بما أن الدين الإسلامي جاء للارتقاء بالإنسان إلى قمم الفضائل ، وتطهيره من كل ما ينافيها من الأدران والرذائل ، فقد جعل ثاني أركانه الخمس الصلاة - التي لا سبيل إليها إلا بعد الطهارة من النجاسات الحسية والحكمية- وثالث أركانه الزكاة التي من أجلا حكمها بعد تنمية المال : تطهير المسلم من داءي البخل ، والشح ، وإشاعة ثقافة البذل ، والإنفاق في سبيل الله ، .
فقال تعالى : [خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سمع عليم ) التوبة الآية : (103 )
وقد تضافرت الأحاديث النبوية على تأكيد ركنية الزكاة في الإسلام ، ووجوب أخذها من الأغنياء ومنحها للفقراء باعتبارها حقا لهم لا منة لأحد عليهم فيه ، من تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : .... فأعلمهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم .."
ولم يقبل الخليفة الأول: أبو بكر رضي الله عنه ، التنازل عنها في أحلك الظروف ، وأصعب اللحظات - بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وردة بعض قبائل العرب ، ومنعهم للزكاة بذريعة أنهم كانوا يعطونها للنبي صلى الله عليه وسلم لأن صلاته سكن لهم ، وأنه يطهرهم بها وأنشد شاعرهم:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا فوا عجبا ما بال ملك أبي بكر
أيورثنا بكرا إذا مات بعده وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
رغم أن الصحابة حاوروه في الأمر وحاولوا ثنيه عن قتال مانعي الزكاة ، حتى إن أمير المومنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاجه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى " فلم يفت ذلك في عضده ولم يغير من قناعته، وقال كلمته المشهورة :" والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عله وسلم لقاتلتهم عليه ، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة . قال عمر: "فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق" .
ولعل مستند الخليفة أبي بكر في الإصرار على رأيه في قتال أهل الردة هو قوله تعالى " فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " 0( التوبة الآية : 5)
وقد حصل الإجماع على وجوب إخراج الزكاة ، والحكم بتكفير جاحدها ، وإثم من حمله البخل والشح ، وحب الدنيا على منعها، وقتال ولي الأمر له حتى يأخذها منه قهرا .
ولأهمية الزكاة في الدين الإسلامي فقد فصل القرآن الكريم بنود صرفها التي لو جبيت وصرفت فيها لكانت هي أروع خطة لتنمية البلدان الإسلامية ، وإنعاش اقتصاداتها ، : قال تعالى : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( التوبة الآية :60)
ولا يخفي ما في هذه البنود من مؤازرة جميع الطبقات الهشة " الفقراء ، المساكين ، الأرقاء ، الغارمين " ومحاربة البطالة " العاملين عليها " وخدمة الإسلام بإغراء الناس بدخوله و صيانة أو إنشاء مرافقه " المؤلفة قلوبهم و في سبيل الله " .
وحددت الشريعة الإسلامية الأصناف التي تجب فيها الزكاة : ففي الموطإ أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله في دمشق في الصدقة : إنما الصدقة في الحرث والعين والماشية ، وحدد النبي صلى الله عليه وسلم الأسنان التي تخرج في زكاة الأنعام .
ولم يزل ولاة المسلمين عبر التاريخ يعينون سعاة لأخذ الزكاة من مؤديها وإيصالها لبيت المال لتوزيعها حسب بنودها المقررة ، وكتب الفقه ، والسياسة الشرعية شاهذة بذلك حتى ضعف سلطان الإسلام ، وانهارت دولته ، وانفرط عقد نظام بيت مال المسلمين ، وتخلت كثير من الدول عن واجباتها تجاه الشعائر الدينية ، فترك الأمر للأغنياء.
فأصبح يدفعها منهم من يستشعر مراقبة الملك الديان ، وينزجر بما ورد من وعيد تارك الزكاة في السنة ومحكم القرءان في قوله تعالى :" والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبل الله فبشرهم بعذاب أليم " (التوبة الآية 34) و قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من صاحب ذهب، ولا فضة، لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه، وجبينه، وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار». قيل: يا رسول الله، فالإبل؟ قال: «ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر. أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلا واحدا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها، رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار». قيل: يا رسول الله، فالبقر والغنم؟ قال: «ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئا، ليس فيها عقصاء، ولا جلحاء، ولا عضباء، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها، رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار..... " متفق عليه -
وتهاون بها أو ضيعها من رق إيمانه أو غلبه شيطانه ، فضاعت حقوق الفقراء، ونزل بأغلب البلدان المسلمة وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتا ركى الزكاة من انتشار القحط وكثرة الغلاء ، " .... ولا منعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا" .
وإنه لمما يثلج الصدر ويستحق التنويه: ما أعلن عنه في الأيام الأخيرة من انطلاق "الأيام التحسيسية للهيئة الوطنية للزكاة" بإشراف من وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي ، بقيادة معالي الوزير فضيلة القاضي والدكتور: الداه سيدي أعمر طالب وبتوجيهات من فخامة رئيس الجمهورية السيد : محمد الشخ الغزواني .
وإننا إذ نثمن هذه الخطوة الواقعة في الاتجاه الصحيح ، والتي طال انتظارها ، ونستبشر بها خيرا ، لنأمل أن تكون على مستوى التحدي ، ونرجو أن توفق الجهات الوصية في اختيارمن يصلح للقيام بأعبائها الصعبة ، ومسؤولياتها الجسيمة ، التي تتطلب التحلي بقدر كبير من العفة والنزاهة ، والجدية والصرامة ، يغرس في الأغنياء الثقة حتى يسلموا زكواتهم وهم راضون مطمئنون ، ولا تؤخذ منهم غلبة وهم كارهون.