من يجرؤ على الكلام؟ / د. محمد إسحاق الكنتي

د. محمد إسحاق الكنتيذاك عنوان كتاب للسناتور الأمريكي بول فيندلي الذي طاردته لجنة العلاقات العامة الآمريكية الاسرائيلية، المعروفة اختصارا بـــــ "IPAC"، وهي لوبي صهيوني نافذ يدافع عن مصالح الدولة الصهيونية في أمريكا. كان ذنب فيندلي، الذي لا يغتفر، هو أنه أبدى بعض التفهم لمطالب الفلسطينيين، وشيئا من التعطاف مع القضايا العربية. أعلنت "آيباك" الحرب عليه، فأخرجته من الكونغرس، وحطمت حياته السياسية...

كانت مشكلة فيندلي، كما يروي في كتابه، هي أنه يعلن ما يبطن كل الساسة الأمريكيين. لم تحاربه "آيباك" بسبب آرائه، وإنما بسبب تجرئه على التصريح بها، حين يلزم الآخرون صمتا متواطئا... ليست "آيباك" بدعا من المنظمات السرية التي تحارب بكل الوسائل من يجرؤ على كشف أسرارها، بل تشترك في ذلك مع الماسونية، والمافيا، والإخوان المسلمين، والحشاشين، وكل الحركات الباطنية...

ظلت الحركات الباطنية عبر التاريخ مسورة بجدار سميك من الصمت، تحمي به ممارساتها من تطفل منتسبيها، وتمحيص مخالفيها. فهي تستمد قوتها من الغموض والسرية، وكل من يقترب من جدار الصمت يتعرض لأقصى أشكال العنف ليكون عبرة لغيره. وتقسوا الحركات الباطنية على منتسبيها في هذا المجال أكثر من مخالفيها. ذلك أن قدرة منتسبيها على كشف المستور أعلى من مخالفيها لأنهم يتكلمون من الداخل. لكن في كل الأحوال العنف هو الوسيلة المثلى لإسكات من يجرؤ على الكلام...

لم يكن إخوان موريتانيا ليشذوا عن هذه القاعدة، بل حرصوا على تطبيقها بشكل ممنهج فاستخدموا العنف اللفظي بإفراط مع كل من تجرأ وانتقدهم.. شتموا العلامة محمد سالم ولد عبد الودود رحمه الله، واستمرؤوا سباب العلامة حمدا ولد التاه، وغيرهما من العلماء الذين ينعتونهم بأبشع النعوت (راجع أرشيف الراية، والسراج). واليوم يشنون حملة مسعورة على الكنتي لأنه يكتب مقالات ينتقد فيها فكر التنظيم العالمي لحركة الإخوان المسلمين، وينتقد المواقف السياسية لجناحها الموريتاني.. يعلم الإخوان علم اليقين أن الكنتي لا يكذب في نقده لهم، ولا يستخدم سوى مراجعهم التي يعتمدونها، ولم يتعرض لأعراضهم بكلمة واحدة.. رغم ذلك كتبوا عشرات المقالات، ناهيك بعشرات الرسائل التي تصله على بريده الشخصي، ليس فيها سوى السباب المقذع والشتيمة الفاحشة.. لكنه لم يفاجأ فهذا هو منهج القوم الذي عرفهم به الموريتانيون.

كتب إلي أحد الفضلاء، ممن عرفوا الإخوان عن قرب، رسالة يقول فيها..(24\12\2011).

يرجع الأخ الفاضل سبب الحملة، التي يجهز لها الإخوان إلى أنني" رددت على المفكر، ثم رددت على الرئيس." لا يتعلق الأمر إذن بالدفاع عن فكر، او تسويغ مواقف سياسية، وإنما حمية لأشخاص! هذه الحالة معروفة لدى الحركات الفقيرة فكريا، إذ تلجأ إلى تقديس الأشخاص، وعدهم رموزا تملأ أقوالهم وأفعالهم الفراغ الأيديولوجي الناجم عن ضحالة الفكر...

بلغت الحملة أوجها بعد مقال "من القصر الرمادي إلى فضاء التنوع",. امتلأت صفحات الفيسبوك بالشتائم والسباب، وقرر موقع ألكتروني مقرب من الإخوان أن يضرب ضربة معلم، محاولا إثارة فتنة اجتماعية.. ركبوا اسما، واختاروا له وجه بنغالي، ولقب السباعي، وحرصوا على أن يتجاوز النص سب الكنتي، إلى شتيمة القبيلة كلها.. وانتظروا الردود. فجاءهم سيل من رسائل الاستهجان يكشف وهن حيلتهم، فاضطر الموقع إلى سحب المقال بعد ساعات من نشره..(و لا يحيق المكر السيء إلا بأهله).

لكن قاصمة الظهر جاءت مع مقال "جميل في العراء"، فتعرت الوجوه، والأسماء والألقاب.. ولا بد أن القارئ الكريم أدرك لماذا كان الإخوان يتسمون بغير أسمائهم، ويتخفون خلف وجوه بنغالية، وينتسبون إلى غير آبائهم... لكن هل يستحق المقال كل هذا الغضب الجامح، والسيل الهادر من الشتائم!

لم يكن المقال سوى توصيف دقيق لحال الإخوان بعد فشل ثورتهم الوهمية، وانفضاض شركائهم عنهم حين أدركوا حجمهم الحقيقي، وقدرتهم المحدودة على تعبئة أنصارهم. لكن مشكلة المقال هو أنه قال صراحة ما يتهامس به كل الموريتانيين، بسخرية أحيانا، وشماتة أخرى.

مثلت مقابلة الجزيرة انتقاما قطريا مؤلما، أشعر الإخوان بمرارة الغدر. لكن القطريين شعروا بتلك المرارة حين باعهم الإخوان الوهم.. أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم قادرون على إحداث ثورة عارمة في موريتانيا، فجهز القطريون سلاحهم الفتاك.. أقالوا ولد أشفغة بسبب علاقاته، وانتمائه، وعينوا خليفته بسبب انتمائها وعلاقاتها.. وأعلن مكتب نواكشوط حالة استنفار دائمة لتغطية المليونيات، والاعتصامات، وتضخيم عدد ضحايا المظاهرات السلمية، وجرحى الاعتصامات النسوية... وكوّن الإخوان خلية ارتباط مع المكتب تبلغه بتحركات الثوار أولا بأول... اعتصام في جامعة نواكشوط.. يهرع المكتب بكامراته، ومراسليه ليجد خيمة في الساحة الداخلية للمبنى الإداري، ليس فيها سوى فتاتين، وثلاثة من الشباب. ينشغل أحد الشباب بتحضير الشاي، بينما يثبت الثاني لافتة كتب عليها، بخط مغربي رديء "إرحل!"، أما الشاب الثالث فيحاول التخفيف من حدة التلاسن بين الفتاتين!

مظاهرة عارمة أمام المعهد العالي.. تنتقل كاميرا الجزيرة إلى عين المكان، وتتصل بالدوحة لتأمين تغطية مباشرة لعجلة قديمة تحترق، وخمسة مراهقين تبخروا عند مرور دورية شرطة اعتنت بجمع نعالهم.. في اليوم الموالي عقد الرئيس مؤتمرا صحفيا أعلن فيه.."نحن جاهزون للحكم" بخمسة مراهقين، وعجلة قديمة، وعبارات بذيئة!

اكتشف القطريون أنهم ساروا خلف وهم، فقرروا الانتقام ممن غرر بهم، فضربوه "في العمق" ضربة أفاق منها في عراء نواكشوط... ألم يروج الإخوان أن النظام راحل قبل شهر أغسطس؟ لكنهم هم الذين رحلوا كما في لعبة (اردلاح)؛ (سمطنا ونزلنا هون) في الوكالة الموريتانية للأنباء، في شهر رمضان الكريم، فقيل لهم (سلامتكم وسعايتكم)، حتى إذا جاء شوال، حين تطلب الإبل الفحل، نزلوا ضيوفا على التلفزة الوطنية، وبقيت رحلة ثالثة، حسب قوانين اللعبة...

لقد انساق الإخوان خلف قياس فاسد.. ركبت حركة النهضة، بتاريخها النضالي، وتضحياتها الجسيمة في عهد بورقيبة والزين، الثورة التونسية فأوصلتها إلى الحكم. وتعلم الإخوان المسلمون في مصر من تجربتهم الطويلة، وشعبيتهم العارمة، كيف يسرقون ثورة 25 فبراير، بعد أن فشلوا في اختطاف ثورة 23 يوليو.. لكن إخوان موريتانيا على النقيض من الحركتين؛ فهم أكثر الحركات الإسلامية علمانية، وأقلها شعبية.. لا يكاد قادتهم السياسيون يستظهون آية، أو يستشهدون بحديث في خطبهم السياسية، ويحرض شيوخهم على الانغماس في الفتن، وينهون عن الحوار، وينأون عنه.

أما شعبيتهم فحدث ولا حرج؛ فاز أحد نوابهم على لائحة حزب قومي قريب من سوريا الصمود، كما كانوا يسمونها، ثم هجر الحزب، والتحق بالإخوان، ونائب ثان انتخب على اللائحة الوطنية، أي أنه بلا دائرة انتخابية، وهذا يعني أن النائبين بلا قواعد انتخابية؛ هجر الأول قاعدته، ولم يكن الثاني يمتلكها أصلا، وعنده تجربة في التخلي عن منتخبيه دون سابق إنذار...

أما شيوخ الحزب فقد انتخبوا بأصوات الحزب الذي يريد الإخوان اليوم ترحيله، وقديما قالت العرب "اتق شر من أحسنت إليه".. أما النسبة التي حصل عليها الرئيس في الانتخابات الرئاسية، التي كان أول المعترفين بنتائجها، ومن ضمنها نتائجه، فهي مما يطوى ولا ينشر، وقد أمر ربك بالستر...

دعك من نتائج الانتخابات فهي مزورة غالبا، والتفت إلى التاريخ النضالي للحركة حين كانت في طور الخفاء.. تعرضت الحركة لمحنتين في زمن ولد الطائع. في الأولى أعلن كوادر الحركة توبة (مفظوحة) على الشاشة، وأقسم بعضهم بأغلظ الأيمان الشركية عند السلفيين، أنه نادم ندامة الكسعي. أما في الثانية فيعرف الموريتانيون جميعا كيف وصل الرئيس إلى بروكسل!

بهذه المعطيات أراد الإخوان فبركة ثورة شبيهة بالزانة، يقفزون بها إلى السلطة! ذاك كل ما قاله المقال بلغة مواربة متحفظة، فكان الرد عليه سيلا من الشتائم تجاوز الكنتي إلى القبيلة كلها، فاضطر الإخوان إلى الاعتذار بمقال أطروا فيه القبيلة، بما هي أهله، شعرا ونثرا. ولا بد أنهم كذبوا، في حالة السخط، أو في حالة الرضى، إن لم يكن فيهما معا!

حاول الإخوان تسويغ شتائمهم بأن في المقال تعريضا، من خلال كلمة "البت"! رحم الله ولد(اتليلة) فقد كان رجلا عظيما بلا عقد. ما قصدت، علم الله، سوى استخدام كلمة تنتمي إلى الثقافة الموريتانية، بدل كلمة "سينفونية"، لكن الإخوان ذهبوا بالتأويل هذا المذهب، مصداقا لقول المتنبي:" إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه..."، ولست أتنصل من المعنى الذي ذهب إليه الإخوان، ما دام يغيظهم، كما أعجب أبا نواس تأويل معلم الصبيان لبيته الرائع..

" ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر..." (يعرف الأدباء القصة).

نقب الإخوان عما يعيب الكنتي فوجدوا مسابقة اكتتاب أساتذة جامعيين.. لكنهم، كعادتهم، اعتمدوا التدليس. فلم يذكروا أنهم كانوا مسيطرين على التعليم العالي وقتها، وأن نائب رئيسهم هدد الكنتي بحرب لا هوادة فيها.. الأكثر دلالة من ذلك أن الزميل الذي اكتتب انضم إلى حزب تواصل بعد شهر تقريبا من ظهور نتائج المسابقة. فقد نشر الموقع الرسمي لحزب تواصل بيانا يعلن فيه الدكتور انضمامه للحزب "بالمقر المركزي للحزب أعلن الدكتور(...) انضمامه للحزب، بعد أن أكد بأن رغبته في المساهمة في المشروع الإصلاحي للحزب لإخراج البلد من الأزمة الحالية والخروج بها من النفق المظلم الذي أوقعته فيه أنظمة سياسية فاشلة ما زال مصير البلاد والعباد بين يديها..." ثم يورد الموقع نص بيان الدكتور، بعد سيرة موجزة له..." نظراً لانسداد آفاق الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالبلد، وفي ضوء الجهود العملية الوطنية التي يبذلها حزب التجمع الوطني لإصلاح والتنمية (تواصل) لمجاوزة هذه الأزمة متعددة الأبعاد، فإنني أُعلن انضمامي لحزب (تواصل) رغبة مني في المساهمة في المشروع الإصلاحي الذي دأب هذا الحزب على العمل الجاد والمخلص لتحقيقه، واقتناعاً مني بأن (تواصل) هو المؤسسة السياسية القادرة وحدها على إخراج البلد من النفق المظلم الذي أوقعته فيه أنظمة سياسية فاشلة ما زال مصير البلاد والعباد بين يديها.

والله و ليّ التوفيق

الدكتور/ (...)

26 /02/ 2012 ".

أعلنت نتائج المسابقة مع نهاية يناير، والدكتور سليل مدينة قومية معروفة، لا يكاد الإخوان يحصلون فيها على صوت واحد. وقد كان الدكتور يدبج المقالات، عند بداية الأزمة الليبية دفاعا عن القذافي! (يمكن العودة إلى أرشيف موقع ألكتروني معروف).

ما لم يقله الإخوان هو أنهم حاربوا الكنتي في مواقع أخرى يتحفظ الكنتي على ذكرها لعلمه أنهم لن يصبروا عن ذكرها طويلا.

رغم كل هذا لا يحمل الكنتي عداوة شخصية لأفراد الإخوان. فقد ضمني، منذ أسبوع نشاط ثقافي مع احد فضلائهم، ممن خبر السياسة على غير منهج الإخوان فأكسبه ذلك سعة أفق، ورحابة صدر، ولو أنصف الزمان لما كان مجرد نائب للرئيس ضمن آخرين.. لكنه كما قال محمد بن القاسم: "... فيالك دهر بالكرام عثور!". اكملنا نشاطنا الثقافي وتعشينا عند صديق مشترك، نتبادل أطايب الكلم، تخلف أصدق المشاعر...

لقد حاول الإخوان من قبل استمالتي بعرض الخدمات، وعرض اللقاء بقادتهم، فرفضت قائلا إن خلافي معهم خلاف فكري، لا علاقة له بالأفراد. وأعلم أن الذين يشتمونني منهم إنما يتخذون منهج ذلك الشويعر الذي يحدثنا عنه تاريخ الأدب العربي.. تقول الرواية إن شويعرا أفرط في هجاء جرير، وتمادى جرير في الاعراض عنه. عجب الناس من جراءة الغر على جرير، ومن صبر جرير على إقذاعه! وحين ألح الناس على جرير قال:"ليس بيني وبين النكرة شيء إلا أنه أراد أن يرفع ذكره إذا هجوته. والله لا أقرن اسمي باسمه."

وأخيرا., أعرض على الإخوان صفقة، في زمن أحوج ما يكونون إلى الصفقات، وهم المشهورون بإبرامها ونقضها مع الخصوم والأعداء.. أن يرتقوا بخطابهم فيردوا على ما أكتب بما هو من جنسه؛ بحجة قوية، ولغة عفيفة، و بحث جاد عن الحقيقة، فيصبح الخلاف بيننا خلافا فكريا لا يفسد للود قضية، أو يتجرعوا النقد في صمت. أما إذا أرادوا الاستمرار في نهش الأعراض، فإن من كانت شقته، وبيت صديقه من زجاج، فليوفر أعراض الناس...

كتب بول فندلي كتابا، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، اختار له عنوانا بليغا..

"لن نسكت بعد اليوم..."

[email protected]

نقلا عن موقع: أقلام حرة

10. يناير 2013 - 19:53

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا