روائية إنجليزية اشتهرت برواياتها البوليسية المليئة بالإثارة، والتطورات غير المتوقعة التي تبقي القارئ في تشويق لا ينتهي إلا بانتهاء الرواية. تعتمد الكاتبة على بث الشكوك حول أشخاص الرواية، بالتركيز على كل شخصية والإيحاء بأنها الجاني، بينما يظل الجاني الحقيقي بعيدا عن الشبهات حتى الصفحات الأخيرة من الرواية...
انتدبت الجزيرة أغاتا مساء يوم السبت لترابط أمام المستشفى العسكري في نواكشوط، في مهمة محددة: تأليف رواية حول حادثة إطلاق النار على الرئيس. تقول الوقائع، التي ستبنى عليها الرواية، إن الرئيس أصيب بطلق ناري أثناء عودته إلى نواكشوط. كان ذلك كافيا لتفترض أغاتا أن "المهاجم، أو المهاجمين كانوا يسيرون في الاتجاه المعاكس لسيارة الرئيس، مما سمح لهم بالفرار، لأن مرافقي الرئيس انشغلوا بإسعافه..."
لم يكن خيال أغاتا، في بداية التأليف خصبا، فكان الغريبي يمدها بفرضيات متعددة لتنشيط خيالها. فقد صنفت الجزيرة الحادث منذ البداية، دون الاعتماد على أي معطيات سوى الخيال الخصب، ومهارة التحريض التي اكتسبتها الجزيرة بجدارة. "تعرض الرئيس لمحاولة اغتيال..."، وكأن الإصابة بطلق ناري لا تحتمل غير هذا التفسير! ثم زادت الجزيرة الشحنة بافتراض أن محاولة الاغتيال تندرج ضمن محاولة انقلابية... ولمزيد من إثارة الشكوك، والبلبلة سأل الغريبي آغاتا عن حالة الرئيس، فلم يسعفها الخيال إلا بعبارة خارجة عن السياق.."حالة الرئيس مستقرة". أصدرت الفتوى الطبية وهي واقفة أمام أسوار المستشفى العسكري، تحمل هاتفا تصله تغطية سيئة، وسط عشرات المواطنين، الذين يتبادلون الشائعات، ويستكشفون الفرضيات... وسط هذه الفوضى ألهمت آغاتا أن حالة الرئيس مستقرة! لم تنسب "الخبر" إلى مصدر طبي، أو مصدر رسمي، أو شاهد عيان، أو مصدر طلب عدم ذكر اسمه، أو المراقبين، أو مصادر مطلعة، أو مصدر خاص للجزيرة.. أو غيرها من الإحالات الواهية التي تستخدمها وسائل الإعلام حين تريد الإيهام بأن لديها معلومات، وهي في الواقع تخترع شائعات تصنع منها "أخبارا". استغنت آغاتا عن كل تلك التقنيات، التي لم تعد تقنع أحدا، وصنعت الخبر بطريقة بدائية.. "حالة الرئيس مستقرة." نسيت أغاتا، في خضم الضجيج، وإلحاح الدوحة، أن الصفة لا تنطبق بأي حال، على حالة الرئيس. فهي جملة يقولها الأطباء حين لا يريدون الإفصاح عن الوضع الحرج للحالة. فهي حالة مستقرة، لكن في أي وضع؟ فالاستقرار لا يحدد سوى أن الحالة لا تتدهور، ولا تتحسن، أما وضعها الحقيقي فيتم السكوت عنه... كيف عرفت آغاتا أن حالة الرئيس لا تتدهور، لكنها لا تتحسن! أحست الجزيرة أن خيال آغاتا ليس في أحسن حالاته هذا المساء، رغم محاولات التنشيط، فلجأت إلى خبيرها الاستراتيجي اللواء صفوت الزيات، فلم يخيب ظنها كعادته.."أطلقت النار على الرئيس من قرب، أطلقها أحد حراسه الشخصيين، الذي قتل لاحقا في تبادل لإطلاق النار..." كان الزيات يقرأ كفه على ضوء السراج، فنسي أن الأماني والأحلام تضليل. صحيح أن الأكاديمية التي تخرج فيها مشهورة باغتيالاتها الناجحة، وانقلاباتها الفاشلة. لذلك لم يتصور أن تنطلق رصاصة إلا بفعل الغدر، ونية القتل، فشطح به القول تحليلا وتعليلا لخيالات بلا سند، ما لبثت أن انهارت في وجه الرواية الرسمية للحادث، التي صمدت أمام خيالات آغاتا، وأماني الزيات... لكن الجزيرة لم تصمد... أمام فرصة للتحريض والإثارة، فلم تراع الظرف الإنساني، وإنما عمدت إلى استثمار الحدث ضمن أجندتها التي باتت مكشوفة. فهذا الحرص على اختراع محاولة اغتيال، وتدبير انقلاب وهمي يقابله عند الجزيرة سكوت مطلق عن محاولات انقلاب حقيقية، واغتيالات فعلية. لكن الجزيرة لا تستحي من استغلال دعاوى مراعاة الظروف الإنسانية، ومشاعر المشاهدين حين يتعلق الأمر بأحداث ترتبط بمصالح أهل الجزيرة. فقد طلبت حكومة سركوزي من حكومة الجزيرة عدم بث صور ضحايا محمد مراح، فطالعتنا الجزيرة بعذر أقبح من الذنب.. حين يكون القتيل يهوديا، مصابا بطلق ناري لم يحدث أي تشويه لجثته، يكتسب حرمة تمنع الجزيرة من تصويره، لكن الجزيرة إياها تمطر المشاهد، على مدار الساعة بصور، من مختلف الزوايا، لأشلاء ممزعة، لأطفال أبرياء ذبهم الشبيحة، أو قصفتهم دبابات الطاغية، زعمت الجزيرة! مثلما انهارت روايات الجزيرة عن قصف طرابلس بالطيران، والمذابح المتسلسلة في سوريا، انهارت خرافتها هنا عن محاولة الاغتيال، وفشل انقلاب الزيات الذي نظر له بحماسة محللي كرة القدم. فسخر الموريتانيون من خيال آغاتا، وأشفقوا على المحلل من وعيد الله. فكانت المعارضة الوطنية على مستوى الحدث حين علقت أنشطتها، وتضامنت مع الحالة الإنسانية للرئيس، في موقف مسؤول ينم عن أصالة الإنسان الموريتاني، وحرص الطبقة السياسية على استقرار الوطن، وتجنب الفتن.واقتنع الشارع الموريتاني بالرواية الرسمية للحادث، التي صمدت في وجه خرافات الجزيرة ودسائسها، لينشغل بحياته اليومية متمنيا للرئيس شفاء عاجلا... سيعود الرئيس ليقول للجزيرة، ومروجي الشائعات.. ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وستستمر آغاتا في تأليف خيالات تحت الطلب. أما اللواء صفوت الزيات فسيسقط حرف الراء من رشاشة (العاوزي) لتصبح شاشة يحرض منها، وهو يتنقل بين الفنادق، أصحاب الخنادق، على القتل والتدمير.. وستستمر الجزيرة في تغطية الحقيقة بعين الغربال إلى أن يبتلعها بحر أكاذيبها... دكتور/محمد إسحاق الكنتي [email protected]
نقلا عن موقع: أقلام حرة