أزفت سُنون المَحاق السياسي وجف الضرع ونفقت آخر القطعان البشرية من خراب المراتع.. أحزاب عجاف وكلام معلول مكرور ممجوج وبقايا دموع تماسيح المستنقعات الإيديولوجية العفنة. ووصل الجدب حده بعد امتياح المجتمع أعراقا وفئات وقبائل شتى وجهات، ونسي عباقرة السياسة أن ثروة الحقد والبغضاء والشحناء ليست من ثروات البر والبحر المتجددة...
أصبحت مبادئهم غورا وخلت عروشهم على عروشها وغدوْا على حرد قادرين.
لم تجد نخبتنا السياسية كثيرا لتُقدمه للشعب إذ أعجزها المخْر في عَباب التنظير السياسي والمشروع الوطني وأعياها البحث عن متكآت فكرية رصينة ومبادئ أخلاقية سامية تحْدوا بها ركبَ الأمة فأرعوت تضرب على وتر الحساسيات آية على الوهن والخوَر وافتنانا في فن الابتياع وصنوف التقسيط والترويج.
هذه النخبة السياسية التي تسوس البلاد والعباد وتسومهما موالاة ومعارضة وما بينهما لم يسجل لها التاريخ نضالا سياسيا شريفا ولا قناعات فكرية واضحة المعالم ولم تقدم عملا اجتماعيا أو تعبويا يُحتفل به، لذلك ارتبط تاريخها بالأفراد والجهات فحُكم عليها بالفناء والأفول والاضمحلال...
بُنيت الأسس الأولى على الارتزاق من أول يوم فتلوثت حميمية اللحمة الاجتماعية بعقاقير التفرقة وتشتتت أواصر التآلف ووشائج القربى والمودة، وأضحى المجتمع قنابل موقوتة تلعب بها أمواج التيارات والأحزاب والجهات تتخذها جُنَّة كلما ضاقت عليها دروبها وتقذف بها رجْما في مظان التهريج والترويج الإعلامي ...
لابد أن نقف طويلا عند هذه الأحداث المتوالية المتواترة التي تجاوزت حد الوقائع المعزولة والتصرفات الناشزة النافرة إلى مستوى ظاهرة سياسية بكل المقاييس تشي بخطر محدق يتهدد الدولة والمجتمع ...
قد يكون من المقبول في سُنن الممارسة الديمقراطية أن يبلغ الاستقطاب حدودا وتتنامى لهجة التهديد والوعيد بين أطراف تتبنى رؤى و أطروحات مختلفة متباينة تلتقي كلها عند مصب واحد هو غاية القصد ومنتهى السبيل وهو منبعها وإن اختلفت المشارب والمسالك.
ولكل حكومة تأتلف مشروعٌ تسعى جهدها وتسخر طاقاتها لأن يستكمل آخر أهدافه ويحقق أسمى مطالبه لأنه مستمد في الأساس من واقع الشعب وموجه لإرضاء رغبات الناخبين عرفانا ووفاء ومآرب أخر.
يبلغ الجدل أوجَه في كل المجتمعات المتقدمة حول العديد من المسائل التي يصعب بل يستحيل الإجماع حولها في الفكر والسياسة والاقتصاد... وتبقى الكلمة الفصل للرأي السديد والعقل الحصيف المشفوع بأدلة وبراهين تذعن لها الأذهان وتخضع القلوب وتهطع الرؤوس إحقاقا للحق واعترافا بالآخر..
وإلا فالأمر من الشعب وإليه وهو الحكم المحكم المرضي حكمه، صاحب الأمر والنهي في المنتهى ... وكما يقع الاختلاف في هذه الأمور يحدث أيضا أن تتباين التفاسير والمقاربات في بعض أمور الدين ونوازله فينبري لها من أهل الذكر من يشفي الغليل ويزيل اللبس ويريح النفوس ... كل ذلك في جو من السكينة والهدوء والسلم والسلام الذي يشكل عماد كل مجتمع وأساسه المتين ..
وإنما تتولى النخب الوطنية أمور الشعب والدولة إيمانا بالقدرة والمرونة والإنصاف والاعتدال ومراعاة المصالح العليا للشعب والوطن التي يَجمُل ويجب أن تكون ديدن هذه النخبة التي يفترض أيضا أن تكون على قدر عال من الحنكة والمسؤولية يخولها أن تَخرج من كل المَهامِهِ والقلاقل كما تخرج الشعرة من العجين ... فهل هذا هو حال نخبتنا السياسية ؟؟؟
ينبغي أولا أن نضرب الذكر صفحا عن ما قد يحدث من حوادث بفعل المصادفة أو سوء الفهم والتصرف والتسرع الذي قد يطبع حدثا من الأحداث أو شخصا من الأشخاص لكنه يبقى شذوذا لا يعتد به ولا يمكن أن يحكم من خلاله على جيل أو حزب أو طبقة سياسية ...
ولكن الحقيقة المعاشة اليوم تثبت العكس لنا... فقد أصبح النشاز والشذوذ والندرة أوصافا ونعوتا لا يمكن أن تطلق إلا على الممارسة السليمة والشخصيات المعتدلة والوطنية في طبقتنا السياسية... أما السواد الأعظم من موالاتنا ومعارضتنا وشخصياتنا الحزبية وقادتنا السياسيين فلهم شأن آخر ..
ليس من العجب في شيء أن يكون في مجتمعنا ذي السحنة القبلية والأطراف الجهوية والقواعد الطرُقية أشخاص ورجالات التفّ حولهم جمع من المريدين السياسيين أو الدينيين أو العرقيين يُسبحون بحمدهم ويقدسون لهم ويحرقون القرابين ممارسة لطقوس الولاء والطاعة ..
ولن يستوي في السياسة أهل الدثور والمقتِرون من أولي الفاقة فلهم عليهم درجات في السيارات رباعية الدفع والفنادق خماسية النجوم ...
غير أن المشكلة الحقيقة القَمينة بالنظر والتأمل ــ اعتصاما بحبل الوطن وأركان الدولة ــ هي ما وصلت إليه نخبتنا وشخصياتنا السياسية في الفعل والخطاب ..
قد نسكت عن بيع الأسماك والحديد والبر والبحر وقد نبيت على الطوى ونصبح على مسيلات الدموع والدماء ليس إقرارا بالهزيمة أو تخليا عن حق كل موريتاني في أن يعلم من أين لكم هذا... لكن حفاظا على بقية أخلاق وأعراف وعلى خيط ضئيل دقيق لا يزال يلم شتاتنا...
إلا أن للموريتانيين حَياضا لا يٌرام ولا يحام حوله أيا كانت الدواعي والنوايا، يتعالى على كل الاعتبارات صونا للهوية والذات وحفظا لماء الوجه ودماء الآباء من كل سياسي مارد..
كأن لم يبق من هذا الوطن بأرضه وأهله ومائه وسمائه إلا بقيةُ حَشاشة تتنازعها نوازع النفوس المسعورة بحب الحياة ولو ثمنا لحياة الوطن...
عقود خلت تحولت فيها معاني الولاء للوطن والدولة وتقزمت شعارات البناء والتقدم والتحديث حتى غدت مومياء محنطة في زوايا القصور الرخامية وتخثرت فيها حَمِية الأمة والقضية حتى غدت أصواتا مبحوحة، وخمد وهج الإصلاح والتغيير وجفت الأقلام وطويت الصحف في خرائب الأحزاب السياسية والتيارات المهددة بالانقراض.
غلبت على لغة الخطاب والتخاطب صيغة الأنا الفرد الأوحد الذي أضحى رمزا للأمة والقضية والمصير وغارت شعارات محاربة الفساد واستترت وراء شركات خفية الاسم والهوية...
تلاشت روح الدولة والمؤسسات العامة وراء ذوات الأفراد فحكم عليها بالفناء لارتباط مصائرها بعدمية الوجود والكيان.
لذلك اندثرت معالم الطريق إلى الرقي والازدهار والتجانس وطوَّحت المطامح الشخصية بمشروع الأمة وتعاورت النزواتُ الفردية مآلاتِ الشعب والدولة التي تحولت إلى مؤسسة شخصية لا يتفيأ ظلالها إلا أولو القربى والحظوة.
كل ذلك لأن حياتنا ومشاريعنا ومبادئنا غدت رهينة الأفراد فتسمت الأحزاب بأسماء الأشخاص والطرقُ ووسائلُ النقل وشرطة المرور... وتحولت الدولة من دولة شعب إلى دولة فرد، وشأنُ الفرد أن يهفو ويحيد وينحرف ومصيره إلى زوال وإن طال به الأمد... مآله إلى النسيان والتآكل والاضمحلال بينما لا يتأسس الوطن ولا تتوطن وتتوطد أركانه إلا في وجدان الناسِ الشعبِ الجمعِ والجميعِ يتجدد ويتمدد في القلوب وترسى دعائمه في سرائر الأنفس وتضرب عروقُه في أصول الضمائر ليكتب له البقاء والخلود. ولا تقاس قوة البلدان وعظمتها بثروات مطمورة في باطن الأرض أو أخرى مغمورة في أعماق البحار ولا تُحد بشساعة الحدود والتخوم بقدر ما تنمو وتتمدد حصرا وقصرا في وجدان أبنائها وضمائرهم لتتقوى بما ملكت يمينها من آيات التقدم الفكري والحضاري يوم تُقيَّض لها نخبة حقيقية لا تتشبث بالحكم أكثر من الحكمة ولا تستعجل الثورة للثروة ولا تدعو للإصلاح قبل الصلاح... حقوقها لا تنتزع بحرق الكتب بل بحرق الأحقاد والضغائن، وموالاةٌ لا تَشْتري الذمم في القصور والفنادق لكنها تشتري القلوب في الضواحي والأحياء الشعبية...
معارضة يكون تواصلها مع الداخل أكثر من غيره وموالاة يكون اتحادها من أجل جمهورية الشعب لا من أجل جمهورية الفرد.