اشتهرت الجزر، عبر التاريخ، بالغموض؛ فهي قطعة من اليابسة، في غير موقعها.. تحيط بها المياه من كل جانب، وتدور الأساطير حول سر هذا النتوء اليابس، الذي يفجر عرض البحر مثل نبتة تمزق تماسك قشرة الأرض. ولَّد هذا النشاز الطبيعي أساطير
عديدة حول الجزائر، خاصة لدى البحارة الذين يبالغون في غرائب الجزر، التي يكتشفونها بمحض الصدفة بعد أن يتيهوا فترة طويلة في زرقة البحر، وفضائه الرحب، وأمواجه المتلاطمة... بعد الخوف من الغرق، واليأس من اليابسة، تلوح الجزيرة في الأفق البعيد، غير واضحة المعالم؛ يكذب البحارة بعضهم بعضا حول وجودها، فيجزم به بعضهم، لأنه يتمناه، ويمعن آخرون في إنكاره، لأنهم
يئسوا منه. ورغم الخلاف يتفق الجميع على ترك المركب ينساب صوب الوهم، أو الأمل، حتى إذا ظهرت الجزيرة، حقيقة واقعة، تناسى الجميع خلافاتهم، وأصبحت الجزيرة أملهم في النجاة...
شيء قريب من هذا حدث للمشاهد العربي، حين أطلقت قناة الجزيرة بثها من الدوحة. كان ذلك المشاهد غارقا منذ عقود في بركة الإعلام الرسمي، الذي يردد نفس الأخبار، منذ البيان الأول للثورة، أو عيد العرش... كان المشاهد الذي يعرف لغة أجنبية، قد ترك البركة إلى البحيرات الداخلية للإعلام الغربي، حيث أخبار المنطقة تحتل موقعا هامشيا، وتغطى بطريقة تخدم مصالح الحكومة التي تمول وسيلة الإعلام...
كان المشاهد العربي تائها، مثل البحارة تماما، حتى أطلت الجزيرة من الفضاء، في ظروف غامضة، ككل الجزر... كان أهل الجزيرة قراصنة محترفين، قذفت بهم أمواج البي بي سي، إلى الجزيرة التي ظهرت من العدم، لتنتشلهم من الغرق! وظن المشاهدون المبهورون بأداء قراصنة أعالي البحار، وقد ألفوا تجديف بحارة المياه الحلوة، أن البي بي سي تخلت عن طاقمها بسبب مشاكل مالية، وأن دولة قطر، حين بلغها الخبر، قررت، فورا، إنشاء قناة تنتشل هذه الخبرات من العطالة، من باب فعل البر! لكن، علينا أن نذكر، للأمانة، أن فئتين من المشاهدين أبدتا شكوكهما حول الجزيرة، منذ بداية بثها.
اتهم القوميون القناة بأنها منبر للتطبيع مع العدو الصهيوني، وأن تغطيتها لأخبار المنطقة، وتناولها لقضاياها يتم بأسلوب هدام، غير بناء. فرددنا عليهم قائلين: أنتم دعاة الرأي الواحد، وأبواق الدكتاتوريات، ولو أصيب أحدكم بزكام لاتهم إسرائيل والغرب.
قال اليساريون إن الجزيرة بوق دعاية لحركة الإخوان المسلمين، ودلَّلوا على ذلك بكثرة أعضاء الجماعة في طاقم الجزيرة، وخدمة برامجها الوثائقية، والحوارية لأهداف الجماعة، وتوجهاتها... وقلنا لهم جميعا عداؤكم للإخوان، بل للدين أحيانا، يجعلكم تنظرون إلى الجزيرة من هذه الزاوية...
وتعززت مكانة الجزيرة لتصبح وسيلة الإعلام العربية الأكثر مشاهدة. فكانت، في الأخبار مثل جهينة، وفي الفقه مثل الإمام الأعظم، وفي المناظرات مثل النَّظَّام، وفي الجمع بين الآراء المختلفة مثل إخوان الصفا...
كان "حصاد اليوم" يحصد عقل المشاهد بالأخبار الطازجة، والتحليلات العميقة، التي تجعله عالما بحقيقة ما يجري من حوله، مطلعا على خبايا الأمور.
وكان "الشريعة والحياة" يمده ب"فتاوى معاصرة"، وينحو به "نحو فقه ميسر معاصر"، يجعله ينتظم في سلك الوسطية، لتظهر له "ملامح المجتمع المسلم...".
وكان "أكثر من رأي" يوسع أفقه بطرح قضية لنقاش هادئ، يقول فيه سامي حداد أضعاف ما يقوله ضيوفه مجتمعون. ولإذابة جليد سامي حداد الذي كلل رأسه، كان "الاتجاه المعاكس" معركة ديوك يقرر فيها فيصل القاسم، عبر استفتاء شبيه بتلك التي تجرى في المنطقة، أي الديكين كان أعلى صراخا، وأكثر زبدا، وأسلط لسانا...
أما "شاهد على العصر" فكان محاولة لإعادة كتابة تاريخ المنطقة السياسي بصوت أحمد منصور، الذي يطرح الأسئلة، ويقرر الوقائع، في مفكرته الصغيرة، ويهين ضيوفه أحيانا. لم يكن شاهد أحمد منصور شبيها بعادل إمام، فقد شاهد ما يروي، لكن أحمد منصور يعمل مقصه في روايته... ويمارس نفس التقنيات، بلا حدود، في برنامجه "بلا حدود".
ودارت الأيام، ومرت الأعوام، واندلعت "الثورات العربية"، فتسابق قراصنة الإعلام للظفر بالكنز الجديد، وشمر أهل الجزيرة عن ساعد الجد فأعلنوا انحيازهم للثوار، فتغيرت مسطرة البرامج، بشكل جذري، فلم يعد هناك "أكثر من رأي" (أوقف البرنامج قبل اندلاع الفتن. فهل كان ذلك مصادفة!)، وإنما طغى رأي واحد يسمعه المشاهد، من تونس إلى عدن، فسقط بذلك شعار القناة "الرأي والرأي الآخر"، لتنتقل من رواية الأخبار بسند ضعيف، إلى اختلاقها، وبذلك تجاوزت سريعا مرحلة التدليس، إلى مرحلة الوضع... خبر عاجل: أبناء مبارك، وبعض الشخصيات المهمة فروا بعائلاتهم إلى بريطانيا... ثروة مبارك بلغت (75 ) مليار دولار... سقوط عشرات "الشهداء" في الإسماعيلية، والإسكندرية، و...و... ولم يغادر مبارك، ولا أبناء مبارك مصر حتى اليوم، ولا دليل، حتى الآن، على أن الرجل يملك هذه الثروة الطائلة، ولم تتأكد، حتى اليوم، أعداد الشهداء التي روجتها الجزيرة!
كانت الجزيرة تختلق الأكاذيب، مع سبق الإصرار، تدس في الحقائق، كما يفعل السحرة... ثم جاء يوم الزينة، في أحداث ليبيا، وحشر الإعلام ضحى، فألقت الجزيرة بحبالها، وعصيها، وقالت ل"ثوار ليبيا" بقصف "النيتو"، وتحريضنا، أنتم الغالبون...
فاكتشف المشاهدون أن ما جاءت به الجزيرة الكذب... خبر عاجل: القذافي هرب إلى فنزولا. المدن الليبية، بما فيها طرابلس، تقصف بالطيران... المرتزقة الأفارقة يبيدون الليبيين في بنغازي... القذافي يقصف ميناء مزدة... الكتائب تغتصب النساء،... لا يزال القذافي في ليبيا حتى اليوم، ولم تقصف مدينة ليبية واحدة، ولم تثبت أي جهة محايدة وجود مرتزقة، أو حالة اغتصاب واحدة، ومدينة مزدة تقبع في الصحراء، بعيدا عن الشاطئ بحوالي أربعمائة كيلو متر. كل هذه الأكاذيب، وغيرها، عن اليمن، والصمت المطبق عن "فتنة البحرين"، جعل المشاهد يستكشف "الجزيرة" بعمق أكثر...
بدأ المشاهد يراجع تواريخ بث الجزيرة لأشرطة ابن لادن والظواهري، فاكتشف أنها كانت تتم في توقيت يخدم إدارة بوش، فبدا له الأمر محيرا؛ هل ابن لادن، والظواهري عميلان لبوش، أم أن... لكنه أبعد الفكرة سريعا...
وعاد يتساءل: ألا تبالغ إدارة بوش في إعلانها العداء الصريح لقناة الجزيرة، التي تطرح الرأي، والرأي الآخر، وتتحلى بمهنية عالية! وذهب الشطط بإدارة بوش إلى احتجاز مصور الجزيرة في سجن "غوانتنامو" سيء السمعة. ولم يكن اعتقال الرجل مبررا، فقد اعتقل في باكستان، لا يحمل سوى كامرة تصوير! ذاك لغز لم يجد المشاهد له تفسيرا.
ثم جاء "ويكيليكس"، فهللت له الجزيرة، واشترت ملفاته المتعلقة بالمنطقة، وبعثت أحمد منصور ليحاور صاحب الموقع،"بلا حدود"، في حلقتين متتاليتين، سأله في إحداهما إن كان يملك وثائق حول إسرائيل، وإن كان سينشرها، لكنه نسي أن يسأله عن وثائقه حول الجزيرة، وعلاقتها بالاستخبارات الأمريكية. لكن النرويجي البارد، نشر تلك الوثائق، بعد لقاء أحمد بشهور، ليظهر المستور: وضاح خنفر، المدير العام لشبكة الجزيرة تربطه علاقات وثيقة بوكالة المخابرات الأمريكية...
ألقت تلك الوثيقة ضوءا كاشفا على "الجزيرة"، فعاد المشاهد يسترجع شكوكه في ضوء وثيقة ويكيلكس، الذي أكدت الجزيرة مرارا، دقة مَعلوماته، وصدق رواياته، ومن ضمنها أن المدير العام لقناة الجزيرة مرتبط بعروة وثقى مع الاستخبارات الأمريكية!!!
لم يكن ابن لادن، ولا الظواهري، عميلين لبوش، وإنما كانت الجزيرة تبث أشرطتهما في الوقت الذي يخدم بوش، قبل الانتخابات مثلا...
ولم يكن العداء المعلن، بما فيه وثيقة بوش بلير لقصف مقر القناة، التي حملها وضاح نفسه إلى 10 (داونينغ ستريت)، محتجا، والسنوات التي قضاها سامي الحاج في "غوانتانامو"، سوى ذر للرماد في عيون المشاهدين حتى لا يروا مصالح أمريكا، وإسرائيل خلف تغطية الجزيرة، المهنية، والمحايدة...
وجاء عزمي بشارة، ذلك الفلسطيني الذي انقلب، فجأة، على إسرائيل، بعد أن كان أحد نواب الكنيست. وانقلبت إسرائيل عليه فأصبح "مطاردا"، دون أن تصدر مذكرة اعتقال دولية، في حقه، لينتهي به التطواف، في عواصم الشرق، في الدوحة، مفكرا قوميا، يديره الظفيري "لتبييض وجه القناة".
وجاء، مغاربي آخر، من تكساس، يحمل شهادة ماجستير في تسيير الأعمال، من جامعة أمريكية مفتوحة، ليصبح مفكرا إسلاميا، يخوض في "الخلافات السياسية بين الصحابة" رضوان الله عليهم أجمعين، ويفتي بحذف التخصيص في "أولي الأمر"!
كل ذلك بدا للمشاهد مريبا، في ضوء وثيقة "ويكيليكس"، الذي وثقته الجزيرة، فروت عنه بإسهاب، وهاجمت كل من شكك فيه...
وتذكر المشاهد أن صائب عريقات، الذي صبت عليه الجزيرة جام غضبها، صرح، في مقابلته مع أحمد منصور، أن مدير قناة الجزيرة مرتبط بالمخابرات الأمريكية. وتذكر المشاهد، بوضوح أكثر، كيف انقلبت تلك الحلقة على أحمد منصور.. فقد بدأها مهاجما، وانتهى به الحماس إلى إهانة ضيفه، حين قال له: "لا تكذب!" لكن أحمد منصور فقد حماسه سريعا، حين كشف عريقات علاقة مديره بالاستخبارات الأمريكية، وحين قال له بنبرة تهديد: "أنا أعرفك، لدي معلومات كاملة عنك." فشحب وجه الرجل، وجف ريقه، فأكثر من الإعلانات، وأدار الحلقة بتوجس سمح لاعريقات أن يظهر تدليس الجزيرة، وكذبها، في ما نسبت إليه. ولا بد أن كل الذين استضافهم أحمد منصور، فاستأسد عليهم، تشفوا فيه، حين رأوه حملا وديعا، لا يكاد يبين.
تقول الأسطورة إن البحر ابتلع جزيرة أطلنطس، بعد أن عرفت حضارة راقية. وتروي رائعة تشارلز ديكنز "جزيرة الكنز" صراع القراصنة، وتآمرهم على بعضهم من أجل الفوز بخريطة الكنز... فهل كانت إقالة وضاح خنفر حلقة في ذلك الصراع؟ أم أن ملاك الجزيرة (من هم حقيقة؟) أرادوا التخلص من رجل قاد الجزيرة في مرحلة ظهر فيها كذبها، وانحيازها، وخدمتها للمصالح الغربية، كما يتم التخلص عادة من منفذي المهمات القذرة؟
مهما يكن، فإن لدى وضاح خنفر، الآن، الوقت الكافي لرواية قصة "جزيرة الشيطان الأكبر"، قبل أن يبتلعها بحر الأكاذيب التي روجتها عن "خريف الغضب"، كما يفعل كبار رجال الاستخبارات، الذين تنتهي، أو تنهى خدماتهم...
نقلا عن موقع: أقلام حرة