لي صديق لم يكن مريحا، وما أعلم حاله الآن؛ فقد طال عهدي به، وأرجو أر يكون آخر عمري وإياه خيرا من أولهما. كان يسابقني إن تحدثت فيخطف مني ما يظنه مرادي فلا أدري أأسكت أم أكمل، ولو أنه يسبقني إلى مرادي لأراحني وهان الأمر شيئا ما، لكن ما يسبقني إليه لا يكون مرادي في الغالب.
لا تقف الخصاصة المعرفية حاجزا أمام صاحبي؛ بل لا يشعر بها أصلا، فهو لا يتصور وجود معقول أو منقول خارج علمه. على سبيل المثال هب أن الحديث في قواعد الفقه و"هل العبرة بالنزول أو بالوصول" سيتكرم بالحديث عن المسافرين ونزولهم في المطاعم ونحوها. أو أن الحديث في العروض فذكرت الوتد.. سيهب صاحبي متحدثا عن عثرة له بوتد خيمة في صباه، وما خلفته من ألم وجرح جسديّ وما عولج به.. قبل أن أذكر هل وتدي مجموع أو مفروق.
وبالحماس نفسه و"العلم المركّب" لو كان الحديث في المنطق فذكرت السور لم أستبعد أن يتحدث عن أسوار الكرملين أو ترميم سور إحدى مدننا القديمة في أحسن الأحوال، أو عن سمات الفاعل في النحو لخطف الحديث ووصل بسرعة الضوء إلى سمات "فاعل" سياسي مشاع أو معين، وما بذله في استقبال الرئيس أو تشكيل الوحدات أو استضافة وفد ما أو المباهاة وإظهار مكانته.. أو نحو هذا مما لا شأن لي به على كل حال.
ذكرت مرة تطور دلالة المفردات في العربية ومثلت له بالسيارة، وكنت سأذكر كيف انتقل مدلولها من المسافرين في البر إلى علم الفلك (الكواكب السيارة) ثم الإعلام (الصحف السيارة) والاتصال (الخطوط السيارة) ثم البنى التحتية (الطرق السيارة)..
كنت سأذكر هذا أو أضرب مثلا أو أكثر لمقصدي، لكن صديقي بادر بمجرد ذكر السيارة إلى مفاضلة بين سيارتين قادته إلى تحويل معارض السيارات المسماة "بُرَصًا" من جنوب ملتقى طرق مدريد، واستمر حديثه في هذا المجال حتى أحسست بالربو جراء تخيل دخان العوادم وغبار الطرق.
غاب هذا الصديق عني فلم أعد ألقاه إلا لماما.. لكن الهاتف سد مسده جزئيا؛ فإذا أردت الكتابة بادرني بكلمة من عنده ولم يسمح لي بما أردته، فلا ينفك يراغمني ويغافلني ويشاكسني كلما أردت الكتابة، كأنما يُعينُني وهو في الحقيقة يُعَنِّيني!
الفرق بين الهاتفين أن الأول (البشري) نلته مجانا - أو فرض نفسه علي- فلما غاب عني استرحت منه، أما الثاني فسعيت إليه وتخيرته ودفعت ثمنه، وحرصت على تقريبه والاعتماد عليه في خصوصيات شأني، ولا أنوي التخلي عنه على عجره وبجره؛ بل أستجده كلما أخلقته.. فقد أكون الملوم في أمره!