بدأت صباحي الفيسبوكي لهذا اليوم بزيارة لصفحة الدكتور "الشيخ سيدي عبد الله"، وهي الصفحة التي كثيرا ما أزورها لما أجد على حائطها من خواطر ثقافية ممتعة تبعدني ولو قليلا عن السياسة، وعن ضجيجها الذي لا يتوقف أبدا.
وخلال تسلقي لحائط الدكتور وجدت الكثير من الخواطر التي استوقفتني، ولكن كانت هناك خاطرة استوقفتني أكثر من غيرها، بل إن تلك الخاطرة أحدثت لخبطة في برنامجي اليومي، وجعلتني أعدل عن الكتابة في السياسية بعد أن كنت قد حددت الموضوع، لأكتب مقالا ربما يمكن تصنيفه على أنه من أدب السياحة الذي لا يخلو من حديث في السياسة.
كانت الخاطرة التي تسببت في تعديل المقال هي خاطرة كتبها الدكتور عن لوحة إشهارية كبيرة قرب قصر المؤتمرات كُتب عليها : " لنحمي أسرنا من عدم سوء التغذية". وكالعادة فقد علق الكثيرون على خاطرته، وجاؤوا بتعليقات لافتة عن لافتات في العاصمة، وليس التفاعل مع ما يكتب الدكتور هو الشيء الوحيد الذي أغبطه عليه.
المهم أن الخاطرة أوحت لي بفكرة كتابة هذا المقال، والذي سأحاول من خلاله أن أعرفكم على العاصمة نواكشوط، وذلك من خلال تهجي ما كُتب على بعض لافتاتها.
إن محاولة التعرف على العاصمة تبدأ بمحاولة التعرف على الحدود الجغرافية لها، فما هي حدود العاصمة؟
نواكشوط عاصمة بلا حدود
تقول لوحة قديمة اختفت منذ عقدين من الزمن بأن حدود العاصمة نواكشوط تبدأ من دوار "مدريد"، أي أن مقاطعة توجنين وعرفات والرياض لا تشكل جزءا من العاصمة حسب تلك اللوحة التي اختفت منذ مدة.
بعد اختفاء تلك اللوحة لم تفكر السلطات بوضع لوحات واضحة على أطراف المدينة، لتحدد بذلك أطراف المدينة، وبشكل دقيق. والحقيقة أن وضع مثل تلك اللوحات سيكون عملية عبثية بلا معنى، وذلك لأن العاصمة تتمدد يوميا، وتبتلع في كل يوم مساحات كانت تتبع إلى وقت قريب لولايات أخرى. وتعد ولاية الترارزة هي الولاية الأكثر تضررا من عملية احتلال سكان العاصمة لأراضي الولايات المجاورة.
ولقد حدثني من يشرف على تشييد طرق داخل وخارج العاصمة عن ظاهرة غريبة، وهي أن بعض سكان العاصمة يقومون باحتلال الأراضي حسب التقدم في تشييد الطرق. وقد قال لي المشرف بأنهم كانوا كلما وصلوا بآلياتهم وبعمالهم إلى مكان كان مهجورا وإلى وقت قريب، فإذا بهم يفاجؤوا في صباح اليوم الموالي بجموع بشرية جاءت لاحتلال تلك الأراضي التي سيشقها الطريق، ولوضع معالم حيازة وتملك، خاصة على تلك المجاورة للطريق قيد التشييد.
نواكشوط عاصمة مزدهرة تجاريا
يمكن القول اعتمادا على اللوحات واللافتات بأن العاصمة نواكشوط، هي عاصمة مزدهرة تجاريا، ففيها يباع كل شيء ويتاجر بكل شيء. ولعل اللوحة الموجودة أمام "مستوصف إيطاليا" هي خير دليل على ذلك الازدهار التجاري، فعلى تلك اللوحة الشهيرة كُتب : "هنا محل عبد الرحمن بن عوف لهْريد وذنين الطفلات". وفي العاصمة تباع اللحوم البشرية، حسب اللوحات طبعا، فهناك مجزرة للأنبياء، وهناك مجزرة متخصصة في بيع لحوم الشعب، وتسمى ب: "مجزرة الشعب".
وفي العاصمة يباع لبن الجمال، حسب إحدى اللوحات، وتعسل الثياب بدلا من أن تغسل حسب لوحة أخرى.
ولم يتوقف تطور التجارة في العاصمة عند هذا الحد، فهناك في العاصمة من يبيع الميتة نهارا جهارا، فهذا صاحب محل علق لافتة على محله تقول: "هنا يباع الدجاج حيا وميتا". كما أنه قد أصبحت في العاصمة بقالات خاصة بالحيوانات. فهناك بقالة سماها مالكها ببقالة وادي الذئاب، ولا أعتقد بأن بشرا سويا سيقبل أن يشتري من بقالة خاصة للذئاب.
وبلغ ازدهار التجارة في عاصمتنا ما لم يبلغه في أي عاصمة أخرى، ففي عاصمتنا النشطة تجاريا، هناك من هو متخصص في بيع الكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وأعاصير، ففي عاصمتنا هناك ـ على الأقل ـ محل لبيع المواد الغذائية وأنواع الأعاصير.
نواكشوط عاصمة لا تعرف التخصص.
غير بعيد من حيث أسكن تطالعني في كل يوم لوحة علقت على بيت متهالك وكُتب عليها: "هنا دبو أبريك ـ تحويل الرصيد ـ محظرة". والحقيقة أن هذا النوع من اللوحات الذي يخلط أمورا عجيبة ينتشر في كل مقاطعات العاصمة، فهناك تاجرة علقت على محل تجارتها: "هنا تباع الخضروات الطازجة والملابس الجاهزة"، وهناك من علق على غرفة أثرية: "حلاق إخوان مايكل ومغسلة ماري اتشو". ولعل اللوحة الأكثر غرابة هي تلك اللوحة المعلقة على "عيادة" غريبة قرب مسجد قطر، والتي ادعى صاحبها بأنه يعالج الأمراض التالية: "تاسيوه (الضغط) ـ آلام البطن ـ ضعف الجنس ـ أمراض الجن والشياطين ـ علاج سوء الحظ ـ وأشياء أخرى". أما الترجمة الفرنسية للوحة فكانت أكثر غرابة، حيث ترجمها صاحبها على النحو التالي: " Tension- Mau de vente – Fatigue sexiel- Maladie du diable- Mal chense - Excetera
ولا يتوقف الخلط عند هذا الحد، بل إنك قد تجد خلطا له دلالة خاصة، ويعكس مستوى الانحلال الذي وصلت إليه العاصمة، ففي العاصمة هناك حائط شهير كُتب عليه بالخط العريض: "ممنوع وقوف السيارات مع النساء".
وحتى لا أزعجكم بمثل هذه اللوحات الغريبة والعجيبة، فإني سأختم هذا الحديث الذي ربما أعود إليه في وقت آخر، بلوحة فيها شيء كثير من الإبداع، وهي لوحة تقول بأن العاصمة رغم كل ما فيها من فوضوية وضياع إلا أنها مع ذلك لا تخلو من إبداع، حتى وإن كان ذلك الإبداع لا يزال يتلمس طريقه، ولا يزال يحاول جاهدا أن يكشف عن ملامحه وسط كم هائل من اللوحات واللافتات الغريبة والعجيبة.
فهذه كلمات كُتبت على حائط به نخلة بجوار مسجد، وهي كلمات صورها الناشط في حركة 25 فبراير الأخ "عبد الفتاح ولد حبيب"، وهو بالمناسبة من جاءنا بلافتة العيادة الغريبة المذكورة آنفا.
تقول اللافتة : "النخلة تستفيد من ماء وضوئكم". وقد أراد كاتب هذه العبارة أن يحافظ على نظافة المسجد مع ضمان توفير الماء اللازم لنمو النخلة. ولو أن كاتب العبارة سعى إلى نظافة المسجد من خلال كتابة "ممنوع الوضوء هنا" لتعمد البعض على الوضوء في المكان الممنوع. وتلك واحدة من غرائب الإنسان الموريتاني، والتي لا يمكن أن نفهمها إلا إذا فهمنا ذلك السر العجيب الذي يجعل ربة بيت تحمل القمامة من منزلها، وتذهب بها إلى الحاوية، والتي قد تبعد عن منزلها بمئات الأمتار، ولكنها بعد أن تصل إلى الحاوية، تقوم في آخر لحظة بحركة غريبة وعجيبة تقرر بموجبها رمي القمامة بجنب الحاوية، بدلا من أن تضعها في داخل الحاوية.
حفظ الله موريتانيا.