نزلت أخيرا عن الفرس ياشافيز...ترجلت، لتسافر في عيون الفقراء وأحلامهم...قررت أن تنحني للموت وحده، لأنك تعرف أنه قدر مكتوب، عكسا للهزيمة والانكسار..
لم تعد في سماء فنزويلا قامة سامقة، ولا نخلة مورقة بعدك...ما عاد بعدك لراية التحرر والثورة سارية تمنعها عاديات الزمن، وتنسج ألوانها بألوان الشمس، وتزرعها في جبين السماء خفاقة مهيبة وقزحية اللون..!!
رحلت قابضا على الجمر والسنبلة والشارة الحمراء...رحلت بخطوات الملهم "جيفارا"، وكبرياء المعلم "كاسترو"، وعلياء الرمز جمال عبد الناصر، وشجاعة آخر الرجال العرب صدام حسين..
رحلت، وقد رآك الفقراء تزرع أمام أقدامهم الحافية دروب أمل المساواة..رأوك تنثر الخبز والحليب، لأطفالهم الذين لم تحلم أجيال من أسلافهم حتى بتهجى تلك العبارات..!!
رحلت، وهامتك مزروعة في سماء الرفض والكبرياء..لم تخفك الجيوش والأساطيل..لم تركع للذين يزرعون الموت بدل السنابل، ويمنحون الفقراء قنابل الفسفور وغاز الخردل بدلا من الحليب والخبز، ويزرعون أينما حلوا وحشية القمع ودمويته بدلا من بذور القمح وخضرته..!!
رحلت بطينتك النقية..طينة الرجال المعجونة بالكفاح والوطنية والتحدي والحب...صرخت دوما في وجه هذا العالم المتغطرس القذر الظالم أهله...قلت لهم بأن غياب الضمير الحر هو وحده الذي منع العصابات الصهيونية من أن تنال عقابها وقد عاثت في فلسطين فسادا وخرابا ودموية..
قلت لهم بأن جسور السلام التي تبنى في قلوب الرجال، أقوى وأبقى من الحروب التي تنتجها عقولهم المريضة..
قلت لهم بأن عالما لا يتوقف لمواساة فقرائه ليس جديرا بالاحترام..قلت لشعوب العالم إن زمن الظهور المحنية قد ولى إلى الأبد، وأنه لو لم تكن ظهور الفقراء محنية لما قفز عليها القتلة ومصاصوا الدماء، وسدنة الشر والعنجهية في العالم..
قلت لهم بأننا بالعرق يمكن أن نبني أكثر مما بنيناه بالدماء، وأن أنفاس الكادحين المتقطعة انتصرت دائما على أصوات البنادق وأشباح الموت..
شافيز كنت كبيرا حقا...كنت كبيرا عندما زرت بغداد الملتهبة، ووحدك الذي دخل عرين الأسد الجريح يومها، عندما اكتفى الآخرون بالنباح والمكاء و التصدية... كنت كبيرا فذهبت إلى الرجل الكبير .. لم يرهبك الحصار كما لم يرهبه... لم تتزحزح قيد أنملة، عن مبادئ اليسار التي منها تعلمت أن للإنسان كرامة وحرية، في سبيلهما لا يدفع روحه فقط، ولكن أيضا يحرق العالم كله دفاعا عنهما..
كنتما - وأنتما الكبيران في بغداد ذات شمس عراقية حجبتها قنابلهم وطائراتهم ومؤامراتهم- نخلتين فارعتين لا تكفى مياه دجلة الصابرة، والفرات الجريح، لسقيهما وقد تمددت سعفتاهما- بجذور أصلها ثابت- نحو سماوات الكبرياء والمجد..
من غيرك ياشافيز ركب الموت إلى مدينة محترقة، ولزيارة أسد أرعب زئيره كل مدائن الرعب والخوف وخلجان النفاق والتعري والرجعية..؟!!
لقد كنت رجلا من طراز فريد ...كنت رجل مبادئ وحب ووفاء..
رأيناهم يبكونك في "كراكاس" وفى كل المدن "البوليفارية"، بل في العالم كله...كانوا يبكون أبا غيبه الموت، ومجنا به كانوا يصارعون الزمن، وشجرة طالما أسندت ظهورهم، ووجدوا فيها - مع الدفئ والأمان- ظلا ظليلا..ووجدوا فيك الرجل الذي لا يظلم عنده أحد..
حق لهم البكاء، فأنت رئيسهم الذي كان يأكل معهم الطعام ويمشى فى الأسواق..وأنت الذي كان بمقدور كل مواطن أن يرفع السماعة ليتحدث معه على أثير الإذاعة وشاشة التلفزة بأريحية، ودون أية ابروتكولات.. أنت الذي تموت اليوم فقيرا بلا قصور، وبلا أرصدة مالية، وبلا مزارع أو إقطاعيات، وكذلك دأب الرجال الزعماء الوطنيين، يعطون لشعوبهم حتى حياتهم، ولا يأخذون منها شيئا أي شيء..!!
أنت الذي علمتهم أن القناعة كرامة، وأن الكرامة ميراث وكنز لا يفنى..أنت الذي حنوت على الفقراء...كانوا يبكون فيك كأس الحليب، ورغيف الخبز، وقرص الإستشفاء، والحلم العابر للزمن بالكرامة والحرية..
كنت نصيرا للمظلومين، حاملا لهمومهم..وأنت كنت ترى - ببصيرتك الثاقبة - أن الثورة لا تعنى تدمير الأوطان، ولا ممارسة البغاء السياسي مع قوى الظلم والغطرسة...كنت ترى أن الذين دمروا ليبيا، ويدمرون سوريا الآن، لا يفعلون ذلك قناعة بالثورة، وإنما حرابة وولاء للأجنبي، ولذلك كنت واضحا عندما قلت بمواقفك إنه لا ينبغي الخلط بين ما تريده الشعوب وما يريده أعداء الشعوب، وأن الثورة تفقد عذريتها عندما تتحول إلى حرابة، تقتل الناس، وتدمر الأوطان، وتمكن للأجانب..
شافيز نم هنيئا قرير البال مع العظماء، والقادة والرجال، الذين بصقوا في وجه الظلم والقهر والاستعباد، ولو كنت مسلما لترحمنا عليك..
نم بهدوء فالسنبلة التي زرعتها هي اليوم ألف حبة...والقامة التي كنتها ستظل فارعة، والشارة الحمراء ستعانق منجلها إلى الأبد راسمة- بعرقنا وبدموعنا ومعاناتنا- في أفق العالم كله أملا بالحب والخبز والحليب..
وداعا شافيز ومع كل "البوليفاريين"، ومع كل الفقراء والثوار وعشاق الحرية، وبقبعات مرفوعة، نقولها لك بحسرة ولكن بكبرياء: "آديوس" شافيز..!!