إن العلاقة بين البيئة والإنسان والعمران؛ رابطة تجسد ثنائية الوجود والعدم والنسبة والتناسب، وبين مفهوم المشكلة الاقتصادية ونظرية الوفرة النسبية من جهة وتفسير الفكر الإسلامي لنظرية الندرة القائم على وجود الأرزاق الكافية لجميع الخلق بتقدير من الخالق جل شأنه، قال الله تعالى:﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا﴾، يقول ابن جزي في تفسيره للآية: "أي أرزاق أهلها ومعاشهم وقيل: يعني أقوات الأرض من المعادن وغيرها من الأشياء التي بها قوام الأرض"، ويكون استمداد ذلك بالمحافظة على الموارد والعدالة في توزيع الثروة ومنع استنزاف حظوظ الأجيال القادمة والنهي عن الإفساد في الأرض..
ثم إن التناغم مع الوسط المحيط يمثل وسيلة للمحافظة على نعم الله التي امتن بها على خلقه، يقول الله سبحانه وتعالى:﴿خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ﴾: "دليل على إباحة الانتفاع بما في الأرض". تفسير ابن جزي، وهذه الإباحة عامل مشترك بين جميع بني آدم، وعليه ينبغي أن تفعل آليات الاستخدام على سبيل التعمير وليس التدمير أوالاستغلال المفرط؛ فهذه الموارد الطبيعية أودعها الله في كوكب الأرض للانتفاع وحسن التدبير..
وإن كان لا بد من استخراج المعادن وتشييد المصانع وتطوير عناصر الإنتاج، فلا يمكن أن يكون الأمر باعثا على تخريب البيئة وتغيير نسبة التفاعل بين الكائنات الحية والنباتات والبحار والأنهار والتوازن في نسب المياه والبخار الهوائي والغازات ونسبة الأكسجين وثاني أوكسيد الكربون والنتروجين وغيرها..
لأن الخالق جلت قدرته وحكمته عن الإدراك، ما خلق شيئا عبثا بل بقدر، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَیۡءٍ خَلَقۡنَـٰهُ بِقَدَرࣲ﴾. يقول بن جزي في تفسيره:﴿بِقَدَرٍ﴾ "بمقدار في هيئته وصفته وغير ذلك"، ويضاف إلى ذلك الزجر عن العبث بأي طريقة كانت بطبيعة الكائنات بمختلف أنواعها أو تعريضها للانقراض أو التلف الكلي أو الجزئي إلا إن كانت لمصلحة معتبرة ووفق ضوابط محددة..
وإذا علم أن تعمير الأرض أصل والنهي عن الإفساد فيها أصل كذلك، وأن التوصل إلى مقدراتها لا خيار فيه لتحقيق العمران، علم من طريق العقل أيضا أن تحقيق التوازن بين استغلال الموارد وتطوير المنظومة الصناعية المرتبطة دلاليا مع الانبعاثات الغازية في الجو، هو السبيل الوحيد الموصل إلى حماية البيئة من التدمير، ويتم تقدير ذلك بحسب تفاوت المصالح والمفاسد المتوقعة الحصول والآثار الواقعة والمحتملة الوقوع والعوائد المادية والمعنوية الواقعة والمتوقعة، وما تنبئ عنه مقادير أثرها من الإضرار أو الإخلال بالكثرة أو القلة والانتشار والإنزواء وطول المدة وقصرها مع اختلاف العصور والأحوال على رأي العلامة ابن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية" عند حديثه عن بيان المصلحة والمفسدة..
ثم إن تسيير العوائد المادية لاستغلال الموارد الطبيعية يحتاج إلى تدبير رشيد يأخذ في الحسبان المخاطر البيئية، ومخاطر التشغيل غير المحافظ على أصل الإنتاج، إذ لا يوجد استثمار متجدد مع استنزاف أصل العملية الإنتاجية، وقبل ذلك وبعده تجب مراعاة أوامر الخالق في تدبيرها، والمحافظة عليها من الاستغلال المفرط، وعدم تبديد عوائدها المادية في ما يحظر، أو الإضرار بأصل خلقة المخلوقات في الوسط البيئي، أو الإضرار بالإنسان والحيوان والنبات، أو نفث سموم المواد الكيميائية دون استخدام أدوات السلامة والاحتياط، وبنسب مضبوطة ومراقبة ومأمونة العواقب..
إن خالق الكون خلقه وفق سنن إلهية ينتظم فيها نسقه منذ بدإ الخليقة بتتابع بديع وبنواميس تبهر ذوي الألباب، وكلما حاول الإنسان الطغيان على تلك النواميس يحدث اضطراب لطبيعة الأشياء مؤذنا بحدوث تجاوزات ومعطيا إشارات كونية لا يفهمها إلا أصحاب العقول السليمة.. ولذا تجب طاعة الملك الديان في خلقه بما أمر.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم وبارك على الحبيب الشفيع سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين صلاة تامة دائمة إلى يوم الدين.