يروي محمد حسنين هيكل أنه أثناء الأزمة بين عبد الناصر والغرب، كان يتوافد إلى مكتبه العديد من كبار الصحفيين الغربيين راغبين في إجراء مقابلة مع الرئيس، فكان يصرفهم بلباقة رغم ارتباطه بصداقات مع بعضهم. يعلل هيكل سلوكه بأن أولئك الصحفيين زودوا بأسئلة محددة عليهم طرحها على الرئيس، كما يطلب منهم ملاحظة بعض الأمور الدقيقة، الخاصة بشخص الرئيس...
كان أولئك الصحفيين جزءا من العمل الاستخباراتي العدائي. ولا أحد ينكر الصلة التاريخية بين الصحافة والاستخبارات، فكلاهما يجمع الأخبار، ومن ثم كان التعاون مثمرا لكليهما...
تذكرت قصة هيكل هذه وأنا أتابع "لقاء الشعب"، حين جاء دور الجزيرة لتطرح أسئلتها... كانت الجزيرة غاضبة لأنها لم تكن "أول من ألقى" أسئلته! لم تدرك الجزيرة أنها فقدت الصدارة، حين فقدت الصدقية بتقارير شاهد العيان، وصور المباشر، والخبر العاجل... فقد سقط النصيف لتظهر الرسالة الحقيقية للقناة. لم تعد الجزيرة قناة الرأي والرأي الآخر، بل لم يعد فيها رأي أصلا، وإنما غدت الناطق الرسمي لاتجاه سياسي معروف، ففقدت بذلك ما كان يميزها عن الفضائيات العربية الرسمية، فانفض الناس من حولها متحسرين على سنوات الخداع التي عاشوها معها...
لكن الجزيرة ما زالت تعيش الوهم لأنها تريد أن تتقدم صحافة وطنية في نقاش موضوع وطني! لكن الطريف أن الجزيرة تخرج غضبها في صورة أتقنت معالجتها؛ إنها ضحية! "فلو لم ينقطع اتصال المواطن ما كانت لتحظى بفرصة..." هكذا يتعرض طاقم الجزيرة لمؤامرة كونية في كل مكان.. ألم يحجز مصورها في غوانتنامو، ومراسلها في إسبانيا؟ ألم يقصف مكتبها في كابول، وبغداد؟ ووصلت المؤامرة قمتها بتلك الرسالة التي وجهها رئيس الولايات المتحدة إلى رئيس وزراء المملكة المتحدة يستشيره في قصف مقر القناة في الدوحة على مرمى حجر من قاعدة السيلية! الغرب يتآمر على الجزيرة، ويريد إسكاتها بأي ثمن! مؤامرة أطار، إذن حلقة في السلسلة الطويلة تسهم بها إحدى دول الجنوب في "الحرب على الجزيرة"...
لكن الجزيرة لا تنام على ضيم، بل "تجهل فوق جهل الجاهلينا". لذلك أخرجت في أطار سلاحها الفتاك، الذي أثبت نجاعته حتى الآن أينما جرب: التحريض. امتهنت الجزيرة التحريض على الثورات، والمظاهرات، والاعتصامات في ربوع الوطن العربي، إلا أنها أحست مرارة الفشل في موريتانيا، فقد تآمرت عليها الديمغرافيا، والجغرافيا. تعودت الجزيرة تغطية المليونيات، لكنها في موريتانيا عجزت عن حشد الآلاف. وتعودت غرس كامراتها في الميادين والساحات لبث صور مباشرة عن معاناة المعتصمين، وقوة تصميمهم... لكن ساحة بلوكات لم تكن شبيهة بميدان التحرير، ولم يكن مسجد ابن عباس مؤهلا للنهوض بوظيفة محكمة شمال بنغازي...
قررت الجزيرة الاستمرار في ممارسة التحريض لكن بطريقة تعتقد أنها تلائم المجتمع الموريتاني. وجاءت الفرصة في أطار لتحرض الجزيرة على الانقلابات. أخيرا وجدت المفتاح السحري.. عرفت موريتانيا انقلابات عديدة، والصلة بين الثورة والانقلاب صلة حميمة. وتستطيع الجزيرة أن تحول انقلابها إلى ثورة في الوقت المناسب، فقد اكتسبت خبرة كبيرة في تجاهل الأحداث (البحرين)، وصناعة الموت (سوريا)، وإنتاج أبطال الكرتون (بالحاج في ليبيا).
لا تزال الجزيرة ضحية أوهامها. فالانقلابات أصبحت من التاريخ.. لا يزال سنوغو يتجرع مرارة الفشل رغم سيطرته على الإذاعة والتلفزيون، والقصر الرآسي، وإعلانه إلغاء الدستور، وحل الهيئات المنتخبة.. إنقلاب ناجح بمقاييس القرن الماضي. لكن النقيب اضطر إلى التخلي عن مكاسبه، والاعتكاف في معسكر، كما كان أول مرة. لكن الجزيرة تتجاهل كل ذلك لتستمر في الوهم الذي باعته لشعوب استيقظت منه على حملة للنظافة من قمامة الثورة، ونهب للمال العام تحت غطاء تعويضات للطلقاء والمؤلفة جيوبهم، مليشيات تفجر، تقتل، تخطف...
أتيحت الفرصة للجزيرة مرة أخرى، رغم المؤامرة، فكررت سؤالا خارج السياق، لكن لا بد أن تطرحه، ولو طرح قبلها عشرين مرة.."هل ستسلمون السنوسي..." وفي ذهن الجزيرة "...تبيعون السنوسي كما بيع البغدادي." لكن الاجابة كانت صادمة للجزيرة، في منطوقها وإيحائها.. "لن نسلم السنوسي لأن علينا مسؤولية أخلاقية." تلك المسؤولية التي تفتقدها الجزيرة في أخبارها، وصورها، وأسئلتها، مما جعل بعض كبار صحفييها، ومدراء مكاتبها يغادرونها...
تعودت الجزيرة طرح الأسئلة، والانتقاء من الأجوبة.. فلنتصور أن الأمير نظم لقاء مع "أزهار الشر" التي استنبتها. هل كانت الجزيرة ستسأله عن الدور المرسوم له في مؤامرة الربيع؟ ولأن الجزيرة مولعة بطرح أسئلة خارج السياق، هل كانت ستسأله لماذا لم يتناول برنامج الشريعة والحياة موضوع "البرور والعقوق"، رغم أن البرنامج تناول جل القضايا الدينية والعلمانية؟ وهل للأمر علاقة بصلة الأمير الحميمة بوالده؟
لعل الجزيرة بدأت الآن إعداد أسئلتها، رغم المؤامرة، للنسخة القادمة من "لقاء الشعب". لكن جل الموريتانيين ربما تمنوا أن تحل الذكرى وقد رحلت الجزيرة خلف أوهامها، لينعم وطنهم بالاستقرار، ويتفق ساسته على كلمة سواء...
نقلا عن موقع: أقلام حرة