الانقلاب الأخلاقي.. / د. محمد إسحاق

 د. محمد إسحاق يقال إن كل شيء جائز في الحب والحرب، يترجم هذا المأثور، عندنا، في الممارسة السياسية، حيث كل شيء جائز.. فليست ثمة قواعد تواضعت عليها النخبة السياسية لإدارة الصراع على السلطة بشكل يحفظ المصالح العليا للوطن...

استبشر الرأي العام الوطني خيرا بالمواقف التي أعلنت عنها المعارضة، عند إصابة الرئيس، واعتبرها المواطنون دليلا على نضج سياسي، ونبل أخلاقي... لكن السياسيين ما لبثوا أن عادوا إلى طرائقهم التي ألفوها، مستخدمين، هذه المرة، سلاحا اكتشفوه بعد فشل سلاح المظاهرات، والمهرجانات، والاعتصامات.. سلاح الإشاعة.

روجت، في الأيام الماضية، شائعات كادت تهدد استقرار الوطن، وتدخل البلاد في أزمة لا يتحملها وضعها العام، في وقت كان المنتظر فيه من النخبة السياسية الابتعاد عن كل ما من شأنه المساس بالمصالح العليا للوطن، وتأجيل الصراع السياسي إلى ظروف أكثر نقاءً.

لقد وجد الطامحون إلى السلطة في الإشاعة سلاحا فتاكا يشيعون به جوا من الشكوك، والتوقعات، والمخاوف، يؤمل منه دفع طرف ما إلى اتخاذ موقف يريد الطامحون دفعه إليه.. فمالا يريده الطامحون هو هذا الجو الهادئ، الذي تسير فيه شؤون الدولة بشكل طبيعي، دون ملاحظة أي غياب، أو ثغرة في تسيير الشأن العام للبلاد. فلم يؤد غياب الرئيس إلى اتخاذ أي إجراءات استثنائية من أي نوع، وإنما تسير الأمور بشكل روتيني منتظم. ولم ينتج عن إصابة الرئيس أي شكل من أشكال الإرباك، أو الأزمة.. وهذا بالذات ما لا يريده الطامحون. ينبغي أن يمثل غياب الرئيس أزمة دستورية، وسياسية، وأن يبحث لها عن حل يحقق بعض مآربهم، إن لم يحققها كلها...

لكن الوطنية تقترح مقاربة مختلفة. تقوم هذه المقاربة على ضرورة المحافظة على المصالح العليا للوطن. هذا هو العنوان الكبير، الذي ينبغي أن يخضع له أي تحرك سياسي في هذه المرحلة. وهو يقتضي العزوف عن أي تحرك سياسي يستغل الظروف الوطنية لتحقيق مكاسب حزبية، أو تصفية حسابات شخصية.. فالانتماء الوطني يدعو الأحزاب السياسية، وقادة الرأي والفكر إلى التعبير عن مشاعرهم الإنسانية تجاه رمز البلاد الذي يعاني حالة مرضية، والالتفاف حوله، بصفته رمزا وطنيا حتمت عليه ظروفه الصحية الغياب عن الوطن... حتى إذا عاد، سليما معافى، يعود الجميع إلى تخندقاتهم السياسية المشروعة، وخصوماتهم الشخصية المبررة، من وجهة نظرهم. هذا هو الموقف الوطني السليم. فالرئيس اليوم لا ينتمي إلى أغلبية، ولا ينبغي أن تكون له معارضة، بل هو رمز البلاد الموريتانية كلها، يدعى له بالشفاء، ويتكاتف الجميع لحفظ البلاد في غيابه...

أما إثارة الشائعات حول حالته الصحية، وبناء استنتاجات على ذلك، فهو عمل غير أخلاقي، وانتهازية سياسية، لا يبدو أن ممارسها جدير بإدارة الشأن العام.

صحيح أن كتاب "الأمير" مثل مفاصلة بين الفعل السياسي، والتصور الأخلاقي. لكننا لا نجد سياسيا واحدا ينتسب صراحة إلى "الأمير"، ولم تزل الأخلاق النبيلة تزيد الإنسان رفعة، سياسيا كان أو غير سياسي. فقد حرص ديغول على أن يحكم على المارشال بيتان بالإعدام، لكي يعفو عنه ديغول. واشتهر الملك حسين، رحمه الله، بالعفو عن الضباط الذين تآمروا عليه. واتسمت الممارسة السياسية عندنا بكثير من التسامح.. يترك الوزير الوزارة ليدخل السجن، ثم يخرج منه ليعود إليها.. ويرحب قضاة المحاكم الاستثنائية بالمعارضين الذين أصدروا عليهم أحكاما بالإعدام.. ويتمتع الرؤساء السابقون بحق الحياة، وحق المعارضة، وحياة كريمة على نفقة الدولة...

كل هذه القيم السامية لا نجد صداها اليوم في هذا السيل البائس من الإشاعات، التي فشل أصحابها في التحريض على انقلاب عسكري، كما فشلوا في تنفيذ انقلاب مدني، لكنهم نجحوا في تنفيذ انقلاب أخلاقي نزل بمستوى الممارسة السياسية، والمشاعر الإنسانية، والروح الوطني، إلى درك يزري بسمعة طبقتنا السياسية؛ بعضها...

دكتور/ محمد إسحاق الكنتي

[email protected]

 

نقلا عن موقع: أقلام حرة

10. مارس 2012 - 19:49

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا