رتــــــوش...لا أكثــر...!!! / عبد الرحمان ولد محمد صالح

عبد الرحمان ولد محمد صالحالحالات المستعجلة بمركز الاستطباب الوطني بنواكشوط، مرفق عمومي ارتبط منذ إنشائه بمعـاناة المواطنين و الرقص على وقع أنين المرضى و المعوزين، و قد عرفت فـي السنوات الأخيرة إصلاحات شكلية تمثلت فـي إنجازات استعراضية من تركيب لمقاعد أليمينيوم و شاشات بلازما و طلاء الجدران..!! فـي الوقت الذي لم تواكب هذه الاستعراضات سياسات تساهم فـي الرفع من مستوى الخدمات الصحية للمستجيرين بهذا المرفق الصحي.

فبعد ٥٣ سنة من نشأة الدولة الموريتانية لا يداوم فـي الحالات المستعجلة سوى أربعة أطباء شباب-طبيب واحد مقابل ثلاث مائة ألف قاطن فـي العاصمة- لا يزالون فـي بداية مسيرتهم العملية، فـي الوقت الذي ينشغل أصحاب الخبرات من أطباء و أخصائيين بعياداتهم الخاصة المنتشرة على الرصيف الجنوبي لطريق الأمل و مصحات أحياء الطبقة المترفة.

أربع أطباء يداومون لمدة اربع و عشرين ساعة متواصلة فـي جو من الفوضى العارمة تختلط فيها توسلات المرضى بصيحات الأهالي المفزوعين وسط سحابة من الروائح النتنة المنبعثة من دورات المياه..ماذا عساهم أن يفعلوا و هم يواجهون هذه الحشود مجردين من الدعم المعنوي؛ حيث لا يجدون من يتفهم ظروفهم الصعبة و يضع فـي عين الاعتبار مـا يقدمونه من تضحيات للمحافظة على رباطة جأشهم و هم يسمعون عبارات التشكيك و التخوين صادرة من أفواه كل من هبَّ و دبَّ، و مجردين كذلك من الدعم التقني؛إذ لا يمتلكون من التجهيزات الطبية مـا يعينهم على مهمتهم فلا تتوفر الحالات المستعجلة إلا على مقياسين للضغط و مثلهما للحرارة فـي الوقت الذي تنعدم العقاقير و أجهزة تخطيط و تحفيز القلب و التنفس الإصطناعي.

و لذلك ليس بإمكان الحالات المستعجلة التعامل سوى مع الحالات البسيطة كمن أصيب بنزلة برد فـي مكتب حكومي جراء جلوسه مقابل مكيف لا يدفع فاتورته فـي نهاية الشهر، أو من أصيب بإسهال بعد عشاء بهامبرجر بالجبن، اقتنيت من مطعم راق، أو التعامل مع من أصيبت بوعكة صحية جراء ازدحام قاعات الأفراح. أما من تحتاج حالته لفوحوصات الدم فعليه ندب حظه العاثر و اللجوء إلى المختبرات الخاصة المحاذية للمستشفى لإجراء تحاليل بعشرة أضعاف السعر العادي بسبب انعدام المحاليل الضرورية فـي مختبر المستشفى؛ إمعانا فـي تعطيل القطاع العام لمصلحة بارونات القطاع الخصوصي، أما إذا احتاجت الحالة إلى تصوير بالأشعة "التلفزة" فعلى صاحبها التوجه الى إحدى العيادات الخاصة المقابلة للمستشفى الوطني و هكذا دواليك..

فـي حقيقة الأمر و بكل بساطة.. الحالات المستعجلة هي طعم ملقى للمواطنين ليتم سلب مـا فـي جيوبهم لمصلحة "طفيليات" القطاع الخاص، و يبدو الأمر جليا في تكاثر الصيدليات التي لا تهتم بجودة الدواء بقدر اهتمامها بمحاولة رشوة بعض ضعاف العقول و مرضى النفوس من الكادر الصحي لتسويق منتجاتهم عبر إغرائهم بمنح هامش من الربح مقابل كل وصفة طبية، و يتمثل ذلك فـي فتح معظم العاملين فـي المستشفى من أخصائيين لعياداتهم و مختبراتهم على بعد خطوات من أبواب هذه المنشأة فـي استهزاء صارخ بقيم و أخلاقيات المهنة.

و من المحزن أن يُدفع الفقير دفعا الى الاختيار بين أمرين إما البقاء فـي ردهات "الحالات المستعجلة" يصارع المرض و ينتظر انتصار جهاز مناعته الذي أنهكته السنون، أو التوجه الى العيادات الخاصة ليجد فيها نفس الأخصائي الذي كان يتوسل إليه قبل لحظات فـي أروقة المستشفى لعله ينظر اليه او يخفف عنه بعض ألمه و لو بكلمة طيبة.-للأسف-. هذه هي حال معظم مرافق الصحة العمومية فـي وطننا الغالي، فالأطباء الشباب مستعبون و مستبعدون، و هم في واقع الأمر الشماعة التي يعلق عليها "الكبار" و "العامة" فشل القطاع و سوء خدماته، و بين انشغال القطاع العام بالرتوشات السطحية و تغول و هيمنة القطاع الخصوصي يبقى المواطن البسيط و الطبيب الشاب ضحايا صراعات "لا ناقة لهم فيها و لا جمل".

17. مارس 2013 - 16:27

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا