شكلت الفضيحة الأخيرة المدوية التي مني بها المسمسرون "الرسميون" منعطفا هاما وخطيرا في تاريخ الفساد الرسمي، فقد بدا جليا أن المستثمرين باتوا يتحكمون في كل مفاصل الدولة الموريتانية، وأن اتفاق مافيا الأشخاص من محاسبين و"تيفاية" بات يمثل أمثل الطرق في الإثراء الفاحش خلال وقت قصير.
السمسرة الرسمية
من حين لآخر تتحدث أوساط مطلعة عن تلاعب كبير في ميزانية الدولة وتفاصيل مثيرة حول علاقات السماسرة الكبار بـ"المخزن"، ومصالح مشتركة يجني منها الطرفان ـ بأوصافهم الفردية ـ عائدات كثيرة.
وقد أكدت الأوساط أن اتفاقات تبرم بعد تدخل من جهات عليا في الدولة تقضي بالتعامل مع أفراد تجمعهم العلاقات الاجتماعية بالمتحكمين في رأس الدولة.
وعن تفاصيل الصفقات فهي متعددة، لكن أبرزها القرض السري لمحركي الأموال بالسوق مقابل تقاسم الأرباح مع المحاسبين، وفي أحايين كثيرة يجد المحاسبون أنفسهم مكرهين على التعامل مع الأفراد.
لكن أكثر تلك السمسرات خطرا ما يمارس في البنك المركزي الموريتاني، فقد باتت الجهات العليا تمتلك طريقة مثلى في التقرب إلى المحيط الاجتماعي بوسيلة أكثر اختصارا، وتكمن هذه الوسيلة في قرض مليون دولار مثلا لأحد الأفراد المعنيين أمام موسم اقتصادي ليذهب بها إلى أحد الأسواق المزودة للسوق الموريتاني، وتكفي مدة عشرين يوما ليجني المعني من مليون دولار ما يربو على خمسة عشر مليون أوقية في الحوالة.
وهذا الضرب الأخير يمثل خطرا كبيرا على الاقتصاد الوطني، فبغض النظر عن الانتقائية فيه، وكون العامل الاجتماعي هو الأبرز، فإن تصدير العملات الصعبة بطرق ملتوية، والانتقاص الملحوظ في مخزوننا الوطني من الدولار يمثل هو الآخر خطرا كبيرا.
وقد برز في الآونة الأخيرة مجموعة أرقام أعمال لافتة في الساحة الاقتصادية الوطنية، وقد انتهجوا هذه الطريقة، معتبرين أنها "الفساد النزيه"!
خصخصة الأفراد
تمثل هذه الطريقة الأسلوب الشائع في موريتانيا الذي يمنه الرئيس والمتنفذون معه على المحيطات الاجتماعية القريبة من حاكمي الدولة الموريتانية.
وقد قضى الرئيس الموريتاني على كل من لا يلتف ورائه، ولا يبارك قراراته، لتخلو له الساحة بمجموعة سماسرة خاصة به يوجهها كيف شاء.
وتمثل سياسة سحق المنافسين إحدى المرتكزات المهمة التي ينتهجه كبير القوم محمد ولد عبد العزيز، والمحاربة الاقتصادية الملبسة لبوس القانون والدولة، واستخدام النفوذ بكافة أشكاله من أجل القضاء على المنافسين.
وتدخل التصفية المباشرة لصديق الجنرال القديم ومنافسه الحالي محمد ولد بوعماتو في هذا الاطار، كما أن الرشاوى التي عثر عليه خارجة عن سياق "الافساد الرسمي" لاقى أصحابها التهميش والسجون، لأنه في ساحة السمسرات لا مجال إلا للأوربي ومن اتبعه.
وهنا لا يمكن أن ننفي أو نثبت اتهامات أطلقت هنا أو هناك بتورط رأس الدولة في فضائح اتجار بالمخدرات، لكن المتيقن من اللعبة أن هنالك شبكات متصارعة في المجال تتنافس على الانفراد به، ويرجع بعض المحللين التسريبات الفاضحة التي نشرت "الأخبار - إنفو" إلى ضرب بعض المنافسين لمنافسه، والمؤشرات تدل على أن ما رشح من أخبار يستوجب ولو تحقيقا شاملا لكشف ملابسات القضية.
وقبل نتائج التحقيق.. بل قبله هو نفسه، هنالك استفهام واضح حو الأطراف المتصارعة، ويبدو أن بصمة رسمية حاضرة تود لو ضربت منافسيها، وكلها يصب في اتجاه "سحق المنافسين". مخاطر القضية نظرة غير المتخصص البريء، والنتيجة المبسطة لمخاطر هكذا سمسرات تقول إن مخاطر كثيرة تهدد الميزانيات المصروفة لقطاعات الدولة، وإيكال مصير رواتب العمال إلى أفراد أودع لهم المال بغير سند ولا كفاءة ولا أي مبرر..
والأخطر من كل ذلك أن تصل اللعبة لأخطر جهاز وطني متمثل في الجيش الوطني، ويبدو ما تناقلته وسائل الإعلام من القضية مثيرا للانتباه، فلحد الساعة لم ينشر أي خبر عن المحاسب المعني بإعارة الأموال، اللهم إلا نبأ الأوامر العليا، والذي يستدعي هو الآخر تحقيقا جديا.
ورغم أن القطاع المعني شبه غائب بالكامل عن الأضواء الإعلامية إلا أن ما رشح من شائعات يقول بأن رواتب أفراد القوات المسلحة كثيرا ما تعاني تأخرا أشهرا متعددة، ونظرا لظروف أفراد الجنود لا يسمح لهم بنشر الأخبار في الإعلام.
ويبدو حبس المعني بالاستحواذ على الأربع مائة مليون من ميزانية الجيش مسرحية سيئة التأليف والإخراج، فالتساؤلات كثيرة حول العصابة المتورطة في القضية من الجهات العليا في البلد وحتى المحاسب الذي أعطى الأموال.
ويحق للمتسائل العادي أن يطرح استفهامات كثيرة حول مصير الأموال التي تودع للبنك المركزي والتي يفترض أن تتلف، كما أن أي مؤسسة عادية تواجه مخاطر الإفلاس في ظل إعارة الأموال لبعض الأوجه المغامرة بالمال العام، المتلاعبة بأهم قطاع وطني الجيش الوطني أعني.
قبل سنتين من الآن سمعت إشاعة تقول إن أحد السياسيين أراد زيارة عزيز في مكتبه، ولما دخل وجده في انشغال متواصل بالهاتف إدارة للصفقات التجارية وبعد ساعة طالب الرئيس من زميله المسامحة إلى فرصة أخرى!!
تبدو المؤشرات تصدق الشائعة، فالرئيس منشغل فعليا في سمسراته، أما ما لم ترج منه إعادة بفائدة لا يحظ بأي اهتمام رسمي، فمن المعقول جدا بل والواقع أن يجهل رئيس الجمهورية دور مؤسسة مثل "الهابا" ليسأل عنها مرة أحد ضيوفه!!
ويبقى الوطن، وموارده.. والعاملون في كل القطاعات.. ومصالح كل مؤسسة على حدة، بيد سمسار من القوم وكل إليه استثمارها، أما المصالح الوطنية، والنزاهة في التسيير فإنما ذلك خيال يراود البعض، والحقيقة المتجددة المتجسدة على أرض الواقع أنا نعيش دولة سماسرة توفر أموال الشعب من أجل ملء جيوبها،، والمقابل لا يتعدى فوائد ترجع إلى كبير القوم.