هي فن من لا موهبة له وموهبة من لا فن له، السياسة .. قات الساسة وقوت السوسة، دابة هذا العصر لا ينجو منها هارب ولا يدركها قاصد، سهلة ممتنعة بين الكسر والعصر لا تندثر ولا تثمر مورقة مؤرقة. تلكم السياسة قد شغلت أغلب أهل هذه البلاد فغدوا مريدين
في طرقها منهم المخلص لها ومنهم المستخلِص منها، وبينهما خلق وَسَطٌ يخلطون عملا مخلصا بآخر مستخلص قد برعوا في التمسك بنواس التأرجح بين المبادئ والمصالح.
وأما رجال الفن فمنهم المخضرم الجامع بين العهد القديم والعهد الجديد على اختلاف في المتون وابتداع في المنهج وتمسك ببضع الوصايا المبدئية، ومنهم الرعيل الأوسط ممن ركبوا موجة التعددية في عصر العقيد الوسيط، ومنهم الجيل الثالث G3 + وهو الخلف الجديد البادئ من حيث انتهى الآخرون.
فالمخضرم هو من جمع بين كدح ستيني ومدح تسعيني وتعددت منازله السياسية بين العهدين عهد الحزب الواحد والآراء المتعددة وعهد الرأي الواحد والأحزاب المتعددة. وأما أوصافه فمجملة في لفظ "سمي" فهو ستيني مزدوج اللسان يساري النزعة غالبا، واشترط البعض دخول المعتقل ولم يضعوا حدا لزمن المكوث به. ذلك رأي الجمهور وإن قال بعض المتأخرين بجواز وصف المتجوٍّز المتتبع للاختلاف بالمخضرم على اعتبار ترحاله بين المعارضة والموالاة، واشترطوا لذلك إكمال نصاب اصطفاف حزبي أدناه حولٌ انتخابي في إحدى الملتين.
والمخضرمون هم جهابذة الفن لمرورهم بمختلف المراحل بدءً بالتظاهر للمعارضة كاظمين غيظ الغبن متراشفين جرعات الإقصاء، وانتهاء بالتظاهر بالموالاة متنفسين هواء القربى من السلطان متعاطين نخب السلطة،وبين طوري التظاهر يمر المخضرم بفترات ظهار للساحة ممانعا أو متمنعا أو ممنوعا، كل ذلك في عرض لا يخلو من مهارة في لبس اللبوس المناسب لكل حالة وفهم عميق لعلم الفلك السياسي وعلم دقيق بأحوال الطقس السلطوي وانقلاباته.
والماهر من هذا الصنف من الساسة هو من برع في المعايرة بين كدحه ومدحه أي سلم مخرج كافه وميمه وفق منهج التجويد في الخطاب السياسي، فيكون مناضلا في الأولى ومحظيا في الثانية أو"تكنوقراطا" معتزلا في حال التوسط بين المنزلتين، على ما يكتنف تكرر إبدال الكاف بالميم والميم بالكاف من خطر الوقوع في اللحن بصنفيه الجلي والخفي. فاللحن الجلي يكون متعلقا بكنه الموقف السياسي المتخذ، وأما الخفي فيكون بزيادة حركة في الموقف ذاته أو تفخيم مرقق لدى رأس السلطة ونحو ذلك.
فقد يقع المخضرم في اللحن الجلي اتفاقا بأن يعارض في مقام مولاة أو يوالي في مقام معارضة أو يقف على الحياد في مقام اصطفاف. فالأصل في السياسة الانحياز إلى موقف مصلحة معين وهو رأي المحققين من أهل الفن لذلك اعتبروا الحياد موقفا على اعتبار أن عدم أخذ موقف يعد موقفا في ذاته وفرقوا بينه وبين حياد العوام لوجود الإربة لدى الساسة واقتصار الأمر على دائرة الانطباع والمزاج لدى العامة.
فالمعارضة في مقام الموالاة تكون من مخضرم غُمّ عليه الظرف السياسي فتأول مستخدما حدسه وما تراكم لديه من خبرة في تتبع تعاقب مواسم الولاء والبراء فاخطأ التقدير، فليس له في حاله تلك سوى تقمص جبة المناضل القح وإن اطمأن قلبه بالموالاة، صابرا محتسبا منتظرا لموسم ولاء آخر وهو في ذلك مخير بين التمادي والتعجل. فإن تعلق الأمر بحدث جلل نحو انتخابات رئاسية فقول الجمهور بالتعجل إن تعددت الأشواط، فنتيجة الرئاسيات تجبّ ما قبلها، وأما في معتاد الأمور كالبلديات ونحوها، فالراجح التمادي والبناء على يقين حصول فعل المعارضة واستثمار ذلك في مقبل الأيام لدخول الساحة بنفس جديد يمكّن السياسي من مقايضة مجزية عند انعقاد أول موسم، إما بإحداث شق في صف المعارضة أو بالتحول إلى فص يملأ شقا في صرح الموالاة، أو بالجمع بين صفتي تشكيل الفراغ وملء الكتلة فيظفر ب"حسنتي" شق المعارضة وسد خلل الموالاة فيكون مناضلا محظيا، ولا يكون ذلك إلا من أولي العزم من المخضرمين من مجتهدي مذاهب السياسة.
أما الموالاة في مقام المعارضة فالراجح أنها خِطء سياسيي مع خلاف بدليل حول تكييف ذلك على اعتبار الأخذ بالمبادئ أو المصالح. فأهل الحيطة لا يؤثمون الموالي مطلقا فيرجحون مظنة تحقق المصلحة في حالة الموالاة (في مقام المعارضة) على آكدية انتفاء المبادئ، لكن المشهور لدى المتوسطين من أعلام الساسة المخضرمين أن ذلك يحتمل الوجهين فإن كان المعني أيقونة في حزبه فموالاته نشوز بواح مُخرِجٌ من ملة المعارضة غير مُمَكّن من مال الموالاة. أما من هم دون ذلك من مغامري المناضلين فقد يكون لهم نصيب في سوق الاصطفاف إن هم أحسنوا استغلال فقاقيع المضاربة فعرفوا ذروة وقت البيع وذلك ديدن فئة الأواسط التي تشكلت في زمن العقيد فيما يعرف اصطلاحا ب Dealers
وفي الحياد في مقام الاصطفاف أقوال أدناها أنه محمول على الكراهة مطلقا خاصة لأعيان القوم. فلا يحايد المخضرم ذو الخبرة إلا في حال اختلطت عليه الأمور كما في حال انهيار البناء السياسي إثر انقلاب ونحو ذلك، فتندب له الأناة حتى يميز الغالب من المغلوب. علي أن مذهب المغامرين المقامرين من أهل الفن يقوم على اعتبار الانقلابات فرصة لاتخاذ موقف قد يكون حاسما أو ماسحا حسب دقة الاختيار عند الانحياز إلى أحد الطرفين المنقلب أو المنقلب عليه. ومذهب أهل الحيطة في حال حدوث انقلاب مغيّر لناموس السلطة أن ينكفئ السياسي في صومعة الحياد وأن يصوم عن الكلام المباح حتى يُعرف شهريار القصر من أي ثكنة هو.
ولبعض المخضرمين مرونة عجيبة في بناء علاقاتهم بأولي الأمر تغلبا أي العسكر. فلكل فرد من الفريقين قرين من الفريق الآخر. فلا يخلو نظام من بعض المخضرمين يشكلون حشوة بطانته السياسية فيما يشبه "حرملكا" رجاليا للسلطان العسكري يقرب منهم من يشاء ويرجى من يشاء، وآخرين منهم مقرنين في أصفاد قضايا فساد سابقة، الكل مسخر لصاحب السلطة. وللسياسيين قرناء من العسكريين يشكلون أذرع سلطة توصلهم إلي المناصب وتفتح لهم منافذ المال العام. وتبعا لمنزلة القرناء العسكريين في هرم السلطة تختلف أذرع السياسيين طولا وعدداً، فمنهم ذو الشعرة وذو النتوء وذو البرعم ووحيد الذراع ومنهم ذو الأذرع الأخطبوط وهو أعلاهم درجة وأكثرهم مرونة وانسيابية في المحيط السياسي.
أما الأواسط فخلفٌ خلفوا بعد خمود جذوة الجيل الأول تزامنا مع استقرار الأمر للعسكر خاصة في زمن عميدهم العقيد والذي شابت في عهده وجوه من المخضرمين وشبت فيه ولدان مما سيعرف لاحقا بالجيل الثالث G3+. ولصنف الأواسط ما يميزه عن سابقه ولاحقه نظرا لركوبهم موجة ما سمي الديمقراطية منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي. من ذلك قصر دورة حياتهم السياسية واتقاد حشوة نضالهم وسرعة تفريغها، وفجاءة تقلب مزاجهم الحزبي في حقل التجاذب السياسي شديد الاستقطاب، فلا ثبات للشحنة بين المعارضة والموالاة، فسوق الاصطفاف حرة والمواقف تتبع نظام التعويم المدار داخل هوامش ترحال محددة ذات سقف مختلفة. ومذهب الجمهور على أن لا تعريف لفرد الأواسط إلا ما كان من تأكد الاستظلال بزمن العقيد وعدم الكدح، فهم تابعون للجيل الأول مشتركون مع مخضرميه في فعل السياسة وإن اختلفوا معهم في المنبع الفكري، فأهل التحقيق على عدم تأدلج السواد الأعظم من الأواسط.
فالأوسط اصطلاحا هو كل من لم يتيمن ولم يتشاءم وإنما جمع ما تيسر من كل مذهب مخرقا متجمهرا إما في صفوف المعارضة أو كان جمهوريا نسبة إلى "الحزب الجمهوري" على خلاف جلي بين الاثنين. ذلك أن التجمهر الأول موجب للحرمان ما لم يتبدّل صاحبه الموالاة بالمعارضة، على خلاف نوع التجمهر الثاني المؤهل لولوج نبع السلطة وإن تباينت مراتب السقاية حسب مدى إدلاء السياسي بدلوه في الشأن وعلو ماء مورده أو غزارته كأن يجاور شلال موالاة مغذى من أعلى هرم السلطة. وهذا الصنف صنيعة العقيد الذي برع في ضرب السياسيين بعضهم ببعض مهجنا بعناية بين فصائلهم وأجيالهم، قالبا موازين القوة التقليدية، مخرجا لكل عظيم قومٍ إمعة من أهله يلقى عليه أساورة من المال العام فينصرف إليه الدهماء وهم جمهور الناخبين. وأوسط "الأواسط" مذهبا هو من والى ووُلِّيَ ولم يأل جهدا في التحصيل فكان مسلكه في الوظيفة كالمنشار في غض الخشب يأكل صعودا وهبوطا ولا يحدث صوتا. وهذا الصنف يجمع كل أشكال هندسة التمصلح، فهو مُعَيَّنٌ في المنصب، شبه منحرف التسيير، مكعب السلطة، مستطيل النفوذ.
ومنهم كذلك المذبذبون بين الولاء والبراء وهم صنف جمعوا صفتي الطموح للغاية والأنفة عن الوسيلة، تحملهم الأولى عاليا في مدٍّ نحو الموالاة الصرف وتمنعهم الثانية من ركوب موجة التملق فهم بين عيني عسل السلطة وعُسْر المعارضة. على أن أهل التحقيق يميزون بين مراتب التذبذب، فلذلك فرقوا بين التذبذب بين شحنتي التيار السياسي أي المعارضة والموالاة، وبين ما يكون من تردد في الهمة في المضي قدما في إحدى الاثنتين بعد حصول الانتساب إليها.
فالتذبذب الجلي يكون بالمراوحة بين خانة المعارضة وخانة الموالاة من خلال تغير الموقف السياسي المعلن وإن قصر زمن المكوث في هذه أو تلك. وفي هذا الباب تفصيل في تكييف التذبذب الجلي: فلا بد فيه من الإعلان على الملأ وشهادة مستفيضة من الحزب المضيف، والجمهور على حمل ذلك كله على التخفيف فيجزئ فيه نصب فسطاط منمق أوخيمة ورص بعض المرطبات، لكنهم يعتبرونه أمرا جدّه جد وهزله جد مع خلاف في تحديد ذلك.
فالمتلفظ بترك حزبه عند أهل الحيطة يعد تاركا له وإن نوى غير ذلك، فالفعل السياسي عندهم شأن ظاهري محض، لكن المعتدلين على عدم اعتبار مجرد حصول التلفظ ما لم يكن على الملأ وبألفاظ صريحة فلا تجزئ عندهم الكناية لمظنة حصول اللبس في المقال خاصة وأن قليلا من السياسيين من هو مفوه متمكن من فنون الكلم. فالشجاعة لدى البعض سجاعة والهُوية هَوية، بل إن بعضهم يتباهى بتبني القيام بنشاطات مضرة للدخل! والبعض "يدمر" الضمير، والبعض شديد التعتعة يهش على حروفه التائهة بين الحلق وجنبات اللسان فتخرج نخالة كلام اختلط مهموسها بمستعليها يذروها في مسامع متلقيه. فلذلك وجب التحقق من صراحة اللفظ سدّا للذريعة.
وأما أهل التحقيق فيعتبرون أن الأمر يشمل التلفظ والإعلان معاً، مع درجات بينونة مختلفة. فلو أن أحدهم تلفظ بترك حزبه ولم يزد على ذلك فله أن يعْتدّ عدة اصطفاف سياسي تختلف مدتها باختلاف الموسم ومكانة الشخص في فصيله، فإن انقضى الأجل ولم يتلفظ برجعة سياسية ولم يبدر منه ما يفيد ذلك فقد حصلت بينونة ترحال صغرى، فإن تكرر الأمر (على اعتبار عدد المواسم الانتخابية) كانت بينونة كبرى يلجأ صاحبها إلى حزب وسيط يلبث فيه قبل أن يستأنف نشاطه من جديد فإما مدحاً بعدُ وإما نضالا.
وأما النوع الثاني من التذبذب أي الخفي فصاحبه معلوم التوجه لكن دون جموح في الموقف، فلا هو مؤيد فاعل يطوي بتأييده المسافة نحو حوض منافع السلطة، ولا هو معارض نشط يبنى بمعارضته معالم نضال شخصي. وسواد هذا الصنف هم من النخبة ذوي العفة ممن يتفادون الاصطدام بالسلطة فيوالون لكن دون شديد لهث خلف إغراء المنصب، يسعون لشهْد الموالاة دون التعرض لإبَر نحل التملق، وهو ضرب من المستحيل عند أهل التحقيق. ذلك أن شُرْب صفاء ماء السلطة لا يكون إلا بتحقق أمور أربعة تعرف بتاءات الوصولية وهي تنازل وتوسط وتملق وترحال.
فالتنازل شرط وعند البعض ركن (على تفصيل في الفرق بين الاثنين) وأما كيفه فالجمهور على قياس السياسي الموالي على المتعامل مع الجن كما يرد في الموروث الشعبي، لاشتراكهما في صفة ترك أمر ذي شأن مقابل خدمة يحصل عليها المتنازل. فكما أن "المخدم" قد يترك بعض عبادته لمستخدميه مقابل خرق عادة يجري على يديه، فإن السياسي قد يترك بعض مبادئه أو يتنازل عن بعض مطالبه النضالية تقربا للسلطة فيكون له نظير ذلك خرق عادة إداري ومالي. ويشترك السياسي و"المخدّم" كذلك في أمور عديدة كعدم الظاهرية والالتزام بورد معين. فلا يعلن السياسي إلا بقدر ما يبطن كما وأنه دائم الالتزام بذكر لرأس السلطة في مواقيت معينة وعلى نحو توقيفي.
وفي التوسط قولان أولهما بدلالته على عدم التطرف في المواقف وهو رأي البنيويين من مجتهدي الفن، وأما الثاني فيحمل اللفظ على نحو آخر فيقصره على فعل التوسط بين طرفين من باب توسط فلان لعلان فيكون المقصود أن منازل السلطة لا ترام إلا بتوسط للراغب في بلوغها ومن ثم توسطه هو لغيره. فالتوسط بالمعنى الأول يجعل السياسي مائع الموقف لزج الحراك ذا بنية هندسية متعددة الأبعاد وذا واجهة متعددة الأوجه وذا أوجه متعددة الألوان، فلا يخالف بشكل مطلق ولا يوافق بشكل مطلق وإنما يبقى في فسحة براح النسبية الممتد بين عتبتي الاحتجاج والموافقة.
أما بالمعنى الآخر للتوسط فالمقصود هو دخول السياسي في سلسلة من الوساطة الساقط منها مفقود والمنتمي لها موعود، والسياسيون في شأنهم ذلك مراتب شتى. فأعلى السلاسل مرتبة هي تلك الجامعة بين رأس عسكري ذي رتبة ورجل أعمال ذي حصة في السوق ومثقف مفوه ذي مهارة في التحريف وزعيم تقليدي ذي نفوذ قبلي وجوكر دهماء ذي حضور في الصالونات وصحفي سليط ذي نزعة بشمرجية ومخبر أمني ذي نشاط حثيث. وتضعف السلسة بسقوط أي من حلقاتها ما لم يتعلق الأمر بثلاث منها وهي العسكرية والتجارية والقبلية فأهل التحقيق على آكديتها وإن خالفهم البعض ممن يرى إمكانية التماهي بين المكونات الثلاث وفق منطق القرناء فيكون رجل الأعمال حاملا لمرتبة العسكري ويكون الزعيم القبلي امتدادا لنفوذ رجل الأعمال أو العسكري، لكن وجود المكانة العسكرية محل إجماع مطلق.
وأما التملق فملح السياسة على وجه العموم، وأما لدى الفرقة الميكافيلية (وهم غلاة أهل الحيطة) فروح العمل السياسي. على أن تكييف فعل التملق محل خلاف كبير يتراوح بين اعتباره توابل للمطبخ السياسي وهو مذهب الجمهور من أهل التحقيق، وبين من يرونه وقودا للحراك على سلم السلطة وهو رأي المعتدلين من أهل الحيطة، ومدرسة ثالثة تقول بالأخذ به كمورد لترطيب جفاف الجفاء مع أولي الأمر يُغرف منه في حال الضرورة فإذا زالت العلة رُفعت الرخصة. وهذا الباب باب توسع وفسحة وبرزخ شبهة لدى أهل الفن باختلاف أجيالهم ومشاربهم، فهو داخل في المجاملة والتودد إلى الناس حتى اختلط في شأنه حابل العامة بنابل الساسة في خضم المعمعة السياسية.
ورابع التاءات هو الترحال ومعناه انتجاع مراعي المصالح وبناء المواقف على ذلك الأساس. وبهذا المعنى فهو متداخل مع تاء التوسط على خلاف دقيق بين الاثنين. فلا تطرف وفق مبدأ التوسط في حين أن الترحال قد يقود صاحبه إلي إحداثية مخالفة في الإشارة مقابلة على مستوى الاصطفاف السياسي، وهو أمر شائع عند حصول انقلاب مغير للمرجعيات والمحاور.
آخر عنقود الطبقة السياسية هم الجيل الثالث G3+، "جيل المحمول" من السياسيين. ولهؤلاء من اسمهم نصيب فقد زامنوا التوسع في استخدام الهاتف المحمول واكتسبوا بعض صفاته. فالولاءات كالشرائح تنتقل من جهاز حزبي إلى آخر، والأجهزة محل تبديل وتغيير تبعا للموضة السياسية. وأما المبادئ فيجري عليها ما يجري على الرصيد من تحويل من جهة إلى أخرى وإن اشترط البعض الإبقاء على حد أدنى من الرمق النضالي يمكن صاحبه من الوميض في الفضاء السياسي فيبقى معلوم المكان حتى ولو تقزم موقعه حتى صار كالنقطة المادية معدومة الأبعاد. وكذلك الشأن بالنسبة للشحنة النضالية فهي قابلة للتجديد في ظرف وجيز.
وأما تعريف الفرد من "الجيل الثالث" فالجمهور على اعتبار ميزة الشباب واختلفوا في تقدير السن فهو لدى المتوسعين مادون الستين ولدى البعض الخمسين، والصحيح أن أهل الفن في هذا الشأن متوسعون توسع الحنابلة في تعريف الصعيد الطيب فرأوه شاملا لما برز فوق بساط الأرض واتصل بها. وللبنيويين رأي مغاير فيرون الأمر مرتبطا بمفهوم الشباب المقصود هل هي الحداثة العمرية أم حداثة العهد بالممارسة أم الجمع بين الصفتين وهو رأي محققيهم.
ولجيل الألفية الجديد ميزة اختزال دورة الحياة السياسية التقليدية التي تبدأ عادة ببعض النصَب الناجم عن السباحة ضد تيار السلطة يفضى في النهاية إما إلى المشاركة في الحكم موالاة أو إلى مشاكسة النظام ومسائلته معارضة. فلقد بدأ رواد فئة G3+ من حيث انتهى الآخرون مستفيدين من سياسة التدجين والتجفيف والتجميد التي اعتمدها نظام العقيد والتي أفضت إلى حالة عبثية من معارضة لا تملك غير تعرية النظام ونظام لا يملك غير ترويع المعارضة، ليتشكل بين قطبي العدمية السياسية تلك : التعرية والترويع، مرتع حظوة للجيل الجديد. فتيارهم السياسي متناوب متقارب الومضات بين المعارضة والموالاة وجهدهم حثيث بين طرفي الدائرة السياسية وهو ما يفسر كثرة تعرضهم للسع الدوائر القصيرة.
ولهذا الصنف طريقته الخاصة في ممارسة العمل السياسي التي تجعل منهم فنيي السياسيين وسياسيي الفنيين. فالجمهور علي عدم تسيس G3+ بالمعنى الإيديولوجي للكلمة وإنما هم شباب من رجال بحر السياسة منهم راكبو أمواج سلطوية للوصول إلى أعلى المناصب ومنهم غواصون يرمون بأنفسهم في الأعماق ليلتقطوا ما تيسر من قشريات السلطة النادرة، وفئة ثالثة من ذوي الصنارة يغدون بطعمهم ليعودوا بما تيسر من طعام فهم بذلك "جرنالية" الشبيبة السياسية هذه. وأمثل جيل الشباب طريقة هو من أحسن التكيف مع كل أحوال الطقس السياسي المتقلب حتى خلال الموسم الواحد، فيركب لوحه المطلبي في خضم الحراك الحزبي ثم لا يلبث أن يلقي به ليغوص متتبعا مظان الرزق فإن لم يفلح ولفظته الموجة انصرف إلى ركن هادئ حاملا صنارته فإن خاب مسعاه ذاك احتسب ثم واصل تسكعه على شاطئ السياسة عله يظفر بمحار منفعة أو عوالق مصلحة يلقى بها المدُّ أو يحسر عنها الجزر من فتات بحر السلطة فطعامه كله حل ولو كان ميْتا.
وعلى العموم فإن الممارسة السياسة في العهد الجديد ضرب من البحث عن فرص العمل والترقية فلذلك اختلط الاصطفاف بالدمج، ومكافحة الفساد كمبدأ نضالي عام بمحاربة الفقر كمقصد مصلحي خاص، والتبست التشكيلات الحزبية بالشللية و"التشبك" Networking. فللعصر الرقمي تطبيقاته السياسية التي اختزلت الأحزاب في لفافات أوصال اعتراف تُأخذ بغير أسماء أصحابها الحقيقيين أحيانا وتستغل أحيانا من طرفٍ غير الذي أصدرت له، تماماً كما هو الشأن في موضوع اشتراكات الهاتف المحمول المباعة "لحاملها" على أرصفة "النقطة".
لكن وعاء السياسة ظل واسعا لكل الفئات من مخضرمين وأواسط وجيل جديد وأقوام بين ذلك لا يعلمهم إلا الله، قد علم أناس مأكلهم من كتف الدولة كلٌّ حسب حميته فالبعض متفكه وهم ذوو الكولسترول من المخضرمين، ومنهم اللاحم وجلهم من الأواسط، ومنهم الجامع بين كل الأصناف وهم شباب الأواسط الذين لم تخذلهم قواطعهم بعد، وأخيرا جيل ال تيك- أواي بمختلف فئاتهم: الآكلين في الأطباق والخاطفين اللقمة..
ولما كان السياسي يكره التقاعد كما تكره الطبيعة الفراغ فإن الفضاء السياسي ظل عاجا بمختلف الأجيال السياسية من مخضرمين وأواسط وجيل ثالث، الكل يسبحون في حلقة الموالاة والمعارضة المفرغة الدائرة في متاهات وسبل سيرك كبير شغل أهل هذه البلاد اسمه السياســة.
عبد الله ولد محمد