت في المرسوم رقم 2019/186 الصادر بتاريخ 2019/05/31.
3- اعتماد حزمة معايير محاسبية جديدة موافقة في معالجاتها ومخرجاتها لمعايير المحاسبية الدولية للقطاع العام (IPSAS: International Public Sector Accounting Standards) ستدخل حيز النفاذ النهائي سنة 2023، وقد وُضِعت قيد النفاذ التجريبي بمقتضى المقرر رقم 000804 الصادر 2019/10/08. .
4- تحديث منظومة التبويب الميزانوي (Nomenclature budgétaire) ضمانا لتخصيص أمثل يربط بين الفصول الفرعية (Sous-chapitres) والأنشطة (Activités) لتسهيل قراءة هيكلة الميزانية[2]، وهي الآن بهذا التحديث قيد النفاذ والتنفيذ.
5- تحيين منظومة الإنفاق عبر الطلبية العمومية (Commande publique)، حيث أدخلت تعديلاتٌ جوهرية لمدونة الصفقات العمومية (Code des Marchés publics) وأخرجت في إطارٍ تشريعيٍ جديد أكثر مرونة وانسيابية، وقد ضُمِّن في القانون رقم 024/2021 الصادر بتاريخ 2021/11/13.
هذا بالإضافة إلى تحيين النص التطبيقي (décret d'application) لمواءمته للتوجه الإصلاحي الجديد، وقد بُثَّ في المرسوم رقم 2022/083 الصادر بتاريخ .2022/08/06
ثانياً : عصرنة أنظمة المعلومات المالية والمحاسبية.
Modernisation de systèmes d'information financière et comptable.
نظرا إلى ضرورة عصرنةِ الإدارة على المستويين الرقمي والمادي في التسيير الرشيد، وشمولية التوجه الإصلاحي المُتبنى في الحقل المالي؛ عمدت الوزارة إلى وضع مخطط تحديث معلوماتي شامل لكل أنظمة المعلومات التي يعتمد عليها القطاع المالي في التسيير والمحاسبة، وفي هذا الصدد تحقق تمهيدا لهذا التحول الجديد ما يلي :
1- تحديث نظام المعلومات المالية "رشاد"، واعتماده في نسخة جديدة (RACHAD 2) تستجيب لمعايير الشفافية والمرونة والأمان بما يضمن سرعة وانسيابية مسطرة النفقات ووثوقيتها، حيث تُتيح إدراج الوثائق التبريرية (Pièces justificatives) عبر الماسح الضوئي (Scanner) تعزيزا للطابع اللامادي للتسيير (Dématérialisation de gestion)، مع ربطه بنظام "جباية" (JIBAYA) لضبط رقم الهوية الجبائية (NIF) للموريدين (Fournisseurs) للحد من التهرب الضريبي وضبط التوريد. هذا بالإضافة إلى أنه بفعل هذا التحديث أصبح يتيح ولجميع القطاعات الحكومية إمكانية ولوج جميع المتدخلين (Intervenants) في عمليات النفقات دعماً للامركزية التسيير، بدءا بمسؤولي مرافق الخدمة المصدرين الأصليين للنفقات (Responsables de services émetteurs)، مرورا بالآمرين بالصرف (Ordonnateurs) والمراقبين الماليين (Contrôleurs financiers) انتهاءً بالمُحاسبين والمسدّدين (Comptables/Payeurs). هذا مع إدخال بعض التعديلات التنظيمية المؤطرة لهذا التحديث على الترتيبات المحددة لصرف النفقات لمواءمتها للتوجه الجديد بواسطة المقرر رقم 000244 الصادر بتاريخ 2020/04/09.
2- تحديث برنامج "تحضير" (TAHDIR) الذي تعمل به الإدارة العامة للميزانية (DGB)، وإصداره في نسخة حديثة تُمكِّن لأول مرة من إعداد الميزانية وفق موازنة الوسائل والنتائج ذات البرمجة المُتعدّدة السنوات (Programmation pluriannuelle)، وذلك لربط الاعتمادات الميزانوية بالسياسات والبرامج الحكومية الكبرى من خلال إتاحة إمكانية إدخال معلومات ووثائق ومسودات مشاريع ميزانيات القطاعات عبر الولوجِ إليهِ من خلال الانترنت على الرابط (10.1.77.241)[3] وذلك ما أضحى متاحاً للمتدخلين في عملية إعداد مشاريع الميزانيات كالمسيّرين والمراقبين الماليين. وهو ما سيُسهّل في المستقبل علمية المتابعة والتقييم للبرامج، ويُساهم في تعزيز فاعليتها. وبفعل هذه التحديثات النوعية أتاح "تحضير" إمكانية ربط السياسة الميزانوية الجارية الآن بالاستراتيجية الوطنية لتسريع النّمو والرفاه المشترك (SCAPP)، وببرنامج "تعهداتي" (Mes engagements) وهو الأمر الذي سيجعل تقييم الأداء في هذه البرامج، ومتابعة نتائجها؛ سهلا ومتاحاً في أي وقت.
3- استحداث نظام المعلومات "أرقم" (ARKAM) وتهيئته للحلول محلّ نظام بيت المال (Beit El mal) الذي تعمل به الإدارة العامة للخزينة (DGTCP)، وهو نظام أكثر مرونة، لما يتيحه من تسهيل لإجراءات متابعة النفقات وتقليص آجال الدفع ووضع المخطط المحاسبي للدولة وإرساء المحاسبة وفق مبدأ معاينة الحقوق والالتزامات[3]، هذا بالإضافة إلى ولوج كافة المتدخلين عبر الأنترنت مع سهولة وتبسيط علميات التقييد والمتابعة (Saisie comptable et suivi). وهو ما سيساهم لاحقاً في تسهيل مركزة المحاسبة (Centralisation comptable) ومن ثمّ تبسيط عملية تحضير قانون التسوية (Loi de règlement)، ودقة قوائم العمليات المالية (Tableaux des opérations financières) بما ينسجم مع المعايير الدولية للمعلومات المالية (NIIF : Normes internationales d’information financière) وهو الآن قيد التجريب تمهيدا للاعتماد النهائي.
إن الأهداف الكُبرى التي يسعى إليها هذا التوجه الإصلاحي الذي شرعت الوزارة في التحضير له على مختلف الأصعدة، والذي تحقّقت غالبية بنوده؛ هي كالتالي :
أولا : عقلنة الخيارات الميزانوية.
Rationalisation des choix budgétaires.
يهدف هذا المقتضى الإصلاحي إلى الاسترشاد بالأساليب العلمية والعملية الدقيقة لاختيار النفقات العمومية تعزيزا للفاعلية والنّجاعة، وإضفاء المزيد من الوضوح على الخيارات الاستراتيجية من خلال اعتماد البرمجة المتعددة السنوات بما يضمن المساهمة الإيجابية في الاقتصاد الكلي[3]. وهذا معناه على الصعيد الميزانوي أن المقاربة الميزانوية للدولة ستنطلق في وضعها الجديد من الجزئيات نحو الكليات، وهو ما سيجعلها استقرائية أكثر مما هي قياسية، واقتصادية أكثر مما هي سياسية، وتجسيدا لهذا التصور عمليا فإنه سيُصبح إلزامياً أن تُحدّد كل القطاعات الحكومية أهدافها بدقة عالية وفق معيار (Methode SMART)، وهو ما يقتضي أن تكون هذه الأهداف محددة (Spécifique)، وقابلة للقياس (Mesurable)، وقابلة للتحقيق (Atteignable)، وواقعية (Réaliste)، ولها إطار زمني محدّد (Temporel).
هذا مع تحديد الوسائل (Moyens) المستخدمة لبلوغ هذه الأهداف، وكلفة (Coût) كل وسيلة على حدة مع ضرورة التركيز على عقلانية هذه الوسائل ونجاعتها. بالإضافة إلى وضع برامج (programmes) لكل هذه الأهداف وفق موازنة التخطيط متعدد السنوات، وتجزئتها بما ينسجمُ مع مبدأ السنوية (Preincipe d'annualité) لرصد اعتمادات الدفع (Crédit de paiement) وفق ما يفرضه مبدأ استقلالية السنة المحاسبية (Principe d'indépendance des exercices) مع اقتراحِ مؤشرات أداء (Indicateurs de performances) لقياس أعمال هذه البرامج تعزيزا للرقابة والمتابعة والتقييم، وذلك على ضوء إلزامية تحقيق النتائج.
ثانياً : لا مركزية المحاسبة.
Déconcentration comptable.
يهدف هذا المقتضى الإصلاحي إلى تسريع ومرونة مساطر النفقات ضماناً للإنجاز وفق الآجال والشروط المرسومة للأهداف. وفي هذا الإطار عمدت الوزارة إلى تبني لا مركزية الأمر بالصرف على مستوى القطاعات الوزارية (déconcenration de l’ordonnancement au niveau ministériel) لتمكينها من الاضطلاع بمهامها وفق ما هو محدّد في برامجها الميزانوية، وقد دُعمَ هذا الإجراء لضمانِ جدوائيته بتقريب وكالات التسديد (Proximité des paieries) عبرة لا مركزية الدفع، حيث أصبح لدى كل قطاعٍ وِزاريٍ قُطبٌ مُحاسبي يرأسه مُسدد (Payeur) خاص به يعمل على تسديد نفقاته، ومسك حساباته وفق إجراءات مبسطة وقريبة من دوائر صنع القرار عِوضاً للمسطرة القديمة التي كانت تستغرق وقتاً أطول وإجراءات أكثر تعقيدا نظرا لشبه مركزية الدفع والأمر بالصرف على الإدارة العامة للميزانية والخزينة العامة. هذا بالإضافة إلى تسديد وتسيير سيولة المشاريع والمؤسسات العمومية الخاضعة لوصايتها، وهو ما أصبح يُعرف الآن بأقطاب المحاسبة الوزارية (Département Comptable Ministériel).
ثالثاً : تعزيز مراقبة التنفيذ وجودة الأداء.
Renforcement du suivi de l'exécution et de la qualité des performances.
يهدفُ هذا المقتضى إلى وجود نظام مراقبة أكثر صرامة وأوسع مجالا، حيث لا يقتصر على مسألة الشرعية (Légalité) والانتظامية (Régularité) في مساطر الإنفاق كما كان مُعتمدا في النّظام القديم، بل يتجاوزهما إلى التحقّق من فاعلية النفقات ونجاعتها (Efficacité et Efficience)، وذلك من خلال قياس الأعمال المنجزة عبر مؤشرات أداء (Indicateurs de performances) كمية (Quantitatifs) وكيفية (Qualitatifs) لتحديد مدى مسايرتها لتطلعات الأهداف المرسومة. وهو ما يُرتَّبُ الآن لوضعه على قيد النفاذ بشكل نهائي.
رابعا : تعزيز مسؤولية المسيّرين العموميين.
Renforcement de la responsabilité des gestionnaires publics.
يرتكز هذا المقتضى الإصلاحي على مبدئية أنه حيثما توجد السلطة؛ فثمة المسؤولية (Là où il y' a un pouvoir, il y' a une responsabilité)، وبناءً على ذلك عمدت الوزارة إلى توسيع حرية المسيّرين العموميين في تسيير قطاعاتهم، وفي مقابل هذه الحرية وضعت وزارة المالية خريطة للمسؤوليات أكثر وضوحاً ودقة، بحيث أنه أصبح كلّ مُسيِّرَ عمومي في حدود السلطة المخوّلة له في تسيير القطاع الحكومي الذي يرأسه، أو المؤسسة العمومية التي يُديرها وفي حدود الحرية المالية المخوّلة له في تسيير الموارد الممنوحة للقطاع أو المؤسسة الموكلة إليه؛ أصبح في حدود ذلك ملزماً بتحقيق النتائج والأهداف التي على أساسها مُنحَ الإمكانات المالية والإدارية في التسيير.
ولهذا الغرض، سيُلزم كل مسيّر بإعداد تقارير أداء (Rapports de performances) دورية (périodiquement) لمقارنة حصيلة النتائج المحقّقة بالأهداف المرسومة، وذلك لتقييم الأداء على ضوء الفاعلية والنجاعة.
خامساً : أَخْلَقَة العلاقة بين السلطة التنفيذية والبرلمان.
Moralisation des relations entre le pouvoir exécutif et le parlement.
أدخلَ القانون الإصلاحي الجديد مبدءًا جديدا لحزمة المبادئ الميزانوية التقليدية، هو "مبدأ الصدق" (Sincérité)[*]. وهو مبدأ تُراقب على ضوئه مسألة دستورية قوانين المالية (Constitutionnalité des lois des finances)[6] الذي يقتضي أن تكون المقاربة الميزانوية بكل أبعادها وتفاصيلها صادقة في إرادتها، ومعطياتها، وحساباتها.
وقد فسرته المادة 3 من القانون النظامي الجديد بأنه تقييم موارد وأعباء الدولة بصدق وبما يضمن استدامة المالية العامة واحترام التزامات الدولة المتعلقة بالتوازنات الميزانوية والمالية.
ويهدفُ هذا المقتضى الإصلاحي إلى إضفاءِ صبغة أخلاقية على العلاقة بين جميع أطراف التسيير العمومي وخصوصاً السلطة التنفيذية والبرلمان تجعل وثيقة قانون المالية (Loi de finances) عقدا أخلاقيا (Contrat moral) قائماً على التعاون والتبادل (Échange et coopération) بدل التنازع والتصادم (Conflit et collision)، بمقتضاهُ تصدُقُ وتُصَدَّقُ الحكومة في مقاربتها الميزانوية -افتراضا لمبدأ رشد الإدارة- في مقابل توسيع دائرة الرقابة للبرلمان في المجال المالي. وهو ما تجسد في التنصيص على وجوب إرفاق قانون المالية بما يقارب 30 وثيقة منها ما هو دوري متجدد، تتراوح ما بين تقارير وكشوف وبيانات مُفسِّرة وموضحة للميزانية وأهدافها سبيلا إلى الشفافية والتمكين للمتابعة والرقابة. وهو المقتضى الذي يُعمل الآن على تعزيزه من خلال تسهيل الولوج -المادي والرقمي- للبرلمان لمختلف منافذ التسيير العمومي ليُمارس سلطاته القانونية الواسعة في الرقابة المالية.
الخلاصة : Conclusion
أنّه يُمكنُ القول، دون مزايداتٍ في تطلّعاتِ التوجه أو إجحافٍ في مؤشرات المُنجَزِ، وانطلاقاً مما ذُكِرَ مدعوما بالمعطيات والبراهين؛ أن توجهاً إصلاحيا مؤسسياً "صَامِتاً" يُكرّس فلسفة تسيير جديدة (Nouveau Management Public) تقوم على عقلنة الإنفاق بالبرامج، وتحصين البرامج بالمصداقية، ورهن المصداقية بالنتائج، وتدعيم المسؤولية بالمساءلة ضماناً للشفافية وجودة التسيير؛ قد أُحكِمَت مرتكزاته، ووُضِعت مقوّماته، وما بقي في هذا المِنوال؛ أضحى منحصرا في ضرورة إسهام الجميع دون استثناءٍ، بكفاءة الأداء، وروح المسؤولية، وتعزيز الجهود.
وفي هذا الصددِ، ومن منطلق المساهمة في تأطيرِ التوجه الإصلاحي تبدو لي المقترحات العملية التالية خادمة لجودة التسيير :
1- تشجيع الكفاءة من خلال حوكمة إسناد المسؤولية وإخضاعها لمعايير الأهلية والفاعلية والاستحقاق تماشياً مع مقتضيات التوجه، وضماناً لجودة التنفيذ.
2 - تعزيز مؤهلات الكادر البشري من خلال تكثيف التكوين، وتحديث آليات تطوير مستوى الأداء والكفاءة، والعمل على لائِقيَّة الظروف المعنوية والمادية للموظّف.
3- تشجيع الإنتاج والابتكار في العمل من خلال تثمين المبادرات العملية وخلاصات البحث العلمي والانفتاح على مخرجاته بما يضمن تهذيب المسار ووضوح الأفق.
4- تكثيف مهام التفتيش ودعمها بكل وسائل الضبط والمراقبة مع تعزيز المسؤوليات الإدارية والمالية بصرامة المساءلة وتفعيل سياسة الجزاء الصارم صوناً للتوجه من المسالك المتعارِضة مع مقتضياته، وسدا للباب أمام التقصير والإهمال.
5- زيادة وتعميق قنوات التنسيق والتبادل والنقاش بين الوزارة والبرلمان والقطاعات الحكومية والمجتمع المدني حول إشكالات التسيير واختلالاته توجيهاً للجهود وضمانا للاستفادة من مشاركة الجميع.
6- العمل على خلق بيئة عمل مُنفتحة على تنوع التخصصات بما يضمن النجاعة في التعامل مع مختلف تحديات الإدارة "المُركّبة" التي تتطلّب مجهودا مُركباً لا غنى فيه عن مساهمات مختلف التخصصات.
7- مراجعة نظام الصيانة المعلوماتية، وتعزيزه ودعمه بكل المستلزمات المالية واللوجستية الضامنة لأمن وسلامة المعلومات ودوام الإمكانية للوصولِ إليها.
8- تعزيز جاهزية الإدارات العمومية للعمل، من خلال توفير الوسائل والمعدات اللوجستية والعناية بلائقيَّة الظروف ضمانا لمناخ عمل مُشجّع وملائم.
9- إعادة النّظر في واقع شبكات الاتصال، وضرورة احترامها لمعايير الجودة والجاهزية التكنولوجية لخلق مجتمع معلوماتي رقمي مرن وفعال خادم بجودة شبكاته وفاعلية أجهزة اتصاله للامادية التسيير خصوصا فيما يتعلق بشبكة المحاسبين والإدارات الجهوية في الداخل.
10- الانفتاح على الرأي العام، والإسهام في تكوين الانطباعات العامة حول التوجه الإصلاحي الجديد، من خلال التثقيف وإتاحة المعلومات والتعاطي الإيجابي والمُكثّف على الصعيدين الافتراضي والواقعي تقريباً للإدارة من المواطن وسدا للباب أمام مساعي التوتر بين السياسات الإصلاحية المُتبناة والمواطن المستهدف بها.
___________________________________
المراجع والمصادر : Références
*- Efficacité, Efficience, Économie.
1- محي الدين شعبان، الحوكمة الرشيدة : مكافحة الفساد منظور اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2014، ص 48-66.
* - Le concept à pour source le « management par objectifs », présenté par Peter Drucker dès 1954 (« The practice of management ») puis détaillé en 1964 avec l’ouvrage « Managing for results » (traduction française « Bien connaître votre affaire et réussir ») : un manuel de management lié au secteur privé et à la réussite de l’entreprise.
* - L’acronyme SMART est la création de George T. Doran que celui-ci a partagée pour la première fois au public dans un article intitulé There’s a S.M.A.R.T. way to write management’s goals and objectives, publié dans le numéro de novembre 1981 de la Management Review (Spokane, Washington).
2 - Lettre ciculaire de mise en place du budget 2022 et préspectives du budget de 2023 n° 003/2022/MF.
3 - Lettre ciculaire de préparation du projet de loi de finances 2023 n° 0008/22. 26/08/2022.
4- Document conceptuel sur l'introduction du budget-programme en Mauritanie.
5 - Lettre ciculaire de mise en place du budget 2021 et préparation du projet du budget 2022 n° 0001/2021/MF.
6 - شكراني الحسين، الوجيز في المالية العامة دراسة معيارية، مطبعة النجاح الجدبدة(CTP)، الدار الببضاء، 2019، ط1، ص73.
* - En france : La décision n° 82-154 DC du 29 décembre 1982 portant sur la loi de finances pour 1983 peut être considérée comme la première décision du Conseil constitutionnel fondant le principe de sincérité.