لا يمكن بحال من الأحوال الجزم بأن إنشاء وكالة لـ"محاربة مخلفات الرق" قد تكون بمثابة العصا السحرية لحل قضية الرق المزمنة و مخلفاته المعيقة لعملية التنمية و بناء دولة القانون، و إن الذين يدافعون عنه بهذا المنطق واهمون بما هم واقعون فيه بإفراط من استسهال الأمر و من ضعف بناء قواعد الاستنتاج و سرعة و سذاجة الاستخلاص...
وأما الذين ذهبوا إلى أن استحداث هذه الوكالة لا يعدو كزنه ذر للرماد في العيون بعيدون، هم أيضا، كل البعد عن لسان المنطق و مجافون للحياد المبدئي الذي يريد أن يعطى كل أمر، يحمل في شكله أو أبعاده مضمونا إيجابيا، حقه من التحليل الموضوعي و القراءة المتأنية المتبصرة و الاعتبار المستحق حتى تكون الأحكام الصادرة في حقه نابعة بكل منطقية و تجرد عن بينة لا تخالطها الأهواء و لا يعتريها التضليل.
و ليس خافيا من هنا أن الشطط في معادلة إنشاء هذه الوكالة الجديدة - التي تطغى عليها و في شأنها من دون أي ستار إرادة إقصاء الآخر على خلفية الصراعات السياسية القائمة - طال منطق طرفيها في استجلاء ما قد يفضي له بالنسبة إلى كليهما من مكاسب سياسية هذا الفضاء الجديد لقضية محورية تندرج ضمن مسار البلد الشامل سعيا إلى الالتحام بمحطة العالم الجديد و الاعتكاف في محراب البناء الجاد و إقامة صروح دولة القانون للجميع.
صحيح أن فهم هذا المعطى ما زال بعيدا و عصيا على الذهنية المشتركة لكل المواطنين بالرغم من وجود نخبة ليست بالقليلة مطلقا تضم أجيالا ثلاثة لم يفتها إلا تكييف ما تحصلت عليه من المعارف و فرص الانفتاح، التي أتاحتها لها ظروف التحول من حولها و الدراسة و السفر و الاحتكاك بالآخرين، مع موروثها الثقافي المتنوع و التاريخي الموغل في القدم. و قد تسبب عجزها أو على الأرجح تقاعسها عن ذلك في التأخر الهائل المسجل على صعيد مسار النهضة العالمية من حولها، نهضة استطاعت جل أممها التجاوز بجدارة قضايا الرق و فئوية المجتمع و العنصرية على وقع وعي لم يعرف التراجع و لم يعاني الجمود و التقوقع في اعتبارات الماضي.
إن الرق و إن تمت محاصرته بالقرارات و القوانين، و إن لم يكن قائما ماديا في "الاستغلال الإجباري" فإنه ما زال قائما كما لم يحارب بـ"الإملاء النفسي" في الذهنية العامة بشقيها "المسترقة" و "المسترقة"، الأمر الذي لا يمكن التمادي في التغاضي عنه بمجرد سن القوانين و إنشاء أطر منطقها الأعم المال و الخطط لمشاريع لا ترد الاعتبار من هذه الناحية البالغة الأهمية في الاتزان النفسي. لا بد أن تصحب الخطوات بهذا المنطق خطوات أخرى تحمل هم هذه المعالجة النفسية الجادة التي تهدف إلى دمج هذه الشريحة في "الإطار الذهني العام" و الخلق لها فرص التوازن النفسي و الإبداعي كما حصل في الهند مع طبقة المنبوذين التي يشارك بقوة و عن جدارة أفرادها اليوم في نهضة الهند "الغير مسبوقة" في كل المجالات، و قد كان المهاتما غاندي سباقا إلى فهم ذلك و ملهما في السعي إلى تحقيقه.
و إذ الأمر بهذه الأهمية فإنه لا بد من الالتفات إلى هذا الجانب المنسي من مكافحة مخلفات الرق و مواجهة أمرها كضرورة قصوى. و إنه من هذا المنطق الذي لا يمكن التمادي في إغفاله تجد "وكالة محاربة مخلفات الرق" نفسها مطالبة بأن تفكر بعمق و علمية ضمن خططها المستقبلية في تخصيص حيز لهذه الخلفية التي بدونها لن يكون فيما ستذهب إليه إلا تبديدا معهودا للأموال العمومية على غير هدى و في ظل عقلية سائدة ما زال يطغى عليها منطق الفساد و الرشوة و المحسوبية و الانتقائية و الزبونية و الإقصاء.
لا شك أن فكرة إنشاء هذه الوكالة كانت مطلبا عبرت عنه جهات متعددة سياسية و حقوقية بأشكال متعددة و تحت مسميات متنوعة و بفلسفات و جهتها انتماءات أيديولوجية متباينة في طرحها و مساعيها. و من هنا فإن تحقيقه، بعدما لم يكن سوى مجرد مسعى، يفتح الباب أمام الأطروحات و النظريات المتعلقة بمهامها و سبل تطبيقها و طرق تنفيذها لفائدة المستفيدين منها حتى يستردوا بعضا من حقوقهم التي كانت مهدورة و في ذلك قيام بالعدل الذي أمر الله أن يكون منتشرا بين عباده دون تمييز.
و لن تؤتي هذه الوكالة أكلها و تسهم بإرادة قوية و نفس طويل و روح متفتحة - في إطار يجب أن يكون أشمل حيث يأخذ بالاعتبار و الاستنتاج الرصين جل جوانب القضية - إلا بالاستقلالية المطلقة عن المنطق السياسي السائد المحمول في كل الاتجاهات وبكل تجلياته على السلطة لا غير... و إن حدث و امتازت الوكالة بهذه الوضعية المريحة بهذا المنطق ثم نالت، لأجل العمل الجاد بيدين مطلقتين ضمن حيزها، قبول كل أطراف الطيف السياسي و الحقوقي و غيرهما في مشهد مضطرب و بعيد عن العقلانية، تركها لمباشرة مهامها، فإنها حتما ستؤتي أكلا من شأنه الإسهام الإيجابي و الاقتراب حثيثا من هدف القضاء على ظاهرة لن تندمل جراحها قريبا و إن من المؤكد أنه سيقضى عليها إن لم يكن عاجلا فبكل تأكيد آجلا.