يؤسفني أنني لست من "ضحايا" قنوات "الجزيرة" القطرية و"العربية" السعودية وأخواتهما من القنوات الفضائية التي رأيت فيها تحريضا جليا على الفوضى العارمة التي دمرت بلدانا عربية بكاملها، وتسببت في خلق هوة واسعة بين النخب والمثقفين العرب والمسلمين في منطقتنا،
بل وجسدت ذلك التصنيف الذي عرفناه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أيام رواج مصطلحات من قبيل "الأنظمة الرجعية" و"الأنظمة التقدمية"، فجاءت هذه القنوات لتحيي تلك المصطلحات وتجسدها عبر خدمة تلك الأنظمة الموصومة منذ ذلك التاريخ بالتخلف والعفن، والرجعية والعمالة بالفطرة، رهينة الغرب الاستعماري الصليبي والصهيونية بامتياز، وعملت تلك القنوات التحريضية على تقويض أنظمة عربية أخرى، لها وعليها، لكنها ظلت عصية على الاختراق الغربي الصهيوني وعلى بيع الأرض والعرض، فكان لا بد من تقويضها من أجل أن يسود العملاء ويتحكمون في الأمة وفي مصائر (الشعوب) العربية.
كان لا بد للفوضى الخلاقة، التي خططت لها الدوائر الصهيونية بوضوح وشرعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون والعرب في تنفيذها، أن تجد طريقها للنجاح لأن أمريكا مصممة على الهيمنة على موارد المنطقة ومصرة أكثر على تفوق الكيان الصهيوني و"حماية أمنه" تماما كحرص عملاء البيت الأبيض من الحكام الخليجيين والعرب، الذين لم يترددوا يوما في تلبية مطالب واشنطن بغية إنجاح مشاريعها في المنطقة، مقابل حماية مشيخاتهم وأحكامهم المهترئة.
كان على الرئيس الشهيد صدام حسين أن يستقيل ويغادر العراق بعد أن اشترطت عليه أمريكا "شرط الرحيل" حتى لا تدمر بلاده وتحتل منابع النفط فيها وتنهي قوة العراق الإقليمية ووزنه المعتبر، ولأنه لم يفعل فإنه (لم يكن حكيما)، فلقي مصيرا أراده له الأمريكيون وحلفاؤهم في المنطقة، وكان مصيرا وموقفا يترجمان واقع وحقيقة تلك الأنظمة حيث لم تندد أنظمة الخليج التي تمول وتقود (ثورات الربيع العربي) اليوم، باحتلال العراق ولا باغتيال زعيم عربي شنقا يوم عيد الأضحى المبارك، وهي رسالة إذلال كان لا بد للأمريكيين والصهاينة من إيصالها إلى جميع القادة العرب "المارقين" وحتى للشعب العربي كله، وقد وصلت بالفعل لكن الكثير من نخبنا (المثقفة) لم يستوعب مضمون تلك الرسالة على الإطلاق وربما لن يستوعبها قريبا، وذلك باستثناء قيادات جماعات الإسلام السياسي التي تراقصت فرحا بإعدام الشهيد صدام حسين يوم عيد الأضحى الميارك، تماما كما صلت تلك القيادات وسجدت ( شكرا لله) يوم هزيمة مصر في حرب يونيو 1967 وكذلك يوم وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ولاحقا يوم اغتال الناتو وحلفاؤه الزعيم الشهيد معمر القذافي طيب الله ثراه، ذلك أنها لم تنقض تحالفها القديم المتجدد مع أمريكا بغية الوصول إلى الحكم وبأي ثمن.
ومثلما كان على الرئيس الراحل صدام حسين أن يتحلى بالحكمة ويستقيل ليملي الأمريكيون على من يخلفه شروطهم في طريقة احتلالهم للعراق واستحواذهم على ثروته النفطية، كان على الزعيم الليبي الراحل أن يستقيل ويغادر بلاده ويترك السلطة لمن جاء بهم الصهيوني الفرنسي برنارد هنري ليفي واليهودي الفرنسي ساركوزي وبقية خدام المشروع الصهيو - أمريكي من غربيين وخليجيين ممن تكالبوا على ليبيا لتنفيذ ذات المخطط الذي جرى تنفيذه من قبل في بلاد الرافدين،
لذلك كان على القذافي، حين بدأ الغرب يحرك "الإخوان" والقاعدة ومعارضة الخارج من داخل ليبيا، أن يترك بلاده ويغادر السلطة ليسهل احتلال ليبيا ومنابعها النفطية ومن دون تكاليف.
ولأن أمريكا والغرب استفادوا من تجربتهم في العراق فقد جاءوا هذه المرة بـ (الجامعة العربية) وبدول الخليج لتنفيذ أهم محاور العملية حتى يسهل على الناتو طي صفحة لاءات ليبيا القذافي في أسابيع أو أشهر قليلة، ويتخلص مشايخ النفط الخليجيين من زعيم عربي "مزعج".
ومثلما كان على الزعيمين القوميين أن ينفذا أوامر الغرب الصليبي ومشايخ قطر والخليج، كان على الرئيس السوري أن لا يواجه "جبهة النصرة" ولا مندسي الغرب وعملاء الاستعمار الذين حملوا السلاح لتنفيذ ذات المخطط في سوريا المحاذية للكيان الصهيوني، بل كان على الرئيس الأسد أن يغادر السلطة ويتركها لمن رباهم الغرب في فنادقه وحاناته، ولعناصر القاعدة و(الجهاديين) ممن دربتهم الدوحة والرياض على السلاح من أجل هذه اللحظة، فلو كان حكيما لاعتبر من مصير صدام حسين ومعمر القذافي ولانصاع لأوامر ورغبات قادة أمريكا وفرنسا وبريطانيا وقطر والسعودية ومن والاهم.
لن أسأل من يتحدثون عن (ربيع عربي) في بلادنا عن أسماء قادة (ثورة الربيع) ولا عن نتائجها، لسبب بسيط وهو أنها (ثورة) بلا قادة ونتائجها مأساوية، حتى لا أقول إن قادة تلك (الثورات) هم قادة العواصم الصليبية ومنظرو الصهيونية العالمية، أو لنقل إنها (ثورة عفوية) انتصرت فيها المعارضات المدعومة من قطر وأمريكا وفرنسا وحلف الناتو على الأنظمة "المارقة" و"الديكتاتورية" التي كان عليها أن تختصر الجهد والوسائل وتعلن نهايتها بنفسها لأن الزمن هو زمن آخر يقود فيه حاكم قطر وجوقته أمة العرب وتتحكم فيه عواصم الغرب بمصير العالم وتسود فيه تل أبيب منطقتنا أمنيا وعسكريا وحتى اقتصاديا، ولم يعد ثمة مكان لمن يقولون "لا" لأمريكا أو من يرفضون (إسرائيل) أحرى إن كانوا يعملون على تفكيكها أو يهددون بالقضاء عليها ولو لفظيا.
لقد جند صناع الفوضى الخلاقة أو (الربيع العربي)، كل طاقاتهم ووسائلهم المادية والبشرية والمعنوية للوصول إلى هذا الهدف الذي مكنهم من تفكيك مصر وإضعاف قدرتها على الريادة والقيادة، وتفكيك "الدول المارقة" بالمفهوم الأمريكي الغربي وهي العراق وسوريا وليبيا وإيران، فجاء الدور تباعا على العراق ثم ليبيا ثم اليمن فسورية الأسد والحبل على الجرار، إذ لن تسلم الجزائر ولا موريتانيا ولا دول أخرى مثل إيران تعتقد أنها بالمداهنة ستسلم من المصير نفسه الذي مر بالبلدان العربية آنفة الذكر.
لقد وظفت أمريكا وفرنسا عملاءهما في قطر والسعودية والإمارات وحركوا بيادقهم من "التكفيريين" و"الجهاديين" الذين يديرون ظهورهم للقدس المحتلة ويحاربون الجيش العربي السوري الذي يدافع عن استقرار وأمن شعبه وبلده؟!، ذلك أن علماء وفقهاء الفوضى الخلاقة تمت تعبئتهم تماما كما تمت تعبئة الفضائيات التي تأسست في الأصل لهذه اللحظات الفارقة في تاريخ ومصير أمتنا، ولم يكن المال الخليجي سوى أداة طيعة بيد عملاء الغرب من مشايخ وأمراء بغية تنفيذ مراحل مخطط تدمير بلدان الأمة، فاشترت قطر والإمارات آلاف الصواريخ والقنابل التي أطلقها الناتو على ليبيا وسددت ثمنها بالكامل في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الأمة، وشحنت تلك المشيخات النفطية الأسلحة والمال والرجال (للجهاد) في الشام ضد نظام بشار (النصيري)، وهي صفة جديدة تم تداولها ضمن جملة من المصطلحات الطارئة التي اتسم بها عهد الفوضى الخلاقة أو ما يسمى خليجيا وإخوانيا بـ "الربيع العربي". وهي مصطلحات أريد للرأي العام العربي وللمواطن البسيط أن يتلقفها بسهولة كي تترسخ في ذهنه بوصفها صفة وواقعا وحقيقة، مثل مصطلح (الربيع العربي) الذي يعني الفوضى الخلاقة ومصطلح (الثورة) الذي يعني التمرد والخروج على الحاكم، تماما كما خرجت (الجامعة العربية) على الأعراف والتقاليد فشرعت في استدعاء مجلس الأمن الدولي لتدمير بلدان أعضاء في الجامعة ثم أخذت في تشريع تسليح المتمردين وتعزيز إمكاناتهم لإسقاط أنظمة قائمة. فقط لأنها هدف من أهداف الفوضى الخلاقة!!.
تريد إمارة قطر الصغيرة قيادة العرب فأقصت مصر وليبيا وتونس وستقصي السعودية والجزائر، وتريد السعودية مزيدا من رضا الغرب وحمايته لسلطة آل سعود في نجد والحجاز، ويريد الغربيون الاستيلاء على منابع النفط والثروات وتدمير القلاع العربية التي تشكل خطرا ولو بعد عقود على أمن وسلامة الكيان الصهيوني، إذ لا مجال للحديث عن الدفاع عن الديمقراطية وحرية الشعوب والغرب ذاته هو من رفض حكم حركة حماس وصنفها منظمة إرهابية وترك الشعب الفلسطيني واللبناني يواجهان الموت بالمئات يوميا بآلة الحرب الإسرائيلية المدعومة بقرارات أمريكا وبريطانيا وفرنسا في المحافل الدولية.
ولا مجال للحديث عن دفاع قطري سعودي إماراتي عن الديمقراطية وهي (الدول) التي لم تشهد طيلة تاريخها انتخاب عمدة ولا نائب، أحرى سلطة تنفيذية او تشريعية أو حاكم؟!
وإذا كان الهدف هو حماية الشعوب من الإبادة فأين موقف الأعراب الخليجيين والغرب من إبادة الفلسطينيين واللبنانيين على أيدي الصهاينة وعلى مرأى ومسمع من كل شعوب الأرض ومن دون صور مفبركة ولا شهود عيان يتحدثون بأسماء مستعارة بل بكاميرات الصحفيين الاسرائيليين والغربيين والعرب وبشهاداتهم الحية؟ فأين الزعيم المحرر والقائد الفذ حمد الذي فرض الإقامة الجبرية على أبيه حتى يتمكن الأمريكيون من بناء قواعدهم في قطر؟ أين غيرته ونخوته وانتصاره للشعوب؟! وأين حكام آل سعود وفتاوى علمائهم الجاهزة؟
صحيح، نحن أمة مغفلة، واستثني الإخوان والتكفيريين الوهابيين الذين يدركون تماما ما يفعلون، فهم في النهاية يعتبرون الأنظمة القومية عدوا تاريخيا لهم ويجب القضاء عليهم واحدا تلو الآخر، سواء بيد أمريكا والناتو أو بيد القاعدة ومتطوعي الإخوان أنفسهم، أما نحن العامة فقد سقطنا ضحية الإعلام المضلل الذي خطط لهذه الحقبة البائسة منذ سنوات طويلة فاصبحنا نجتر ما يردده من عبارات وتحريض وفتاوى جاهزة على مزاج مشايخ الخليج وحكام العثمانيين الجدد الذين لهم اطماعهم في المنطقة منذ مئات السنين.
فما الذي يجعلنا ضحية؟ أهو الجهل والأمية، أم الفقر والحاجة لأموال الخليج، أم الخوف من أمريكا والغرب، أم تضليل علماء الفوضى الخلاقة وفتاوى القتل على الهوية وتكفير من يرفضون هذه الفوضى المسماة ربيعا وثورة....وما الذي جناه التونسيون والمصريون واليمينيون والليبيون والسوريون من ثورات أمير قطر وحكام الخليج وقادة الغرب الصليبي؟!.... يتواصل
أحمد ولد مولاي محمد
صحفي موريتاني