ها هي فاجعة أخرى تنزل بنا جراء شؤم الظلم الأسدي برحيل الشيخ البوطي مقتولا في محرابه وهو العالم الذي طارت شهرته في الآفاق وما ظن أحد يوما أن ستكون نهايته على هذا النحو البشع الذي تنتهك فيه المقدسات وتستهان فيه أرواح العلماء.
ولئن كان فقد البوطي واستهدافه على هذا النحو فاجعة لا نظير لها فإن ما بعدها كان أفجع منها، ألا وهو نوع التعاطي الذي سلكه جزء كبير من داعمي الثورة مع هذا الفاجع الأليم والذي ظهر فيه من الحزبية والنظرة الضيقة والسلوك السياسوي مايحز في القلوب التي تأمل أن تكون الثورات -لا ثورات سياسية على أنظمة الجور فقط- وإنما ثورات على كل الثقافات الهالكة وعلى رأسها التعصب الأعمى والحيف في الأحكام والتقويمات.
ثورة تنطلق من قوله تعالى "ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا" ومن قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولو على أنفسكم" كما تنطلق من قول الله "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين" ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم "لتأخذن على يد الظالم..."
ذلك أنه في ميزان الشرع تستوي كل أنواع الظلم سواء كان ظلم حكام أو ظلم خصماء، والعدل واجب في جميع الأحوال من كطل الأشخاص تجاه كل الأشخاص.
إن علينا أن نعرف بوضوح أن الثورة هي أيضا ثورة على المفاهيم والسلوك الخاطئ ومن ضمن ذلك التعاطي السياسوي الذي يجعل من كل معارض للأنظمة قديسا حتى لو كان شيطانا خدم النظام حتى "أدركه الغرق" ومن يدعم الأنظمة فهو إبليس لا يستحق أي تعاطف بغض النظر عن بقية حسناته وبغض النظر عن الظروف التي أدت به لذلك "مثلا شيخ في التسعين قد يعذر إن لم يدرك متغيرات الواقع حتى من ناحية القدرات الذهنية"
من يصدق أن المنشقين عن النظام مثل رئيس وزرائه الذي خدم طيلة حياته أفضل من الشيخ البوطي؟
ألا نرى حاليا أن أركان نظام القذافي الذين انشقوا عنه هم سبب البلايا؟ أم أن قصر النظر والحاجة الآنية إلى انشقاق أشخاص عن الأسد تجعلنا نصدر لهم صكوك غفران سنندم يوما ما عليها.
أما الشيخ البوطي فنهدر كل تاريخه المشرف ولا نهتم بالبحث له عن الأعذار ونحن الذين نعذر كل من له علاقة بالثورة من قريب أو بعيد في ارتكاب إحدى الموبقات (قتل النفس)وكأننا نحول الثورة من جديد إلى نصب تهدر دماء كل الحقائق تقربا إليه.
تاريخ البوطي الذي خدم العلم عقود مديدة يشهد عليه كل احد والتذكير به يحتاج أسفارا ضخمة ولكنني سأتوقف مع تجربتي الشخصية معه والتي أعتبرها مجرد مثال على دور هذه القامة العلمية في ميدان واحد من ميادين إنجازاته وهو ترسيخ الفكر الوسطي:
فأنا أدين للمرحوم البوطي بكتابين من كتبه حمياني بفضل الله من اتجاهات فكرية أرى أنها ليست سليمة وهما كتابه "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي" الذي قرأته في فترة كنت أعيش فيها في بيئة يسودها مد سلفي مداخلي لا هم له إلا نقاشات عقدية عفا عليه الزمن ومعارك وهمية مع كل الاتجاهات الإسلامية قديمها وحديثها بما فيه بعض الآراء داخل نفس الاتجاه من باب "وأحيانا على بكر أخينا"
أما الكتاب الثاني فهو كتابه "ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" وقد قرأته في مرحلة أخرى كنت فيها أكثر تأثرا بمدرسة الرأي وغير بعيد من التأثر بالعقلانية الإسلامية المعاصرة بما لها من تقليل من شأن النص وفتح لأبواب التفكير المصلحي بقليل من الضوابط وكثير من الهلهلة المنهجية والصياغات الإعلامية والتأثر بالتفسير الغربي للمصلحة المعلي لمصالح الدنيا المهمل لمصالح الآخرة.
لن أنسى ذلك الفضل للشيخ البوطي ولن أعق علمه فلا أرحم عليه بعد وفاته كما قال أحد السلف إن من العقوق أن تستفيدوا من علمنا ولا ترحموا علينا.
رحمك الله يا علامة الشام وسحقا لبشار الذي فتح أبواب جهنم على أهل الأرض المباركة حتى وصلك شررها وعفا الله عن كل عين لم يفض ماؤها حزنا على ابن طريف.