حدث أبو معاذ، قال.. يكدح الناس أيام الأسبوع في كسب معاشهم، فتملأ الدنيا عليهم عالمهم.. ينشغلون بأمورهم الخاصة، ولا يفوتون، غالبا، الشأن العام المحلي، فيتابعون نقاش النواب في الجمعية الوطنية، حيث المواقف على خطي نقيض، وتصور الوقائع تبعا لذلك.. بالنسبة لنواب المعارضة البلد في أزمة خطيرة،
والمستقبل مظلم، ولا مخرج من المأزق إلا على أيديهم.. ثم تسمع صوت نواب الموالاة يصقل الوجه المضيء للميدالية.. فتتساءل هل يتكلم الطرفان عن البلد عينها؟ وحين لا تجد مفرا من الإجابة بنعم تلجأ إلى حيلة، لجأ إليها واصل بن عطاء من قبل، فتقول إن أحد الفريقين كاذب لا بعينه! ثم تنتقل إلى "حمالة الحطب" لتعرف إلى أين وصل خراب الوطن العربي، فتكتشف أن ابن برد لا زال مقيما بين خرائب جلق لكن وداعه بات وشيكا، وأن صالحا هو الذي عقر الناقة، ولا زال يطارد فصيلها..
تلعن الشيطان وجزيرته، وتستغفر للمعارضة والموالاة... وتستعد لتلبية نداء صلاة الجمعة. لكنك تفاجأ بما لم يخطر لك على بال.. كلما اقتربت من المسجد خيل إليك أنك تسمع شاهد عيان من إدلب، أو أحد أعضاء التنسيقيات في بابا عمرو، أو مدير المرصد في لندن، حتى إذا خطوت برجلك داخل المسجد تحققت من هوية الشاهد: إمام عادل. يافع يجلس فوق منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث بإفك الجزيرة! خطبة ثالثة قبل الصلاة! مكرسة لحشد التأييد للشعب السوري "الذي يباد"، والأطفال "الذين يذبحون"... كان اليافع متحمسا، يكاد يبكي، فدعا المصلين عموما إلى وقفة تضامن مع الشعب السوري، وحث الأغنياء، خصوصا، على التبرع للشعب المنكوب، وجعل ذلك واجبا! وختم مرافعته البليغة بالدعاء على بشار و أعوانه... استوى الإمام على المنبر متوكئا على عصا طويلة، فقلت في نفسي "جاء الحق وزهق الباطل"، سنسمع خطبة جمعة، بعد "عالم الظهيرة". حمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه، وتخلص إلى أن الذي حاول الاعتداء على نفسه فعل منكرا.."لكن الذي يقتل في مظاهرات شهيد..." فعلمت أن العصا من العصية، وأن الأمر دبر بليل... لم يكن اليافع سوى علامة صغرى. استرسل الخطيب في استصراخ المصلين لنصرة الثورة السورية، بالمشاركة في وقفة عرفات في ربيع الثورات الأول، وجعل ذلك واجبا عليهم! ختم خطبته الثانية بالدعاء للثوار السوريين بالنصر، وقرأ في إحدى الركعتين بسورة الجمعة! وحين سلم صدح في مكبر الصوت يستحث المصلين على التوجه إلى وقفة عرفات، مكررا وجوب ذلك عليهم، ثم أضاف " إذا كان بعضكم لم يتغد فليضح بالوجبة لأن هناك رجال يضحون بأرواحهم..." فكانت تلك خطبة رابعة، بعد انقضاء الصلاة! حدث أبو معاذ، قال:
تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلا لبلال: "قم يا بلال فأرحنا بالصلاة." (صحيح مسلم 4986) من سغب الدنيا، من لغو المعارضة، وغلو الموالاة، من نتائج الحوار، ونتائج التصويت في مجلس الأمن، من إغلاق المعهد، وفتح الدستور، ومن الثورات المشتعلة في الجزيرة العربية الحرة... يخرج الناس، أيام الجمع، من بيوتهم وأسواقهم ليسعوا إلى ذكر الله في بيوت الله، لكنهم يجدون أنفسهم في " ميدان التحرير" حيث يسود التحريض لإيقاظ الفتنة النائمة!
وتصل الغرابة حدها حين يقرأ الخطيب المحرض هذه الآية من سورة الجمعة: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله...) (الجمعة 10). قال الطبري، في تفسيره، " وأما الذكر الذي أمر الله تعالى بالسعي إليه عباده المؤمنين، فإنه موعظة الإمام في خطبته، فيما قيل. وعن سعيد بن المسيب فاسعوا إلى ذكر الله، فهي موعظة الإمام..." قال القرطبي: " قال الزمخشري: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها غير ذلك! قلت: ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثناء عليه، وعلى خلفائه الراشدين، وأتقياء المؤمنين، والموعظة والتذكير، فهو في حكم ذكر الله. فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم، والثناء عليهم، والدعاء لهم، وهم أحقاء بعكس ذلك، فهو من ذكر الشيطان، وهو من ذكر الله على مراحل." فماذا عن الدعاء للعلماني برهان غليون، ولمتمردي الجيش السوري الحر واستفزاز المسلمين لنصرتهم!
لم تترك السورة المسلمين وشأنهم، حين يخرجون من المسجد، وإنما أمرهم الله، أمر ندب (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض...) (الجمعة 10). قال ابن عباس " لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، إنما هو عيادة المرضى، وحضور الجنائز، وزيارة الأخ في الله تعالى." (القرطبي)، فأين هذا من وجوب وقفة عرفات، والسعي في الفتنة! أضف إلى هذه الآيات قوله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) (الجن 18) قال القرطبي: " كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخلص الدعوة لله إذا دخل المسجد. قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله المؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة، إذا دخلوا المساجد، وأراد بها المساجد كلها." فهل أخلص لله الدعوة من دعا إلى نصرة العلمانيين، وانغمس في الفتنة، وأوجب على المسلمين مناصرة مواقف حزبه السياسية!
لقد دعا أحد المسلمين بأخف من هذا بكثير، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، أشد الإنكار، وأمر المسلمين بالإنكار عليه. ورد في صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد، عن أبي هريرة رضي الله عنه: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك. فإن المساجد لم تبن لهذا." و عن سلمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى قام رجل فقال: "من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له."
قال في المنهاج النووي، شرح صحيح مسلم، "إنما بنيت المساجد لما بنيت له" معناه لذكر الله تعالى والصلاة، والعلم، والمذاكرة، في الخير ونحوها..." واختلفوا في جواز تعليم الصبيان في المسجد. فهل تجوز الدعوة فيه لبرهان غليون، والجيش السوري الحر!
هذا الإخلاص هو الذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "... فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة..." (البخاري/كتاب الصلاة). لقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الدرجات بأن يأتي "المسجد لا يريد إلا الصلاة"، فهل يدخل في ذلك من كلفه حزب باستنفار المصلين للانغماس في الفتنة، والدعوة لطائفة ضد أخرى. هل جاء هذا إلى المسجد لا يريد إلا الصلاة، أم أن الصلاة بالنسبة له فرصة لخدمة غرضه السياسي؟
يذكرنا هذا الحماس في الانغماس في الفتنة بفتوى كتبت بخط مغربي عتيق، أيام أزمة "تجار التحويلات "، تحرم حمل السلاح ضد الدولة، وخطف السياح، وتصف من يفعل ذلك بالبغي، رغم دعواه البراءة من الكفار ومن والاهم، وجهاده في سبيل إقامة دولة إسلامية، وتطبيق شرع الله، فالأهداف النبيلة لا تبرر الوسائل غير المشروعة. عملا بتلك الفتوى الرشيدة، كان ينبغي معاملة الجيش السوري الحر بقياس الأولى، فهو يرفع السلاح على الدولة، ويقتل المسلمين، ويوالي الكفار، ويناضل لإقامة دولة علمانية...
لكن الذي نسمعه في المساجد مخالف لذلك تماما، حيث يقال لنا، في خطبة الجمعة، يا أيها الذين آمنوا انفروا خفافا وثقالا، وجاهدوا مع الجيش السوري الحر، بأموالكم وأنفسكم، لإقامة دولة علمانية، فذلك واجب عليكم! هذا الإلحاح على وجوب نصرة الثورة السورية جعلني أرجع إلى كتب الأصول لأطلع على معنى الوجوب شرعا. قال الأرموي، في (الحاصل من المحصول في أصول الفقه، تحقيق الدكتور أبو ناجي، المجلد الأول، 237، ، 1994)، " الواجب هو الذي يذم شرعا تاركه مطلقا. ولا فرق بينه وبين الفرض عندنا " (يعني الشافعية). أورد المحقق تعريفات أخرى للواجب تقول: "الذي يعاقب على تركه، ما توعد بالعقاب على تركه، ما يخاف العقاب على تركه." كما أورد المحقق اتفاق المالكية مع الشافعية في أن الواجب هو الفرض.
ذاك هو المعنى الشرعي للواجب، فأي فقه (= فهم) سمح لخطيب الجمعة بتنزيله على وقفة حي عرفات لنصرة طائفة على أخرى في فتنة بين المسلمين! لم ير ابن عمر، ولا أسامة بن زيد، ولا غيرهما من كبار الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة، أن من "الواجب" عليهم نصرة الإمام علي، ولم ير علي رضي الله عنه، وجوب نصرته عليهم، فتركهم واجتهادهم. بل إن أبا موسى الأشعري كان يثبط الناس عنه، ولم يتعرض له. فكيف جاز لذاك الخطيب فرض نصرة الثورة السورية على الموريتانيين! أليس في توظيف خطبة الجمعة لأغراض حزبية استغلال للوظيفة، والنفوذ لدى العامة لأغراض خاصة تضر المجتمع الذي يدفع للخطيب راتبه. فالتحريض على الفوضى المفضية إلى زعزعة السلم الاجتماعي، وإتلاف الممتلكات العامة، وتعطيل مصالح المسلمين لا ينبغي أن تصدر عن رجل أمنه الناس على دينهم! من حق الناس أن تكون لهم آراء سياسية يعرضونها، ويدعون إليها جمهورا يقاسمهم إياها. لكن ذلك يتم في أماكن عامة يقصدها الناس لهذه الغاية. أما المساجد فيقصدها الناس للصلاة، والموعظة، وما يجمع عليه المسلمون من شأنهم العام، كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. أما أن يفرض فريق سياسي على مصلين، لا يشاطرونه اجتهاده السياسي، الاستماع إلى رأيه، وجعل مواقفه في حكم الفرض الديني، فهو استغلال للمساجد في ما لم تبن له، وشغل للمسلمين عن صلاتهم. فقد أمرنا بالإنصات لخطبة الجمعة، فكيف ينصت المرء إلى ما يكره من آراء سياسية، ليس عليها إجماع، بينما سميت الجمعة لأنها تجمع المسلمين! لقد طالب الله سبحانه وتعالى أصحاب الدعاوى بالبرهان على ما يدعون (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (البقرة 111)، فهل يملك خطباء الميدان برهانا على ما يدعون، غير برهان غليون!
نقلا عن موقع: أقلام حرة