شعار رفع أيام النهضة، في وجه الشعار العلماني الداعي إلى فصل الدين عن الدولة. يعني شعار "الإسلام دين ودولة" أسبقية الدين على الدولة. فالإسلام دين يبني دولة وفقا لمبادئه العقدية، ونظمه التشريعية. وهذا ما حدث فعلا في التاريخ الإسلامي. فقد بدأت دعوة الإسلام دينية، في العهد المكي،
مركزة على التوحيد، والتربية الخلقية، لكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مثلت بداية تأسيس دولة الإسلام، فكانت الدولة تشاد وفقا لقواعد الإيمان والأخلاق السابقة عليها، ثم تنزل التشريع لمجتمع الدولة من مصدر متعال على الدولة. وهكذا بنى الوحي الإلهي، والسنة النبوية، دولة الإسلام، في عقيدتها وشريعتها، وترك أمر التنفيذ شورى بين أهل الحل والعقد. (أول تطبيق لشورى الحكم تم في وصية عمر رضي الله عنه، وقد حصرها في أهل الحل والعقد).
ذاك هو محتوى الشعار، كما طبق في التاريخ الإسلامي. لكن دولة الاستقلال رفعت شعارا مختلفا تماما.."الإسلام دين الدولة". يؤكد الشعار على أسبقية الدولة على الدين. فقد أصبح الإسلام مضافا إلى الدولة، ملكا لها، تتصرف فيه كيف تشاء، كما تتصرف في ممتلكاتها، وبذلك أصبح الإسلام مرادفا لأيديولوجية الدولة التي تبنيها وفق مصالحها، ولم يعد دين الله الذي تخدمه الدولة، وتبني هياكلها وفقا لتعاليمه.. لم تعرف دولة الاستقلال نفسها بأنها "دولة الإسلام"، ولا أنها "دولة إسلامية"، إلا في النادر... وهكذا ستوظف دولة الاستقلال، التي بنيت على الطراز الغربي العلماني، الإسلام لخدمة أغراضها، فبادرت إلى تأميم المؤسسات الدينية، التي ظلت تتمتع باستقلال تام، في ظل دولة الإسلام، وباستقلال محدود في ظل سلطة الاستعمار.. أممت دولة الاستقلال الأوقاف، والمعاهد، والمنابر، وبذلك فرضت خطابا "دينيا" يخدم أغراضها العلمانية غالبا. ولأن العلمانية تنظر إلى الدين باعتباره شأنا خاصا، استخدمت دولة الاستقلال الإسلام في شؤونها الخاصة؛ فاستخدم عبد الناصر منبر الأزهر لمخاطبة الأمة في العدوان الثلاثي، واستخدم الإسلام لتبرير غزو أفغانستان، والعراق، وحرب الصحراء الغربية، بل استخدم الإسلام في الحرب على الإسلام...
قامت الصحوة الإسلامية ضد هذا التوظيف المكيافللي للدين، فرفعت شعار "الإسلام دين ودولة"، وهو شعار يقدم الدعوي على السياسي. وقد بدأت الصحوة دعوية، على يد جماعة الإخوان المسلمين، التي بدأت دعوتها سلفية إحيائية، تستخدم أساليب التربية الصوفية، في التخلية، والتحلية، وترسيخ السلطة المطلقة لمرشد الجماعة، المعادل الوظيفي لشيخ الطريقة. هذا البعد الدعوي مكن الجماعة من الانتشار السريع في المجتمع المصري، لأن الدولة اعتبرتها حركة دينية، أو طريقة، كغيرها من الطرق الصوفية، فغضت الطرف عنها. انتشر الإخوان في الوطن الإسلامي من خلال خطابهم الدعوي الذي وجد قبولا، باعتباره دعوة إلى إحياء ما اندرس من الدين الصحيح، ومحاولة لإعادة وصل المجتمع بدينه، في وجه تيارات إلحادية تعلن صراحة عداءها للدين.
لكن الإخوان، بعد أن آنسوا من أنفسهم القوة انتقلوا من العمل الدعوي للدين، إلى التطلع إلى الدولة التي غدت أولوية. ولم يكن الطريق إلى الدولة سالكا عن طريق الدعوة الدينية، فانخرط الإخوان في السياسة مستخدمين رصيدهم الدعوي. ترشح المرشد لعضوية البرلمان مرتين، أخفق في إحداهما، وانسحب في الثانية، بعد حصوله على وعود بامتيازات لجماعته. ولعله أدرك من خلال التجربتين أن الطريق إلى السلطة، عبر صناديق الاقتراع، ليس سالكا، فقرر الوصول إليها عن طريق آخر.. العنف.
أنشأ الإخوان "الجهاز الخاص"، وهو جهاز عسكري سري، أنكر الإخوان وجوده ردحا من الزمن، حتى اكتشف بمحض الصدفة في قضية السيارة الجيب عام 1948. (اعترف بعض قادته بوجوده، وتباهوا بأعماله، مثل أحمد عادل كمال: النقط فوق الحروف، صلاح شادي: حصاد العمر، محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ...) ثم اختلفوا حول تاريخ تأسيسه، (بين 1930 و1947) وهو ما يؤكد سريته وغموضه. حدد المرشد مهمة الجهاز الخاص في:
حدد أحد قادة الجهاز طبيعة "الذين يخاصمون الجماعة". يقول محمود الصباغ:
لقد طبق "الجهاز الخاص" هذا "الحق" في اغتيال خصوم الجماعة. فقد اغتال حسن عبد الحافظ، ومحمود زينهم، عضوي الجهاز الخاص القاضي أحمد الخازن دار يوم 22مارس عام 1948، بسبب أحكام قاسية أصدرها على منفذي تفجيرات القاهرة ضد الإنجليز. ثم تلى ذلك اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي 28/12/1948، على يد الطالب عبد المجيد أحمد حسن انتقاما للحملة التي شنها على الجماعة. بعد اغتيال حسن البنا رحمه الله، تمرد رئيس الجهاز الخاص عبد الرحمن السندي، الذي أمر باغتيال الخازن دار دون الرجوع إلى المرشد، على المرشد الجديد حسن الهضيبي، فتم فصله من الإخوان، وأمر الهضيبي بحل الجهاز الخاص. يروي عمر التلمساني، مرشد الجماعة بعد الهضيبي، أن السندي زود عبد الناصر بأسرار الجهاز الخاص. ويتهم محمود عبد الحليم السندي بقتل نائبه في قيادة الجهاز الخاص سيد فايز لأن الهضيبي استخدمه لإبعاد السندي.
وإلى الجهاز الخاص تنسب محاولة اغتيال جمال عبد الناصر رحمه الله. هكذا شرّع الإخوان لأنفسهم استخدام العنف لتحقيق شعار "الإسلام دين ودولة". وتعرض الإخوان لعنف مضاد على يد الأنظمة التي ناصبوها العداء. لم يردع فشل العنف في مصر حركة الإخوان عن استخدامه في دول أخرى. فقد استخدموه في سوريا، في أحداث حماه الأليمة، تلك الأحداث التي بدأت بتمرد الإخوان في المدينة، وقتلهم الكوادر البعثية. كانت ردة فعل النظام عنيفة، فارتكب مجزرة مروعة في المدينة. لكن البيانوني، مرشد الجماعة السابق، اعترف بأن الجماعة ارتكبت خطأ التمرد في المدينة، وقد سمى (في برنامج شاهد على العصر) المسؤول، في قيادة الجماعة عن تلك الأخطاء...
واستمرت رحلة الجماعة مع العنف فقادت انقلابا عسكريا في السودان، أعقبته إعدامات لضباط من التيار القومي، وحرب ضروس ضد الجنوب باسم الجهاد. وحين اختلف التيار العسكري بقيادة البشير، مع التيار المدني بقيادة الترابي، زايد الترابي على البشير، فوقع مع غارنغ تحالفا سياسيا، أرغم البشير على التفاوض معه على استقلال الجنوب، وبذلك انتهى الجهاد إلى تقسيم السودان، بعد انقسام حركة الإخوان. وكان الترابي العقل المدبر لحركة دارفور الانفصالية بقيادة تلميذه، وصديقه الوفي الدكتور خليل إبراهيم رحمه الله.
وفي موريتانيا كان الإخوان قريبين من الانقلاب العسكري الدموي، وقد كان استثناء في الانقلابات الكثيرة التي عرفتها البلاد. وقد اتهمهم نظام ولد الطايع بأن لهم تنظيما عسكريا سريا. ولا يزالون يدعون إلى الانقلابات العسكرية، ويسارعون إلى الاعتراف بها.
ثم جاء الربيع العربي، فكانت "الثورات" التي تصدرها الإخوان، في ليبيا، وسوريا، هي الأكثر دموية، بينما حدث نقل السلطة في تونس ومصر، حيث تربص الإخوان في الصفوف الخلفية، بطريقة أكثر سلاسة. وحين وصلوا إلى السلطة، في تونس ومصر تبنوا شعار الأنظمة العلمانية، التي طالما نددوا بموقفها من اإسلام.. "الإسلام دين الدولة"، وسكنوا في مساكن الذين ظلموا!
تمسكت النهضة بدستور بورقيبة، ومجلته للأحوال الشخصية. وتمسك الإخوان في مصر بدستور عام 1971. اختفى شعار "الإسلام دين ودولة"، ليحل محله شعار "إقامة الدولة المدنية". وبذلك تم التراجع عما حافظت عليه الأنظمة العلمانية من ادعاء الانتساب للإسلام، لينتسب الإخوان إلى دولة مدنية، تحافظ على مكاسب المرأة في العري، وترعى السياحة، وما بعد السياحة...
تخلى الإخوان عن كل شعاراتهم لصالح الشعارات العلمانية، التي طالما حاربوها باسم الإسلام، لكنهم حين وصلوا إلى السلطة طفقوا، غير هيابين، في محاربة الإسلام من الداخل. قاطعوا مظاهرة الدعوة إلى تطبيق الشريعة، وقد كانوا يملؤون الميدان بالتكبير والصلوات والدعوات لإسقاط مبارك. فأيهما أوجب؛ إقامة شرع الله، أم إسقاط مبارك؟ لكنهم ظلوا أوفياء للعنف اللفظي والجسدي. بدأ مرسي حكمه بإغلاق قناة وحبس صحفي، بتهمة التحريض وإهانة الرئيس، بينما يحرض الإخوان عندنا على الانقلابات علنا، ويسبون، ويشتمون كل من يجرأ على مخالفتهم الرأي ولا يتعرض لهم أحد، بل إن بذاءتهم، وإقذاعهم، أمن لهم حصانة من النقد عند كثير من الذين آثروا السلامة بدل الصبر على أذى الإخوان.
و في تونس سحق مناضلوا حركة النهضة، الديمقراطيين، المدنيين، مواطنا تونسيا تحت أقدامهم لأنه يخالفهم الرأي! ورفض الغنوشي حل لجان حماية الثورة، وهي الميلشيات التي ارتكبت الجرم...
نقلا عن موقع: أقلام حرة