لقد كنت وما زلت من المعجبين بالشيخ الدكتور محمد المختار الشنقيطي حفظه الله ونفع بعلمه وفكره ولا مراء في أن للرجل باعا طويلا في العلم والفهم وفي إحياء سنة النظر والتدبر وقراءة النصوص قراءة مجردة عن مكانة الأشخاص .
لكنني تعلمت منه ومن غيره من أهل العلم أن البحث والنقاش مفيد لطلبة العلم مثلي مثير ومثرٍ للبحوث العلمية التي نحتاجها كثيرا في عصرنا الحاضر لنميز بين ما هو من الشرع وما نيط به من مسلمات أصبحت محكمة بمقتضى تقادمها ونفوذ أصحابها لا بمقتضى حكم الشرع
إن هذا المنهج يسعفنا أيضا في تنقية إسلامنا المعاصر من كثير من الشبهات التي تلصق بالإسلام وهو منها براء لكن دون أن نبالغ في إنكار كل ما يلاحظه الآخرون على الإسلام مبادرين لنفي ذلك كله .
إن الشارع لا يخطئ والمنهجية السليمة من وجهة نظري القاصرة هي أن نبحث عن صحة ما نصبه بعض الناس شبهة فإن بدا أنه غير صحيح أنكرنا كونه من الإسلام وإن بدا أنه صحيح كان الشأن حينئذ أن يبحث عن حكمته لا عن تضعيف لا تسعفه الأدلة وقد وجدت أحدهم أجهد نفسه وأتعبها لكي يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة بعد بلوغها وهو يظن أنه يحسن إلى الإسلام بذلك ومثل هؤلاء يضربون في حديد بارد
ومن هنا فإنه بدا لي أن أناقش الملاحظات التي كتبها الشيخ حفظه الله تعلى حول موضوع حد الرجم وسأثبت الملاحظات أولا ثم أعلق عليها
قال الشيخ حفظه الله
( عشرون ملاحظة ) 1. الرجم من المصائب الفقهية الكبرى في تاريخ الإسلام، وهو أبلغ مثال على التخلي عن المحكمات القرآنية واتباع الآثار المضطربة.. وإليكم البيان: 2. تتراوح عقوبة الزنا في القرآن الكريم بين ثلاثة: جلد الزانيين: "فاجلدوا كل واحد منهما"، والإقامة الجبرية للنساء: "فأمسكوهن في البيوت"، وأذية الرجال: "فآذوهما". 3. تخلَّص الفقهاء من عقوبة الإقامة الجبرية للنساء، وعقوبة الأذى للرجال، بحجة أن الآيتين اللتين وردت فيهما العقوبتان منسوختين.. 4. وجاء الفقهاء بعقوبة غريبة عن روح الإسلام، ومناقضة لنص القرآن، وهي الرجم.. ففرضوها عقوبة للزاني المحصن والزانية المحصنة. 5. وهكذا أراد الله عقوبة الزاني عذابا: (ويدرأ عنها العذاب) (ما على المحصنات من العذاب).. وجعلها فقهاءُ الرجم تقتيلا وتمثيلا، فأيهما أحسن قيلا؟ 6. بنى الفقهاء عقوبة الرجم على أحاديث مضطربة المتون، معلولة الأسانيد، مثل حديث الغامدية، وحديث الداجن، وحديث المجنونة!! 7. جل أحاديث الرجم يتضمن طعنا في حفظ القرآن الكريم. فمن قال بالرجم فهو قائل ضمناً بتحريف القرآن -والعياذ بالله- لأن أغلب أحاديث الرجم تفيد ذلك! 8. مثال1: حديث الداجن:"لقد نزلت آية الرجم والرضاعة فكانتا في صحيفة تحت سرير فلما مات رسول الله (ص) تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها" 9. مثال2: "قال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي" [متى كان عمر مجاملا للناس في القرآن؟] 10. مثال3: "كم تقرؤون سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية. قال: قط! لقد رأيتُها وأنّها لتعادل سورة البقرة وفيها آية الرجم" 11. من غرائب أحاديث الرجم الأثر الذي يقول "أتيَ عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناسا، فأمر بها عمر أن ترجم " حتى أقنعه علي بتركها!! – أبو داود وأحمد 12. هنالك خلاف في أسانيد هذه الأحاديث، لكن العلل في متونها أكبر، وأسوأ تلك العلل الطعن الضمني في حفظ القرآن، والمناقضة الصريحة لمضامينه 13. من أمثلة اضطراب أحاديث الرجم: أنها جعلت عقوبة المحصنة الرجم حتى الموت، والقرآن جعل عقوبة المحصنة تُنصَّف. فهل يوجد نصف موت؟! 14. قصة الغامدية محشوة بالتناقض والغموض، وأوله تضارب الروايات هل المرأة المرجومة غامدية أم جهنية، وهي هي قصة واحدة أم قصتان...الخ 15. حديث الداجن المروي عن عائشة رضي الله عنها قال عنه العلامة المحدّث الجوزقاني في كتابه (الأباطيل والمناكير) إنه حديث باطل.. 16. أطبق علماء المعتزلة على إنكار الرجم منذ القديم.. وقد أصابوا في ذلك وأحسنوا إذ تثبثوا بالقرآن واطّرحوا الآثار المناقضة له 17. كل من له ذوق في العربية وقرأ قول تعالى بعد فرض الجلد: (ولا تأخذكم بهما رأفة) عرف أن الجلد قاس بما يكفي ولا عقوبة للزنا أقسى منه 18. يستبشع المقلدون رد أحاديث الرجم الواردة في البخاري ومسلم، ولا يعرفون أن الدارقطني رد 200 من أحاديثهما، ورد ابن تيمية والألباني بعضها 19. أنكر الشيخ محمد أبو زهرة –وهو أعلم الناس بالفقه ومدارسه في القرن العشرين عقوبة الرجم، واعتبرها تشريعا يهوديا لا إسلاميا. 20. الخلاصة: لا رجم في الإسلام، ولا عقوبة للزنا إلا ما نص عليه محكم الكتاب من جلد للزانيين، أو الإقامة الجبرية للمرأة الزانية، والأذى للرجل الزاني.
فأما قوله : تتراوح عقوبة الزنا في القرآن الكريم بين ثلاثة: جلد الزانيين: "فاجلدوا كل واحد منهما"، والإقامة الجبرية للنساء: "فأمسكوهن في البيوت"، وأذية الرجال: "فآذوهما".
فهذا لا يفيد إلا أن الرجم ليس في محكم كتاب الله ولا أحد يخالف في ذلك ولكن أليس للمسلمين مصدر آخر غير الكتاب ألم يقل الله تعلى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن «ألا إني أوتيت الكتاب، ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه،)
ثم إن العلماء اختلفوا في آية الحبس في البيوت هل هي حكم أو موعد بالحكم فمن قال هي موعد لم يدخلها عنده نسخ ومن قال هي حكم فهي حينئذ داخلة تحت مسألة أصولية مختلف فيها وهي هل الحكم الممتد إلى غاية يسمى بعد انتهاء تلك الغاية منسوخا أم لا مع أنهم لا يختلفون في رفعه بعد الغاية
وهذا الحبس سواء قلنا هو حكم أو موعد بالحكم كان ممتدا إلى أجل والأجل هو قوله تعالى ( أو يجعل الله لهن سبيلا ) وقد بين النبي صلى الله عليه هذا الأجل بقوله في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم في صحيحه «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة، والرجم» وأما الأذى فمنهم من فسره بالضرب والتعنيف وعلى ذلك فهو منسوخ ومنهم من قال هو مجمل بينته سورة النور والأحاديث الشريفة الواردة في الباب
وأما قوله (وجاء الفقهاء بعقوبة غريبة عن روح الإسلام، ومناقضة لنص القرآن، وهي الرجم.. ففرضوها عقوبة للزاني المحصن والزانية المحصنة ) فإننا نُذكِّرهنا بخطبة عمر الخطاب التي أخرجها البخاري ومسلم بسندهما عن بن عباس رضي الله عنهما والتي قال فيها عمر رضي الله عنه إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف،
فهذا كلام عمر رضي الله تعلى عنه لا اجتهاد الفقهاء .
ثم إن القول بأن الفقهاء جاؤوا بهذا يوهم أن طوائف أخرى من الأئمة والمحدثين المحققين عارضتهم في ذلك وليس الأمر كذلك
وأما قوله (وهكذا أراد الله عقوبة الزاني عذابا: (ويدرأ عنها العذاب) (ما على المحصنات من العذاب).. وجعلها فقهاءُ الرجم تقتيلا وتمثيلا، فأيهما أحسن قيلا؟ )
فكأن الشيخ يريد أن يقول إن القتل ليس عذابا والواقع أن القتل عذاب بل هو أشد العذاب وقد قال الله تعلى (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) ويتعين تفسير العذاب هنا بالقتل لأن الاستحياء ليس عذابا
وأما قوله ( وجعلها فقهاء الرجم تقتيلا وتمثيلا) فإن الفقهاء حكموا بمقتضى الشرع أنها قتل ولم يجعلوها تقتيلا ولا تمثيلا فلا حاجة لتقوية الحجة هنا بالصيغ التي تفيد التكثير كالتفعيل مثلا لأن الرجم إن تعدد ذووه تعدد بحسبهم كتعدد سائر العذاب بتعدد المعذبين وإن لم يتعدد المرجومون فالموت في حد ذاته لا يتفاوت حتى يوصف رجم الفقهاء بأنه أشد من قتل غيرهم وأما ذكر التمثيل فلا محل له إذ لا يشرع التمثيل في الرجم أصلا
وأما حديث ماعز والغامدية فقد أخرجه مسلم في صحيحه وكفى بذلك
ومن قال إن ذلك كان قبل سورة النور فقد إغرب قال الحافظ بن حجر رحمه الله تعلى في الفتح (وقد قام الدليل على أن الرجم وقع بعد سورة النور ؛ لأن نزولها كان في قصة الإفك ، واختُلف هل كان سنة أربع أو خمس أو ست ، والرجم كان بعد ذلك ، فقد حضره أبو هريرة ، وإنما أسلم سنة سبع ، وابن عباس إنما جاء مع أمه إلى المدينة سنة تسع )
وأما حديث الداجن فليس هو الأصلَ في الباب لأن الفقهاء لم يثبتوا الرجم بالقرآن وإنما أثبتوه بالأحاديث الصحيحة الصريحة الواردة في الصحيحين وغيرهما فحديث الداجن لا محل له هنا أصلا وأضف إلى ذلك ما روي عن عمر في أنه هم بإثبات الآية وكذلك ما روي في عدد سورة الأحزاب فهذا كله ليس له محل في النزاع لأن ما نسخ لفظه إنما يثبت حكمه بالسنة وحينئذ تكون السنة هي الحجةَ لأنه لم يعد قرآنا بإجماع الأمة ولا واسطة بين القرآن والحديث
وأما ذكر حديث المجنونة فهو على تقدير صحته دليل على ثبوت الرجم لأن عليا لم ينكر أصل الرجم وإنما أنكر رجم المجنونة لأنها فاقدة لأهم شروط التكليف وهو العقل
وعده من أدلة الفقهاء لا يخلو من تحامل لأنه يوهم أن أدلتهم منحصرة فيه وفي أمثاله من الأحاديث النازلة عن أحاديث الصحيح مع أن الفقهاء بنوا مذهبهم على أحاديث صحيحة صريحة
وأما القول إن (جل أحاديث الرجم يتضمن طعنا في حفظ القرآن الكريم. فمن قال بالرجم فهو قائل ضمناً بتحريف القرآن -والعياذ بالله- لأن أغلب أحاديث الرجم تفيد ذلك!)
فهو أمر غير مسلم فغاية ما يقصده القائل هنا حديث الداجن وهو حديث ضعيف لا تقوم به حجة على الفقهاء ولا يضر الحكمَ إذا ثبت بأدلة صحيحة أن يرد فيه حديث آخر ضعيف .
وأما قول عمر ( وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها،..) فهو يقتضي أن الرجم كان قرآنا لكنه نسخ فثبوت الحكم بعد النسخ بالسنة لا بالكتاب والحديث صريح في أنها نسخت لقول عمر فيه ( فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله
وأما قول الشيخ ( من أمثلة اضطراب أحاديث الرجم: أنها جعلت عقوبة المحصنة الرجم حتى الموت، والقرآن جعل عقوبة المحصنة تُنصَّف. فهل يوجد نصف موت؟!)
فإننا نقول إن لفظ المحصنة جاء في القرآن تارة مرادا به المتزوجة وهو الوارد في قول الله تعلى ( والمحصنات من النساء ) عطفا على قوله ( حرمت عليكم أمهاتكم ) وجاء تارة أخرى معناه الحرة وهو المقصود بقول الله تعلى (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ) وهذه الآية متصلة بالآية التي ذكر الشيخ فالسياق هنا يقتضي أن المقصود بالمحصنة الحرة وليس المتزوجة
وأما رد أحاديث الصحيحين فلا يكون بمجرد النظر والعقل بل لا بد فيه من أدلة تطعن في الورود أو الدلالة وهذه الأحاديث صحيحة السند محكمة المتن نص في مدلولاتها فلا مجال للطعن فيها
وأما الاحتكام إلى الذوق فهو معيب عند أهل البلاغة لأن الميزان الذي يحتكم إليه الناس لابد أن يكون منضبطا والذوق غير منضبط لأنه يختلف من شخص للآخر وكون آية الجلد تُفهِمنكم أنه قاس لا يقتضي أنه لا توجد عقوبة أقسى منه
وأما قوله (وأوله تضارب الروايات هل المرأة المرجومة غامدية أم جهنية ) فلا تعارض فيه لأن غامدا بطن جهينة
ويكفي أن الشيخ حفظه الله لم يجد من أهل من السنة من يجعله قدوة له في هذا القول غير الشيخ أبي زهرة وهو شيخ نقدره وقد وصفه الشيخ بقوله (وهو أعلم الناس بالفقه ومدارسه في القرن العشرين ) وإن سلمنا جدلا هذا الحكم المرتبط بزمن معين وهو القرن العشرين فهل هو أعلم من أبي بكر وعمر ...... أم هو أفقه من مالك والشافعي وفقهاء الأمصار
وهل خفي هذا الحكم على أهل السنة تسعة عشر قرنا حتى هدا الله إليه رجلا من المتأخرين
وأما الاستئناس بمذهب المعتزلة فلا أدري هل يضر أم ينفع فإذا كان هذا الحكم قد اتفق عليه الناس حاشى المعتزلة فهل يمكن أن يكون المعتزلة على الحق وسائر الناس على باطل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ولا يمكن أن تكون هذه الطائفة هي المعتزلة لأنهم فاسدو العقيدة
وفي الختام فهذه مجرد ملاحظات لا تنقص من تقديري واحترامي للشيخ الدكتور حفظه الله تعلى وبارك فيه وهي مجرد آراء قد لا تخلو من مقال وبالله تعلى الاعتصام وعليه التُّكْلان