قبل أيام فقط من الاجتماع السنوي للمجلس الأعلى للقضاء، ثارت قضية من أبرز القضايا وأكثرها إشكالا وتعقيدا، ألا وهي حساسية بعض القضاة تجاه النقد، وهي حساسية مبررة جدا، بسبب الموقع وخطورة المهمة وتشعبها، وبسبب أيضا أن القضاء ضامن للسلم والأمن والحقوق كلها.
ولا يعقل مطلقا أن يظن ظان بأن القضاء ليس محترما، ولا أن تسول نفس لصاحبها أن ينال من القضاء، أو من أعوانه، فتلك لعمري سقطة كبرى، لو حدثت لأردت صاحبها قبل أن تطاله العقوبة المنصوص عليها.
ومن هذا المنطلق، يعتبر كل متقول على القضاء أو ماس منه مجرما حتى تثبت براءته، عكس ما هو مألوف من تقديم البراءة على الإدانة، فالقضاء محصَنٌ والقضاء محصِنٌ، والقضاء محمي والقضاء حامي، والقضاء حرمه مصون وهو ضامن ومضمون.
وليس لرئيس الجمهورية بعد حماية الحوزة الترابية وحماية أمن المواطن إلا ضمان حماية القضاء واستقلاليته.
لقد تابعت حلقة نقاشية على صحفة على الفيسبوك تابعة لمؤسسة إعلامية كندية تسمى "إفريقيا ميديا كندا"، كان من ضمن ضيوفها معالي الوزير سيدي أحمد ولد محمد وزير الإسكان والعمران والاستصلاح الترابي، وتابعت بعدها بيانا عاصفا من نادي القضاة الموريتانيين، يتهم فيه الوزير بالمساس من القضاء، ويطالب رئيس الجمهورية بإقالة الوزير فورا، بعد تصريح له في هذه المقابلة.
مما جعلني لا أستطيع البقاء مكتوف الأيدي أمام هاذين الحدثين البارزين، فلا المقابلة دون المستوى لكي لا أتشجع على متابعتها، ولا البيان الذي تلاها جاء من غير المؤتمن على الصدق والروية والموضوعية والوقوف على الحدود لكي لا أعيره اهتماما.
بل على العكس من ذلك تماما، المقابلة هامة جدا، والبيان أيضا ذو قيمة كبيرة ويأتي من جهة تمثل حماة القانون وحماة الحق والعدل، أصحاب الجناب الموقر قضاة الجمهورية.
وقفت على كل تفاصيل المقابلة، الفنية والمواضيع التي تمت إثارتها بشكل مباشر من طرف الضيوف، سواء تعلق الأمر بالمناوئين للنظام من مدونين والصحفيين المتميزين المقدمين للبرنامج، وكذلك ردود وزير الإسكان والعمران والاستصلاح الترابي.
ولأن سبب هذا المقال هو القضاء وما تحدث به الوزير حوله، سأجعل هذه النقطة في خاتمته حتى يكون ختامه مسك، فكل ما يخص القضاء ـ بالنسبة لي ولمن يحب هذا الوطن ـ يعتبر مسكا وعطرا زهريا جميلا.
سأسرد فقط بعض الملاحظات الفنية على النحو التالي:
من الناحية الشكلية، لم يعجبني في شكل الاستديو مطلقا أن يكون المقدم قريبا من الشاشة بدرجة كبيرة جدا.
أيضا لاحظت أن اللغة العربية مكتوبة من اليسار إلى اليمين، ولم يعجبني كذلك أن يكون الشريط ينطلق من اليسار إلى اليمين أيضا.
من الناحية الفنية حول التقديم وإدارة الحوار لا يمكنني لم ألاحظ أخطاء جسيمة، فالتقديم جيد جدا، إلا أن مساعد الصحفي كما عرفه، لم يكن يلعب دور صحفي، بل كان صاحب موقف من النظام، وهذا خلل يجب تصحيحه مستقبلا.
اشتكى أحد الضيوف من عدم اتاحة له الفرصة بشكل عادل، وهذا أيضا يمكن التغلب عليه مستقبلا.
الوزير تمت مقاطعته عدة مرات، وكان صبورا، وربما كانت تلك المقاطعة من أسباب طول الحلقة كحد اقصى معتاد ساعة زمانية.
من حيث الأسئلة، كانت بعض الأسئلة جزئية جدا، وبعضها الآخر يخص أشخاص بعينهم، وتم ذكر شخصين في المقابلة التي يفترض أنها مقابلة مع وزير يسوس الشأن العام ولا علاقة له بالقضايا الفردية.
بعد هذه الملاحظات السريعة على المقابلة من جانبها الشكلي والفني، تعال معي أيها القارئ الكريم، من بعد إذنك إلى ردود الوزير:
- رفض الوزير بشكل قطعي ومنذ بداية الحلقة أن يلعب دور الملمع للنظام دون دليل، ووعد بالصدق وعدم المغالطة، وقد نجح بشكل كبير في هذا الجانب؛
- قدم الوزير مجموعة من الوعود المفرحة، كبناء مركب جامعي هو الأضخم، ترميم الطرق وإنشاء طرق جديدة؛
- دافع الوزير بقوة عن قراراته المتعلقة بترحيل المواطنين عن الساحات العمومية وإخلاء الفضاء العمومي؛
- أكد الوزير عدم وجود أي مسؤول مختلس للمال العام في منصبه، كما أكد على إقالة مسؤولين من ضمنهم أعضاء في الحكومة ومدراء عامون لمؤسسات عمومية بسبب الاختلاس، مع إلزامهم بالسداد وفق القانون؛
- كما أكد أيضا على أن الرئيس لا صاحب له سوى من يبتعد عن الفساد، وهو يقول ذلك مرارا وتكرارا في مجلس الوزراء؛
- أكد الوزير على ودود إنجازات كبيرة ومهمة في ظل النظام الحالي، وذكر منها مستشفى سيليبابي الذي يعتبر من بين المستشفيات المهمة، مؤكدا على أنه مشروع من مشاريع نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني؛
- وعد الوزير بمحادثة وزير النقل حول شكل ومضمون رخصة السياقة؛
- دافع الوزير عن قانون الرموز وطالب أصحاب الرأي بتوجيه نقدهم للأداء بدل الحياة الخاصة للموظف العمومي؛
- نفى الوزير وجود أي سجين رأي في الوطن، وطالب بالتفريق بين مسطرة الاستجواب وبين الاعتقال؛
- طالب الوزير بالتفريق بين التظاهر والتخريب، واعتبر بعض المسجونين والمدانين مخربين المال العام، وقال إن بعض عمليات التخريب كلفت الدولة أموالا مما يعني أن المحاسبة مطلوبة؛
- قدم الوزير هذه المقابلة على أنها دليل على الديمقراطية وأعتبر أن وجوده في حلقة نقاش مباشر مع مهندسي المظاهرات أمام الرئيس في الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر دليلا قاطعا على عدم خوف النظام من أصحاب الرأي المعارض؛
- أكد الوزير على استحالة تغييب الرئيس، مؤكدا على أن الرئيس بحسب تجربته وصعوده في الرتب العسكرية هو من يقدم المعلومات والتقارير كمثال على حضوره، وأكد على أن الرئيس حاضر بشكل قوي ويتابع كل الأمور، وأكثر اطلاعا من الجميع؛
- أكد الوزير على أن ترخيص الأحزاب السياسية ينص عليه قانون الأحزاب، وأن الجهة المخولة بالقبول أو الرفض هي وزارة الداخلية، وأكيد ـ حسب الوزير ـ لديها أسباب قانونية وجيهة تمنعها من ترخيص بعض الأحزاب.
في مجمل هذه الردود كانت العفوية، ولم يكن هناك مطلقا تشنج ولا تعتعة ولا صمت، بل كان الحضور الذهني والأجوبة المباشرة هي طابع الوزير، هذا ما لاحظته وأشهد به له.
أكثر رد مثيل للانتباه أردت أن أفرده هو قول الوزير بأنه إبن منمي، فهذا الرد يعني القرب من واقع المواطن البسيط وهو رد أيضا يحمل في طياته عدم اتخاذ مواقف تخدم طبقة اجتماعية معينة بسبب سطوتها أو نفوذها، رد جميل ومقنع.
طيب أنهينا الردود كلها وبقي لنا فقط الردود المتعلقة بالقضاء:
في حديث الوزير ثلاث جمل مهمة جدا لا بد من ذكرها:
الجملة الأولى: "أنا لست المفتشية العامة للدولة"
هذا الرد يعني الكثير وهو احترام الدور الرقابي لهذه المؤسسة، ويعني أيضا أن الوزير يعرف جيدا أن هذه المؤسسة من اختصاص رئيس الجمهورية والمفتش العام للدولة فقط. (لا سلطة للحكومة عليها)، ولم يذكر الوزير في هذا السياق سوى أمثلة تتعلق بأشخاص يعرفهم ويعرف أسماءهم "وحدها المفتشية العامة للدولة هي من يعرف طبيعة وتفاصيل المبرارت التي أدت إلى إقالتهم أو تنحيتهم من مناصبهم بسبب الفساد".
الجملة الثانية: "لست مختصا في القانون"
هذه العبارة تبرأة للذمة من كل ما قد يؤول من طرف المختصين في القانون على أنه تحريف، أو مساس، أو إساءة لأي جهة "قانونية" مهما كانت بما في ذلك القضاء، لكي يظل الكلام كلام غير مختص في القانون، يؤخذ بظاهره وبالمقصد الأقرب إيجابيا لا المقصد الأعمق والأكثر تخصصا.
الجملة الثالثة: "القضاء محترم":
هذه العبارة مهمة جدا، وجاءت متقدمة على المداخلات التي قدمها الوزير فيما يتعلق بالقضايا ذات الطابع القضائي. وهي مبدئية ومفصلية يجب ألا تتجاوز لكي لا يؤخذ الكلام بعيدا عن سياقه.
أما العبارة التي أثارت حفيظة نادي القضاة، فلا بد لها من تفصيل، ما هو السياق الذي جاءت فيه؟
كان السؤال كيف "بالدولة"، لا تنفذ أحكام القضاء؟
فأجاب الوزير أن الدولة تنفذ أحكام القضاء، ولكنها أيضا قد ترى في بعض الحالات أن الحكم جائر في حقها، فتلجأ لدرجات التقاضي لتضمن حقها. وهذا احترام للقضاء، واحترام للدولة التي يمثلها الوزير.
أما بخصوص القول عن القضاء أنه ليس هو الدولة، فتعالوا لنفصل في الموضوع.
من حيث المبدأ هذا القول غير دقيق، فالقضاء جزء من الدولة ككيان.
إلا أنه في هذا السياق بالفعل القضاء والدولة يجب أن يفصلا احتراما للدستور، فالقانون يرى أن الدولة يمكن أن تكون طرفا في القضايا المعروضة أمام القضاء، فكيف يمكن ضمان استقلالية القضاء، إذا ما قلنا بصريح العبارة أنه في المسطرة القضائية الدولة شيء (طرف) مدعى عليه أو مدعي، والقضاء شيء آخر، يحكم عليها ويحكم لها، بحسب الحالة.
لو قلنا أن القضاء أثناء مراحل التقاضي جزء من الدولة، فهذا طعن في مصداقية القضاء، وطعن في قرارته وأحكامه التي يصدرها في الملفات المتعلقة بالدولة، والدليل بسيط، فإما أن القاضي يخشى أن يقال أنه حكم للدولة التي هو جزء منها، وينسب نفسه إليها، وهنا الحكم مردود، أو يقال أنه حكم ضد الدولة درءا للشبهات وللقول بتبعيته للدولة، وهنا الحكم أيضا مردود.
فإذا، من هذا المنطلق، القضاء جزء من الدولة ككيان، وليس جزءا منها كجهة فصل وحكم. بل مستقل عنها، خلافا للسلط الأخرى، فهي جزء من الدولة في كل الأحوال، وهنا نعني السلطتين التنفيذية والتشريعية.
لماذا أثار هذا التعبير "السليم في سياقه" ضجة :
نحن على أعتاب المجلس الأعلى للقضاء، ومعلوم ضرورة أن المجلس الأعلى للقضاء، هو من يحول القضاة، وهو من ينقطهم، وهو من يعاقبهم، وهو من يرقيهم، ويقدمهم ويؤخرهم.
ولذا فهذه الضجة جاءت فقط لتخويف هذا المجلس من أي قرارات قد تمس (من البعض) ممن يرون أنهم ربما يستحقون المساس بهم، هذه هي الحقيقة التي لا مراء فيها، وكأن الوزير أعطى فرصة لذلك، رغم أنه لم يقل إلا بما هو دقيق وصحيح.
كخاتمة، وأعلم أن هذا لا يعجب كثيرين، إلا أنني أقول وبصدق، ودون وجل، القاضي الذي ينتصر لنفسه قاض جائر، ومخالف لصريح القانون، فلا يجوز للقاضي أبدا أن يحكم في قضية تخص أشخاص تربطه بهمه صلة قربى، أحرى أن يحكم في قضية هو نفسه معني بها بشكل مباشر.
العدل يا قوم بين، ولا يحتاج كبير عناء، والحق ساطع كالشمس، والظلم اللفظي أشد مضاضة من أي شكل آخر من أشكال الظلم.
تشفى الجروح ولو كانت قاتلة ** ولكن كلمة السوء لا تشفى من الكبد.
الخبير القضائي محمد فاضل الهادي