وخزات قلم -2 : حيرة العقول في عجائب الهاتف المحمول / عبد الله ولد محمد

عبد الله ولد محمدكانت أولى تباشير الألفية الثالثة في البلاد السائبة ظهور الهاتف المحمول ردفا متأخرا للانترنت سابق لها في مضمار التسابق الشعبي لاقتناء كل جديد ضر أو نفع، طاغ عليها متماه معها في قران تكنولوجي لينجب الاثنان هجينا اليكترونيا تبناه أبناء هذه البلاد فشغفهم حبا قطّعوا في سبيله أيادي سعيهم وشغلَهم عن غيره من الحاجات.

عُرف ضيف الألفية الاستهلاكي الجديد بالمحمول أو المتحرك أو الجوال أو النقال، كلها أوجه في تسميته وإن اختلفت الصيغ ما بين اسم المفعول واسم الفاعل وصيغ المبالغة، والحقيقة أن له في كل تلك الأحوال من اسمه نصيب. إذ يبدأ اسمَ مفعول فهو محمول ثم لا يلبث أن يكتسب صفة الفاعل بتحركه بصاحبه ينتجع به الأخير مظان الشبكة وموارد الشحن، ثم متصفا بالمبالغة لكثرة التجوال والتنقل. لكن جمهور مستهلكي هذا القطر لم يكترثوا للمنشأ اللغوي للتسمية وإنما تجوّزوا كعادتهم في استيراد الأسماء الأجنبية فسموا الجهاز تسميته الفرنسية وهو تقليد لسلف الرعيل الأول من المستهلكين منذ منتصف القرن الماضي حين بدأ ورود المنتجات الأجنبية إلى البلاد. ذلك التقليد الذي تدرج من عدم التصرف في الاسم المستورد على نحو "جركان"، أو تحريف حركة ألف الاسم والإبقاء على بقيته على نحو "ربينه"، أو تحريف آخره بإبدال مدِّ حركة واحدة أصلي بسكتة وقْف على السكون كقولهم "كَرَوْ". بل إن بعض المتجوزين اعتمد تسمية ماركة معينة من المنتج فأطلقها على سائر أنواعه وذلك على نحو "سلْيا" لمجفَّف اللبن و"كلوريا" لمركّزه. فالأمر الجامع إذا في تسمية الهاتف غير الثابت هو اللفظ الفرنسي أستعرب حامله أو تعرّب أو استعجم، فهو مفهوم حتى لدى غير القادر على تهجئة حروفه الأصلية، مسلّمٌ به حتى للرافض له لغةً. بدأ المحمول كبيرَ الحجم محدودَ التناول ليضحي صغيرَ الحجم واسعَ الاستخدام، منذ جيل العمالقة الأول وصولاً إلى الشرائح الاليكترونية، فتُفنن في تسميته من "المنجنيق" ف"ذي الإصبع" إلى "القاتل" (على خلاف في ثبوت إطلاق "القاتل" على كل ذوات الإصبع) مرورا ب"الجمرة" و"نبيقو" ثم "الظواية" (و "الشمعة" فيها لغة لدى البعض)، كل ذلك في مواكبة مثيرة من القريحة الشعبية لحلقات التطور التكنولوجي في بعده الموضوي. كان القادم الجديد محل ترحيب بل ومحظيَ السلة الاستهلاكية يَقْدم بنودها ليورد أصحاب الأجور القليلة، وليسوا بقلة، درك العجز والاستدانة، في سقوط حر بفعل جاذبية الموضة. ورغم عدم موائمة الحالة المعيشية لتوسع سوق المحمول إلا أن محددات الاستهلاك لدينا أهل هذا المنكب شذت عن كل النماذج الاقتصادية فقلبنا هرم "ماسلو" لتراتبية الحاجات، وخرقنا حجب "كينز" لنتميز بقاعدتنا البسيطة العدمية القائمة على عدم وجود قاعدة. فلم يُتِم الوافد الجديد العشر حتى أطفأ شمعة المليون مشترك مابين مكتف بهاتف واحد ومعدد مثنى وثلاث بل ورباع (على اعتبار الثريا). فكأن لاقتناء الهواتف لدى أهل المنكب البرزخي علاقة شبَهٍ عجيبة بأنماط الزواج تتجلى في الميل إلى التعدد واللهفة إلى التغيير والرغبة عن الموجود والتعلق بالمفقود وسرعة أزوف شمس المحبة وجفاف نبع المودة، على خلاف في ظاهر بعض التفاصيل وباطنها. ذلك أن اللاحقة في مجال الزواج لدي المجددين (وإن غَلُب عليهم القدم) عادة ما تكون أكثر شبابا مع رغبة في الظهور، وكذلك الحال بالنسبة للمحمول لا يُترَكُ صنفٌ إلا لِأجَدَّ منه يظهره صاحبه في كل حين. وكما أن التعدد ينحو لدى البعض منحى الإخفاء للاحقة عن السابقة أو للأخيرة عن الأولى (وإن كان الأول هو مذهب الجمهور من عمداء التعدد)، فكذلك الحال في اقتناء المحمول إذ يُخفَى الجديد أحيانا في الجيب لا يسمع له ركز إلا ما كان من هزٍّ خفيف مدغدغ ويُبدَى الأقدم ذا شنة ورنة أمام الملأ. وحالة إخفاء المحمول هذه عادة ما تكون من معدِّد للمشغلين مُفْردٍ ماليا، فيكون الهاتف الجديد من باب الرغبة في تعدد الأرقام وتسهيل الاتصال وفق فقه "محارم الشبكات" جاعلِ الاتصال بين أرقام المشغل الواحد أرخص من الاتصال ب"أجانب" المشغلين، على أن فقه "محارم الشرائح" لا يفرق بين مضاجعها في الجهاز. ولصنف "المُخْفين" من حملة المحمول علامات دالة، فلا يخلو اجتماع رسمي ولا جماعة في صالون من أحدهم يميل ذات اليمين وذات الشمال، يتلوى بين المقاعد كلاعب سيرك، بل ويتسلل من بين القوم كرها أن يرى أحد هاتفه "السري"، ويسْودّ وجهه حين يُخرِج محمولَه المخفيَّ على غفلة أيمسكه أم يدسه في التراب. أما المجاهرون بالتعدد فتسبقهم هواتفهم حيث ما توجهوا يتخذون منها حلية يلبسونها في المحافل سعيا للتميز ونأيا بالنفس عن عوام الحمَلة من "المُخفين" ودهماء المفردِين، يرصّون هواتفهم على المناضد كُتُبَ شهادةٍ لأصحابها بالرقي والعصرنة وإن جهلوا ما بين دفاتها من تطبيقات مفيدة واقتصر علمهم بها على الإرسال والاستقبال بعد كبير عناءٍ في تفحص وتمعن شاشاتها تنعقد من فرطه الحواجب ويُعَضُّ على النواجذ تارة وتُفْغر الأفواه أخرى حتى لكأن أحدهم منهمك في تمرين لعضلات الوجه مجتمعة فتتغير تقاسيمه كلوحات مبَطَّئَةِ العرضِ لرسمٍ متحرك. وكما هو الشأن في حال المعددين زواجاً، لا تكون بواطن الأمور مطابقة دائما لظواهرها وإن حَسُن التلفيق والتلبيس والتجمل من متعدد الهواتف. فالتعدد للقادر على العدل بين الشريكات المتشاكسات في ذمته والشركات المتشاكسة في هواتفه، يُعدّ مقبولا، لكن يبدو أن قليلا من القوم من هو ذاك الرجل. فرُب متعدد هواتف متدعدع المشية لتعدد خطى يمشيها ما كتبت عليه إلا لتعدي عداد مصروفات هاتفه الحد، فيغدو حاملَ محمولٍ غيرَ محمولٍ وإنما مُتحمَّلاً من غيره، متَحمِّلٍ لهمّه غاد رائحٍ متجشمٍ عناء التنقل على قدميه، سندباد فضاء يحدّث أهل السند والهند، يؤنسه وصال الرفقة عبر الأقمار الاصطناعية عن وحشة الشُّقّة عبر أزقة ودروب أحياء انواكشوط المترامية الأطراف. فمثله خلقٌ كثيرٌ من المتهافتين على الهاتف المحمول قد سخروا مواردهم الشحيحة لشحنه رصيدا ولاقتناء كل جديد منه، يفاخرون بكاميرات هواتفهم المحمولة ذات الصور ثلاثية الأبعاد وقد اختفت أبعادهم هم أنفسهم حتى غدوا مستقيمات بل أشباه نقط مادية على مستوى المعيشة بعد أن تسطحت إحداثياتهم فلا فواصل أفقية ولا ترتيبا عمودياً إلا تحت الصفر قشعريرةَ ديْنٍ أو تجمّدَ إفلاس.     ولما كان الأمر على ذلك النحو من شدة الإقبال على المحمول فإن توسع سوقه فاق كل التوقعات حتى غدا مقصد كسب لفئات عديدة من أبناء هذه الوطن المغتربين في بلادهم ذات القطاع العام المنتبج توظيفاً الغث رواتباً، والقطاع الخاص الكثّ أفرعَ نشاطٍ الأمردِ تشغيلا. لذلك، غدا المجال الجديد فتحا لعامة القوم ممن بهم خصاصة ومن شباب طامح للقيام بمبادرات خاصة في مجال الأعمال، كلهم وجدوا في فضاء تجارة المحمول هامش حركةٍ خارج متون الإقطاع الخاص المتين الأسوار، ومورد دخلٍ غير بئر الإقطاع العام المعطلة لكثرة ما بُنِيَ بأمواله من قصور مَشيدة. فانطلق أصحاب رؤوس الأموال المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر وأقوام دون ذلك والرجل يقلب درهمه لا يملك سواه، كل أولئك يمارسون التجارة وتقديم الخدمة في زخمٍ لعلّ به بعض ملامح الفوضى الخلاقة في عهد الأنظمة العقيمة، كل أولئك في صعيد واحد له من اسمه أبلغ النصيب لتركز مساحته وسخونة نشاطه وإن اختار البعض نقاطا أخرى ألطف جوا وأفسح مكانا، لكن فرس الحراك التجاري ظل متخذا من عين "النقطة" وتخومها مربضا شبه دائم. وأهل "النقطة"، كما يحلوا لروادها تسميتها فلقد غدت "سخونة" المكان معلومة بالضرورة، طبقاتٌ بعضها فوق بعض وتيارات بعضها يموج في بعض كل ذلك في سيمفونية موريتانية تجمع كل ألوان الطيف الموسيقي بياضه وسواده و"اكنيديته"، وكذلك عكاظُ المحمول تصبح "بوعمرانية" إذ المقام مقام "كرْ" قد يتعجل أهله فلا ترتفع الشمس قدر رمح حتى "يكبر بت" المعاملات وقد "أفاق" القوم وحمي الوطيس على تماد في ذلك قد يصل إلى ما بعد الظهيرة حسب المواسم ثم لتصدح عكاظ الساخنة بما تيسر من "اسغيرها" وقد اكتحلت بالرواد بعد القيلولة لتبيض ساحتها تدريجيا على وقع "آكواليل" ثم "ليصغر البت" في خلوص ذي مختار "أَعَظَّالِي" وقد بدأت تتحول أطلالا عند وقت الغروب، وأما ضروريه فيمتد إلى الليل. والنقطة مركز تجاري يجمع البيع والصيانة وتقديم الاستشارة، وفضاء تلتقي فيه عبقرية الارتجال لدي الباعة ومقدمي الخدمات بارتجال العبقرية لدى معظم الزبناء فكأن "شاة" الأواخر تعلم أن "ذئب" الأُوَّل يأكلها، وهذا الأخير يعلم ما في الأولى من طيب، وعلى منطق الخلوة بين الطرفين، ينعقد السوق. وأما أهل النقطة فهم في الغالب خلقٌ مختلف ألسنته وألوانه، متباينة أعماره ومستويات تعليمه وسوابقه التجارية والعدلية، يأتون من كل فجاج العاصمة الفتية قد وحّدهم تعدّد هموم العيش وكثّرتهم ندرة فرص التشغيل وساستهم فوضى سوق العمل وألفت بينهم فرقة التباينات بين أغنياء البلاد وفقراءها وجذبت بعضهم إلى بعض قوة طرد الإقطاع الخاص المركزية قاذفة لهم إلى مدارات التهميش في حلقة البطالة المفرغة المفضية إلي ثقب الفقر الأسود. ولكون المحمول قد أصبح سيد بنود الاستهلاك بلا منازع فقد نمت سوقه واستوت على ساقها في ظرف وجيز وتعددت فروعها سلسلةً ذات ذرع طويل ما بين بيع وإعادة بيع وإصلاح وفك شفرة وتزويد بالرصيد وبيع للشرائح وإبدال بعوض وعينا بعين وبيع لمستلزمات وملحقات المحمول، كل ذلك في فضاء واحد يختلط فيه البائع بالمشتري في تمازج فريد من نوعه، يتنقل فيه المرتاد للسوق بين خانة البيع والشراء، مرورا بالوساطة، بسلاسة ومرونة. فقد يغدو أحدهم قد تأبط محموله بائعا ليروح مشتريا لغيره في عملية فد لا تخلو من بعض ما يسمى وفق "القاموس الساخن" ب"التملاح" وهو مصدر من فعلٍ اُختلف في طبيعته فمنهم من جعله متعديا بذاته ومنهم من جعله متعديا بحرف، فيقال في الأولى "مَلّحَ" فلان عِلّاناً، وفي الثانية "مَلّحَ له" (وهو لسان أعراب "النقطة") على اتفاق بين نحاة عكاظ المحمول على جواز استخدام الاثنين. وأما اصطلاحا فهو للدلالة على وقوع خديعة في التعامل مختلَف في تحديد ماهيتها ومن يكون فاعلها ومفعولها وإن اتُّفِق على أن الأول مفتعلٌ والأخير منفعلٌ لا محالة. و أما ماهيتها فقول الجمهور على أن أدناها المبالغة في الثمن مقارنة بالمثمون و أوسطها منزلة ما كان مبيعه معيبا (على تعدد في درجات التلبس بالعيب) أما أعلاها فهو بواح "العلقم" كمشترٍ محمولا قد غلا ثمنه وخف وزنه لخلو جوفه فهو كالمقتني لعلبة فارغة، وهذا النوع الأخير محل إجماع في إطلاق المصطلح لتفرد حدوثه. ووفقاً لتصنيف معاملات "النقطة" تتعدد أنواع عمليات الشراء والبيع نقدا أو مقايضة تبعاً لتنوع فئات المتعاملين، ما بين مشتري صِرْف بنقد، ومشتري متصرف في عين مستخدمة، وعابر سوق لا صارف درهما ولا قابل للصرف. فالنوع الأول هم نخبة السوق وسنام سلسلته، في حين أن الفئة الثانية هم جمهور السوق وأعمدة صرحه فهم المتبادلون المبدلون لهواتفهم سعيا للرقي في سلم المحمول يلهثون خلف تطور التكنولوجيا يقتنون جديد الأجهزة بقديمها بزيادة هامش نقدي وهم في شأنهم ذلك طبقات شتى كلما تخلت إحداها عن نوع بادرت التي تليها وفق مراتب القوة الشرائية إلي الجهاز المتخلى عنه مقتنية له، في متوالية مقايضة حسابية لفئات المستهلكين تجعل سعر الجهاز يتبع متوالية هندسية لا تخلو حدودها من بعض "الملوحة" بين كل مثنى من أُسسها وصولا إلى المشترى النهائي. أما الطبقة الثالثة فهم العابرون لفضاء السوق فضولا أو رغبة في التعرض ل"لفحاته" وغيرهم من دهماء المارة والمتفرجين. ولا يقتصر "التملاح" علي البيوع العينية بل يتجاوزها إلى الخدمات كإصلاح الأعطاب و فك الشفرة وغيرها من خدمات ما قبل البيع في معاملات المقايضات، وما بعد البيع في الأحوال العادية. فجانب الخدمات قبلية كانت أم بعدية يعد مظنة قوية ل"التملاح" لعدم تساوى الطرفين في معرفة كنه المسألة، فالغالب أن تكون المشكلة أبسط مما يدعى مقدِّم الخدمة كأن يكون منشأها استخدامٌ عن جهلٍ لتطبيقات الجهاز إثر دخول صاحبه في مغامرة استكشاف وتقص لإمكانياته يبحر ربانها في لجة شاشة هاتفه يجدف يمنة ويسرة على غير هدى، لتنتهي الرحلة في أول مضايق قنوات "الإعدادات" وإذا بالمحمول محمولاً على أكفّ الراحة لجناح الطوارئ في "النقطة"، ليستلمه مُخَصِّصٌ لنفسه في المجال ضرورةً غير متخصص فيه بالضرورة قد برع في قراءة كتب استعمال الهواتف الشائع استخدامها مستعينا بشبكة الانترنت مستفتيا رواد منتدياتها يستأنس باتفاق جمهورهم فإن لم يكن منهم ذلك، أخذ بقول جهابذة الآحاد من أهل الفن، فإن غُمّ الأمر على الكل اجتهد هو رأيَه فبنى علي اليقين ثم تمادى في الأمر فإن أصاب فله أجران نقدي مكْتسَبٌ في الحال ومهني مُتَكَسّبٌ به في قادم الأحوال فالمعرفة تراكم، وإن هو أخطأ فله أجر المحاولة، فهو ذو تحصيل في كلا الحالين وذلك شأن "المهََرَة" من أدعياء المهنة من محصِّلي تِبْر الأجرة من بُرِّ الجرأة. أما موضوع الرصيد فحديث ذو "ديون". فلقد أضحى البندَ الأول في النفقات الجارية في موازنات أهلنا الكرام سجية في هذا الوطن العزيز، تلك الموازنات التي أقفرت خانة نفقات استثمارها مقارنة بنظيرتها الجارية، تماما كما هو حال موازنتنا العامة الرسمية، فتلك الحَذَفات من هذه الغنيمة. ويبدو أن شركات المحمول قد فهمت طبيعة نزعتنا الاستهلاكية التي تجد جذورها في مزيج الكرم والبذل المميز لأهل البداوة مع هاجس لدى بعضهم بمعاداة الوقت لدرجة التربص به لقتله وحرْص بعض مخضرميهم القهري على مواكبة الحضارة بمفهومها المادي الغربي بعد استمرار مراوحة المجتمع لمكانه في برزخ العبور الآمن بين قيم أصالته وصولا إلى مقومات حداثته. فلقد أصبح مصروف الهاتف المحمول بندا استهلاكيا غير قابل للتقليص على رأي "كينز"، أي أنه يكون بعضه حتى في ظل انعدام الدخل، فهو ادخار سلبي لنا ميلٌ لا حدَّ له لرَكْمِه صُحفَ ديْنٍ تملأ مابين دفّتيْ كتاب ذمتنا المالية الفقاعية. ولو أن "مازلو" صاحب نظرية تراتبية الحاجات زار هذا المصر ذات يوم وجال في أسواقه فعرج على درّتها "الساخنة" واطلع على منهجيتنا الغريبة في إشباع الحاجات لطفق الرجل ينتف شعر رأسه لا يفرغ من ذلك إلا وقد عبر الأطلسي سباحة نحو موطنه الأصلي في شمال القارة الأمريكية. ذلك أن حاستنا الاستهلاكية السادسة قد أضافت إلي قاعدة هرم الحاجات، الذي جادت به قريحة الرجل في منتصف القرن الماضي، لبنة أساس جديدة اسمها استخدام الهاتف المحمول ليغدو حاجة فسيولوجية مزاحمة لغيرها ظاهرة عليه. فَكَمْ من طاو ثلاث ليال حامل ثلاثة هواتف قد طال عهده بالثريد لطول انهماك منه في تعهد أجهزته المُجْهزة عليه ماديا تتقاسمه مابين الرصيد والصيانة وبذل الوقت محادثة عبرها وانهماكا في سبر أغوار لوحات استخدامها. لذلك تضاعفت أرباح الشركات المتشاكسة فيما بينها المتكالبة على المشترِك المشترَك بينها دُولة، بعد أن برعت في توظيف نزعتنا الاستهلاكية لصالحها مستخدمة حيَلاً تسويقية مصممة لتوافق قدّ شبح "الظهور" المنتصب في مخيلتنا الجمعية الجامعة لركام شظايا جسارة وعلوّ همة البدو الممزوج بخردة رخام المدنية غير مكتملة التشكل في فسيفساء سلوكية عجيبة. فتعددت تبعا لذلك أنواع الدعاية وأساليب التسويق تُحرك ما في جيوب المشتركين مابين رفعٍ للرصيد وجرٍّ للساعة المجانية وفتحٍ لرقم على أرقام معينة مُمَكِّن من ضمّها ومدّ شبكة للخارج، كل ذلك في تتبع لمظان بيع خدمةٍ قلّ أن ينجو من تكلفتها هارب أو أن يدرك منفعتها قاصد. ففتى القوم و"امرؤ قيْسهم" وفق هذا النمط الاستهلاكي هو من رفعَ وجرَّ وفتحَ وضم ومدَّ منازل جواله للخارج، كل ذلك في توليفة إعراب واحدة عن فحولته الرقمية المحمولة على الأثير أو عبر الكابلات البحرية. وبعد أن أيقنت الثلاث المُنهِكات وقوع جمهور عريض من الناس في شباكها الضيقة التي تصطاد الصغير والكبير من ذوى الدخل، عمدت إلى مضاعفة أرباحها دون اكتراث بتجديد وتوسيع بنيتها التحتية الفنية، فغدت الشبكات أخيلة اتصال لا تغنى من حقيقة التواصل شيئا رغم انتشار الأعمدة المتخذة من الأقداح أقراطا والهوائيات الفارعة ذات الأعين الحمراء. لقد أصبحت بعض المكالمات في أوقات الذروة في يوم الاتصال "البُخْتِيِّ"،باعتبار ذروتي الليل والنهار، ضربا من الهلوسة وحواراً بين مثاني طُرْشٍ تتطور أحيانا لتصبح خيم طرش حين تتداخل الخطوط مشكّلة عقدا كلامية فيشدّ كل طرف طرفه من الشبكة المتشاكس فيها. وإضافة إلى مكالمات الخلطاء تلك، تتعدد أنواع أخرى كذات الوقر وذات الرجع و الطنانة. أما الأولى فلا يسمع فيها خليل خليلا وتتطور أحيانا إلى سجال أشباح يفضى في الغالب إلى إغلاق لباب محادثة لم يفتح أصلا. وأما ذات الرجع فلها على ذات الوقر درجة حصول الإسماع لكن مع رجع صدى يتدرج من الأحادي البسيط يسبق فيه أحد الطرفين الآخر مرورا بالثنائي المركب تلتقي فيه جملة هذا الأولى بجملة ذاك الأخيرة، ووصولا إلى النوع المندمج تعتلج فيه جمل الاثنين حتى تنهي المكالمة. وأما الطنانة فلها على ذات الوقر درجة الإسماع وعلى ذات الرجع ميزة انتفاء الصدى، لكن لها، على حسنتيها النسبيتين تلك، سيئة الإزعاج. إذ تبدأ جمل المحادثة سليمة لتلتبس أواخرها بأصوات منكرة غالبا ما تصادف عبارات الخلوص إلى المقصود محولةً نتيجة الحوار إلى مجرد رؤوس أقلام قد سال جل حبرها في فراغات الأثير من لدن الغلاف الجوي إلى شحمة أذن المتلقي. وإذا كان ذلك هو حال سكان العاصمة فإن لأهلنا في الداخل طرقهم العجيبة في محاولة الاستفادة من المحمول،فتفننوا في ترصد أطياف الشبكة غير المنتظمة في زيارتها لربوعهم، فهي "عُلَيُّهُمْ" إن زارت على شحط النوى سحراً وهي مخاطبة "ابن محمدي" لديهم إذا يبيتون سمراء النجم وزحل طمعا في وصالها، بل إن الأمر بلغ منهم مبلغا عظيما فظهرت "المعلقات" بين ركائز خيامهم طلبا للشبكة، واعتلوا لأجلها ظهور العيس وتسلقوا النجد معلين الصيحات لعلهم يُسمعون إذ ينادون حيا ... ذلكم نزرٌ قليل من فيض نهر المحمول النابع من بيئتنا الاستهلاكية العجيبة والصَّابِّ في دلتا الشركات الثلاث خارج قناتنا الاقتصادية الجافة، ساكبا في أوعية الغير كسب أهل هذه البلاد المقطَّر كرْها من ضرع اقتصاد كفاف تتعاقب على حلبه أيدي الفساد... أليس من الحري بنا، بعد مضي عقد من الزمن، أن نراجع أنفسنا فنعرف ما الذي حمله المحمولُ إلينا وما الذي حمّلنا وما الذي حملَنا على التمسك به تتقاسمنا ثلاث منهِكات تركم المليارات لنركم نحن صكوك العجز، شركات قد سلمناها آذاننا لتطوف بنا دروب مهالك الرأسمالية البشعة المتخذة من مافيا الفساد المحلية أخدانا ... ثلاث ترمي لنا فتات موائد نحن من نصبها ندور فيها خدم سخرة مجبولين على الاستهلاك: ثلث للمحمول، وثلث للمحمول وثلث للمحمول ... وأما الباقي من الدخل فلنا. [email protected]

10. أكتوبر 2011 - 20:37

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا