عندما أكتسح (الغرب) أقطار الشرق خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, في إطار توسعاته الاستعمارية, كان الادعاء الذي روج له الكتاب الغربيون في ذالك الوقت لتبرير ظاهرة الاستعمار, هو أن الأمر يتعلق بنشر الحضارة....!
كان العالم منقسما في نظر أولائك الكتاب- بمن فيهم بعض فلاسفة الأنوار- إلى قسمين: عالم متحضر وعالم متوحش. وكانوا يعتقدون- بصدق أو بغير صدق, لا يهم- أنه من خلال الاستعمار وبفضله, ستخرج الشعوب المستعمَرة من مرحلة التوحش إلى مرحلة التمدن..
فكأن الصراع بين الغرب والشرق آنذاك كان بين الحضارة والتوحش!. مما يعني أن الغرب لم يكن يعترف بأي حضارة أو ثقافة أخرى..
أما بعد أن تعرف الغرب عن كثب على البلدان التي احتلها ومنها موريتانيا خلال فترة الاستعمار, فقد اكتشف أنها بلدان لها حضارات وثقافات عصية على نفوذه ومشاريعه.. فكيف صمد فكر سلف هذا البلد في وجهه ؟ في حين انصهر الخلف في ثقافته وتوجهاته!
إذا رجعنا قليلا إلى الوراء فإننا نجد أنه منذ القرنين 13 - 14 الهجريين والفكر الشنقيطي يواصل ارتقاءه الثقافي الدؤوب ارتقاء يمد جسرا للحاضر، ينقل عبره فكر بلاد شنقيط ليأخذ مكانه طيفا من أطياف الثقافة العربية الإسلامية موجها سلوكه ومساهما في تحديد مستقبله، وقد اكتملت أنسجته المعرفية وأعرافها الفكرية منذ ذلك الزمن، وتوارثتها الأجيال مكتملة عصية على التغيير، فقد صاغت كل عصاراتها الفكرية في الفقه والتصوف والأدب في ظل مؤسسة اجتماعية بدوية تمثل القرابة أهم روابطها بعد العقيدة، استطاعت أن تحفظ للمجتمع عقله الجمعي رغم الانبهار الذي يمكن أن ينتج من احتكاكنا بالغرب..
لقد اتبع الشناقطة طرقا تنطلق من مبدأ الإحاطة الشاملة التي تذكيها إرادة صلبة في مقاومة جميع الظروف المعيقة للتعليم والتحصيل، لذلك كانوا يستظهرون كل المتون التي تقع في أيديهم بغض النظر عن موضوعاتها، على الرغم من بداوة الحياة وشظف العيش وانعدام المؤسسة المركزية، فقد حصّل الشناقطة علوما ومعارف كثيرة شملت مختلف جوانب الثقافة العربية والإسلامية، تجاوزتها أحيانا لتجيب على ما تطرح الحياة الشنقيطية من جزئيات ونوازل كان العقل يجتهد في صياغة أجوبة عنها معتمدا على معارفه، منطلقا من أصله الشرعي وآليته العقلية في قياس الشاهد على الغائب، وتعتبر النوازل والفتاوى حقلا معرفيا غنيا بالدلالات والرموز، لذلك اعتني الفقه الإسلامي كثيرا بأمرها إلى درجة أن البعض اعتبرها كاشفا مهما لخفايا الأمة وأسرار الشعوب بل مصدر من مصادر التاريخ الإسلامي فالنوازل هي: العدسة الكاشفة لحياة الأمم كما أنها النافذة التي يطل من خلالها على صميم المجتمع حتى نستطيع الغوص إلى أعماقه والنفاذ إلى كنهه. ومن هنا لابد من الإلمام بملامح الوسط الذي أنتج هذه النوازل آنذاك.
فعلى الصعيد السياسي كان أبرز ظاهرة في هذا الصدد هو خلو البلاد من سلطة مركزية تطبق الشرع وتدبر أمور الناس، ويتحاكم إليها الخصوم في الوقائع، فلم تعرف البلاد الشنقيطية بعد العهد المرابطي أية سلطة مركزية ولا نظام في الحكم حتى نهاية العقد السادس من القرن العشرين عندما أعلن عن دولة الاستقلال تحت اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية في 28 نوفمبر عام 1960م.
وهذا ما يسمح بالقول أن التاريخ السياسي للبلاد أمتاز بسمة من البداوة يعززها غياب للسلطة المركزية، فكان ذلك دافعا إلى صياغة جملة من الأسماء تلح في معظمها على وصف هذه الأرض بالخروج على السلطة والحكم والابتعاد على الخلافة والنظام، ومن هذه الأسماء "البلاد السائبة" وقد تحدث الشيخ" محمد المامي" عن خلوها من مقومات الملك والسلطان كالدرهم المسكوك والأمير المطاع يقول:
"هي البلاد التي لا حكم فيها ولا دينار ولا سلطان بادية في فترة من الأحكام بين المملكتين البوصيابية في الجنوب والإسماعلية في الشمال"، ولاشك أن مسألة السيبة أو التسيب كان لها تأثير كبير على أوضاع البلاد السياسية والاجتماعية، فلعلها هي التي حملت علماء الشرع على أن يكيفوا الكثير من الأحكام البدوية وفق النموذج القائم فاجتهدوا قدر الممكن والمتاح في المصالح والمقاصد بل إن هذا الاستثناء ولد عند أهل الذكر قناعة بعدم جدوى دولة النظام، خشية الفتنة والفساد وقد عبر الشيخ "محمد اليدالي" عن جانب من هذا التوجس مبينا جهل الناس يومئذ بأمور الحكم وفقه السياسة.
ورغم هذا التسيب فإن الثقافة الموريتانية استطاعت أن تفرض للمثقفين الاحترام والتبجيل في ظل مجتمع لم تكن فيه سلطات يأوي إليها المظلوم.
وهذه الثقافة لم تظهر دفعة واحدة بل تبلورت عبر مراحل ومجهود أثقل كاهل هؤلاء العلماء الأفذاذ في تحصيل دؤوب عن طريق قوافل الحج التي كانت تجلب الكتب من الحجاز ومصر وبلاد المغرب العربي وعن طريق الرحلات العلمية التي كان يقوم بها البعض بحثا عن الكتب و الورق. فقد ظل علماء الشناقطة يراسلون نظراءهم في البلاد العربية ويسألونهم عن نوادر المخطوطات وأماكن وجودها ،فكانوا يطلبون المخطوطات من السلاطين والملوك ويسافرون إليهم من أجل الحصول عليها. وقد أهدى سلطان المغرب لإبن رازكة مكتبة عاد بها من المغرب كما عاد الشيخ سيديا من رحلته إلى مراكش بمكتبة كبيرة وقد رحل الشيخ محمد اليدالي بن سعيد إلى أغادبر وعاد ببعض الكاغد الشاطبي وازدهرت سوق المخطوطات في بلاد شنقيط التي اهتم أهلها بالكتاب واشتروه بأثمان غالية، فقد اشتري "موهوب الجليل شرح مختصر خليل" للحطاب بفرس عتيق، كما أشتري القاموس المحيط بعشرين بعيرا!! .
وانتشر نساخ المخطوطات الذين هم بمثابة دور للنشر وتنافسوا في استنساخ المخطوطات وجلب نوادرها، فكان ذلك ضمانة لبقاء هذه المخطوطات ونشرها في زمن لم تظهر فيه وسائل الطباعة الحديثة. وهذا ما يظهر جليا من خلال أشعارهم حيث تبين تلك القوافي مدى أهمية الكتاب في حياتهم، في حين غياب هذا الاهتمام في حياتنا، مع الفارق الكبير في ما توفر لنا من وسائل وما كان لديهم من إمكانيات، يقول محمد بن فتن:
لو كان يعذر باكي الكتب ذا الزمانا ** بكيت من كتب الأسلاف ما دفنا
ويقول الشيخ أحمد الجكني:
وقفت على كتب رثيت لباسها ** فقلت ودمع العين مني هامع
مضى أهلها و استحرقت وتأيمت ** فليس لها باك ولا من يطالع
لحا الله وارث لمال وما له ** لدى القلم من إرث فبئس الطبائع
ووصل شغفهم بالكتاب واهتمامهم به إلى حد أن نسيان الوارث لها يعني ضياع العلم والمروءة والنسب جميعا، يقول محمد فال بن باب:
إذا الفتى عن عرف وعن كتب ** وكان ذا ولد فاليحفظ الكتبا
إن ضاعت الكتب فالمعروف يتبعها ** وليس ذا ولد وليس ذاك أبا
وهذا العلامة محمد اليدالي بن سعيد يخاف على كتابه الموسوم" ذهب الإبريز في كتاب الله العزيز" الذي تعب في تأليفه، يخاف من تفريط الوارث الذي لا يهتم بالكتب ولا يعرف قيمتها، يقول من قصيدة يختم بها كتابه الذهب الإبريز:
أخاف عليه وارثا لا يصونه ** ويزهد ما فيه من درر العلم
وأخشى عليه ناقدا أو محرفا له ** لم يكن في الرأس منه سوى اللحم
وأخشى عليه مستعيرا يضيعه ** ولم يدر ما قاسيت من تعب الرسم
إلى قوله:
فيا ليت شعري من إذا مت يعتني ** به راغبا من وارث وبني عمي
ووصل بطائفة منهم حب الكتاب إلى عدم إعارته، يقول شاعرهم في هذا الصدد:
تمسك بالكتاب ولا تعره ** فإن إعارة المحبوب عار
فإن الحب في الدنيا كتاب ** وهل أبصرتم حبا يعار
هذه شذرات من قصة ثقافتنا وماضينا المجيد، تتجسد في حب اقتناء الكتاب ومجالسته، وهما ما كون ما يعرف اصطلاحا بثقافة (المحظرة) وهي الثقافة التي كانت عصية على المستعمر كحاجز منيع يصعب اختراقه..
ويكفي (المحظرة) فخرا أنها وحدها هي التي وقفت حارسا أمينا وسورا منيعا في وجه المستعمر الفرنسي عند ما عجز سلاحنا غير المتكافئ. بذلك شهد شاهد من أهلها: CRISTIAN LAGREيقول المسمي(كريستان لجرى) في رسالة سرية إلى الوزير المعني في فرنسا ما خلاصته:« إن الأفارقة قلدونا في الملبس وفي كل شيء ماعدا موريتانيا التي تمثل الثقافة فيها أعلى مراقي المجد فما زالت لها مكتباتها(700 مجلد من شنقيط وحدها) ولهم قضاؤهم المستقل» ثم يقترح حلا لذالك الصمود, وهو زعزعة مكانة العالم, والمحظرة, وتشجيع أطفال المدرسة الحديثة بإعطاء المنح وفتح الكفالات وتوفير الملابس مجانا إلى أخر الاقتراحات.....
والخطورة تكمن في أن الثقافة التي تعنيها الرسالة تتجاوز اليوم كل المعارف بأشكالها وأنواعها, حيث أن المدلول الحديث لمادة(ثقافة) بات أوسع من ذالك بكثير..
وتدل مادة "ثقف" في اللغة على تجاوز ما هو طبيعي ومعتاد إلى ما هو أكثر استقامة وتفوقا فقد قالت العرب: ثقف الشيء ثقفا: حذقه، ويقولون ثقف الشيء: أقام المعوج منه وسواه ،وقالوا ثقف الشيء إذا كان سريع التعلم له.
وحين تقول اليوم: فلان مثقف، نقصد أنه حاز من العلوم والمعارف ما جعله يبدو متفوقا على الأشخاص العاديين، وما صقل ملكاته حتى جاوز السوية التي يكون عليها الأمي وشبهه. لكننا هنا لا نريد الحديث عن هذا، فالمعارف بكل أشكالها وأنواعها، لا تمثل سوى جزء من ثقافة الشعوب إذ أن المدلول الحديث لكلمة "ثقافة" بات أوسع من ذلك بكثير وهنا تكتفي بتعريف تايلور في كتابه "الثقافة البدائية" حيث قال عن الثقافة " إنها ذلك الكل المركب من المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والأعراف، وكل ما أكتسبه الإنسان باعتباره عضوا في مجتمع ما: ومن هذا التعريف فإن الثقافة تشمل:
1ـ منظومات التفكير التي يستخدمها الناس في التعريف على أنفسهم، وعلى العالم من حولهم، والتي يوظفونها في إنتاج المعرفة وتنميتها.
2- ما يستخدمونه من معايير في الحكم عن الأفعال والأشياء المختلفة، مثل العقائد والقيم والأخلاق والأحاسيس الجمالية.
3ـ طرق التعبير والصور والرموز التي يفصح من خلالها الناس عن الأفكار والمشاعر والقيم.
4ـ المعارف والمهارات والوسائط التقنية التي يتعامل الناس من خلالها مع البيئة المحيطة.
ويمكن القول بعد هذا إن الثقافة بمعناها الواسع، تشمل جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، مثل نظم القيم والتقاليد والعادات، ومثل الحقوق الأساسية إلى جانب الفنون والآداب وطرائق العيش.
لكن تاريخ اليوم لا يكتبه الأجداد، ولا يتحرك على الأرض طبقا للأماني والأقوال في مجتمع فقد فعاليته وفقد معها قدرته على قراءة الأحداث الماضية منها والجارية، فضلا عن المستقبلية وتحول إلى ظاهرة صوتية تقول ما لا تفعل، وتسمع فلا تدون، وإن هي دونت فلن تقرأ، لأنها هجرت التحصيل العلمي.
وهذا ما فتح ثغرات أمام منظري الاستعمار الذاتي لبث مخططاتهم وهذا ما تحقق لهم على أرضية الواقع, بعد أن استعصي علبهم فترة من الزمن. فقد تكونت لدى أبناء هذا المجتمع عقلية مشابهة للعقلية الأوروبية في مفاهيمها وأفكارها ونظرتها إلى الحياة, لأن الباب الوحيد للعلم والتثقيف هو ذالك الذي يفضى إلى هذه الثقافة, التي تلقن في المدارس المنشأة من طرف الحكومات في البلاد العربية ولإسلامية, على نمط المدارس المنشأة في البلاد الأوربية, من ابتدائية وثانوية وعالية. وهذه الثقافة بشكلها الحاضر وجميع ملابساتها أخذت واقتبست من الثقافة الأجنبية, وهى نفسها في الدواوين الحكومية وفى المهن الحرة وفى مجالات الحياة العملية المختلفة.
وارتباط المجتمع بالمناهج التعليمية, والمقررات الدراسية, ومختصراتها قتلت لديهم روح البحث وحرمتهم من المطالعة خارج المنهاج, وكرهت إليهم القراءة والكتابة، إذ حصرت الهدف منهما بالإمتحان والشهادة تنتهي الحاجة إليهما, وتبدأ القطيعة معهما بالنجاح في الامتحان وتحصيل الشهادة. من ثم فان الفئة التي حصلت على الشهادة ارتبطت هي الأخرى بوسائل الأعلام والمعلومات السريعة، بما تملكه من جاذبية وسائطها المتعددة في الصوت والصورة والحركة، فآثروها على تحصيل العلوم والمعارف، وسلموا أخيلتهم وأوقاتهم لها، وفضلوا التحول إلى متلق يستمع ويشاهد مسترخيا على أريكته، يتجرع ويحتسى كؤوس الشاي المنعنع مع ما يقدم له من دون كبير تدخل أو اختيار...
آثروا ذلك على معاناة القراءة الجادة وما تتطلبه من تركيز ووعي، فتسطحت الثقافة ونتج عن ذلك داء الأمية الثقافية التي أضرت بحركة النقد، وحدت من تداول الأفكار وأدت إلى ركودها، فضمر الإبداع وتحجرت العقول، وغاصت الثقافة في المياه الآسنة...
فعلى سبيل المثال مشروع إصلاح التعليم المفترض الذي يبدوا أنه أصبح واقع, فمن المعروف أن الطالب أكثر ما يشده إلى المواد هو الضارب, فمنذ عقود وضارب التربية الإسلامية هو:2. وقد أصبح قي الإصلاح الجديد:1. بعد أن أدخلوا مادة التربية المدنية.
والسؤال الذي يطرح نفس لماذا أخذوا من ضارب التربية الإسلامية دون غيرها من المواد؟ ولماذا تكون هذه السنة آخر سنة بالنسبة لباكلوريا العلمية والرياضية الشعبة العربية بالنسبة لتعليم الثانوي. والسنة الأولى والثانية, الشعبة العربية بالنسبة لتعليم العالي بكلية العلوم والتقنيات جامعة أنواكشوط.. ناهيك عن تهميش اللغة العربية وجعلها لغة ثانية عمليا, وبهذا تحكم لفرانكفونية قبضتها على التعليم في ظل غياب المثقف وانصهار شرائح المجتمع الأخرى في بوتقة السياسة من أجل منافع معينة باتت معروفة للجميع.. إن من يستقرأ الساحة اليوم يجد أن قسما كبيرا من مشاكل اللغة العربية يعود إلى أسباب ذاتية، ونقصد بها ضعف همة أبنائها وقصورهم في القيام بواجبهم تجاه لغتهم التي هي لسان دينهم وعنوان هويتهم الثقافية ورمز سيادتهم الحضارية، وتفريطهم في مسئوليتهم التاريخية في الحفاظ على تراثهم وحماية وجودهم المعنوي..
إن محنة العربية لا تتمثل في حشود الألفاظ والمصطلحات الوافدة من عالم الحضارة المعاصرة، إلى عالمها الذي يبدو متخلف، ليس ذالك فحسب ، بل إن محنتها الحقيقية هي في انهزام أبنائها نفسيا أمام الزحف اللغوي الداهم، واستسلامهم في مجال العلوم للغات الأجنبية، بحيث قد تكونت في العالم العربي جبهة عنيدة تجاهد للإبقاء على العربية بمعزل عن مجال العلوم والتكنولوجيا، فما دامت صفوة المشتغلين بالعلوم تعرف الفرنسية مثلا، فلا بأس أن نعزل العربية "بل ونقتلها في عقر دارها".
هل بهذا نسحب البساط من الإصلاح, كلا, فهو يبقى خيار الأمم والشعوب لكن ما بحمل على الريبة هو لماذا لفرانكفونية بالذات لماذا لا تكون الانجليزية مثلا؟ ومن الواضح لغير لعميان ما يعانيه التعليم لفرانكفوني نفسه في عقر داره..
وضرورة إيجاد ثقافة تستجيب لمتطلبات عصرنا أصبحت الآن ملحة أكثر من أي وقت مضى ذالك أننا لم نعد" لفريگ" الذي تسعه "أطناب الخيمة" رغم أننا مازلنا نعيشه واقعا...لقد أصبحنا اليوم من ضمن القرية الكونية العالمية في عالم الأمم والقارات. شئنا أم أبينا, حيث نرى أن التحولات الكمية, ارتفاع القدرة الشرائية، استبدال الطاقة البشرية تطور العمل التقني، تطور أنشطة الوقت الحر أنتجت تحولا نوعيا بطيئا تمثل في بروز مشاكل متعلقة بالحياة الخاصة، مشاكل حول الحياة الشخصية المستقلة مست بالأساس الطبقة المتوسطة والعمالية، ويتعلق الأمر بتطوير ظاهرة جديدة داخل الحياة الشخصية، إنها فردنه الوجود الإنساني. حسب تعبير ادخارمور مضيفا أن خاصية الثقافة الجماهيرية تتمثل في كونها ستوفر للفئات الاجتماعية الصاعدة (طبقة متوسطة)، شباب، نساء، صورا إدراكية وقيما ونماذج سلوك جديدة أبطالها: الشخصيات السينمائية، ونجوم الموضة، ومقولاتها: المغامرة، والحرية الفردية، وغاياتها: الحياة والسعادة، والمتعة...الخ).
وهذه الصور ونماذج السلوك أضحت من مكونات تفكير شبابنا الذي ينشد لدى كتابه ومفكريه مستوى من المبادرة والجد والإخلاص, ولونا من الكتابة المباشرة التي تعيش عصرها وأفكاره وتطلعاته, فإذا هم لا يزيدون على مضغ حكايات الأولياء, واجترار بضعة خيالات محلقة في سموات التيه, ومجابهة الواقع الصارخ الملح بما يميعه في وعى الجماهير, ثم يسرح بها بعيدا بعيدا, في أحلام الماضي وتصوراته..لينشغل ببيان الانجازات التي حققها السلف بدل البحث عن وسائل تمكن من تطوير ما قدم الأجداد.
وبعودة مبرمجة إلي إعادة تمثيل للعمل الأجداد واهتماماتهم, فإننا نجدهم يتبعون طرقا تنطلق من مبدأ الإحاطة الشاملة التي تذكيها إرادة صلبة في مقاومة جميع الظروف المعيقة للتعليم والتحصيل، لذلك كانوا يستظهرون كل المتون التي تقع في أيديهم بغض النظر عن موضوعاتها، كما تقدم آنفا, ولا بأس هنا أن نعرج على بعض المصادر الشعرية التي تصف مجالس هؤلاء الأعلام وطبيعة العلوم المتداولة آنذاك...
يقول سيدي محمد بن الشيخ سيدي:
وكم سامرت سمارا فتوا ** إلى المجد انتموا من محتدين
حووا أدبا على على حسب فداسوا ** أديم الفرقدين بأخمصين
أذاكر جمعهم ويذاكروني ** بكل تخالف في مذهبين
كخلف الليث والنعمان طورا ** وخلف الأشعري مع الجويني
وأوراد الجنيد وفرقتيه ** إذا وردوا شراب المشربين
وأقوال الخليل وسيبويه ** وأهلي كوفة والأخفشين
نوضح حيث تلتبس المعاني ** دقيق الفرق بين المعنيين
وأطوار نميل لذكر دارى ** وكسرى الفارسي وذي رعين
وشعر الأعميين إذا أردنا ** وان شئنا فشعر الأعشيين
ونذهب تارة لأبي نواس ** ونذهب تارة لأبن الحسين
ويظهر من هذا النص كما في غيره من النصوص الكثيرة في الثقافة الشنقيطية أن المدونة المرجعية التي استقى منها الموريتانيون معارفهم كانت كثيرة, شملت كل تمظهرات الثقافة العربية العالمة, وعززتها روافد ثقافية شعبية وفلكلورية عميقة الدلالات متعددة الحضارات. وهؤلاء الأجداد الأفذاذ اخترعوا لنا نظاما اجتماعيا متكاملا قاعدته القبيلة، وقد نشطت المهارات الإبداعية في هذا المجال فاخترعت ضمانات أخلاقية، واجتماعية، للحيلولة دون تلاشي هذه العادات فمثلا: ابن فلان، ومن قبيلة كذا ..وعبارات (وخْيراتْ، ووْرخَستْ) وقد تطورت هذه العلاقات حتى اتخذت شكل جمعيات قائمة على أساس جد واحد.. ولعل كلمة (وخْيراتْ) لما تبعثه في شخصية الموريتاني هي الدافع الأساسي الذي حمل المجتمع على عدم التنكر لهذه العادات، وهذا ما يفسر وجود عدد كبير من الناس في بيت كل موسر من سكان المدن الموريتانية، وقد يصل الأمر إلى حد تضرر الشخص ماديا وأدبيا بسبب التكاليف الباهظة التي يجرها عليه تواجد هؤلاء حوله. ومع ذلك تأبى عليه تلك الروابط أن يبدر منه أدنى تبرم، لأن ذلك يعتبر ضعفا في المروءة وروح الشرف (أمْحيلي). إن روح الشرف المرتبط بقيم البطولة والإباء والحكمة هي الدافع إلى التضحية لصالح المجتمع والباعثة على التنافس الخلاق ( التفاييش) وهذا الأخير أخذ في وقتنا الراهن شكلا سلبيا بحيث إذا اجتمعت جماعة من الناس من طبقة اجتماعية معينة، في السعي لتحقيق غاية، واستطاع أحدهم أن ينالها، فإن الأفراد الآخرين سيستسهلون الصعب حتى يفعلوا مثله.
وهذا لا ينسينا الجانب السلبي للتصرف النابع من هذه الروح، ذلك الجانب المتمثل في عناية مفرطة بالمظهر، إن فكرة ضرورة الظهور بمظهر الند أو المثل (أتفاييش) جعل كثير من الناس يعيشون فوق طاقتهم. وعلى سبيل المثال: إذا تزوج شخص ما وأنفق مليون أوقية، أصبح لزاما عليّ أن أحاول بكل الوسائل الاقتداء به، ولو كان وضعي المادي يختلف اختلافا كليا عن وضعه، الأمر الذي يرغمني على سلوك طرق ملتوية للحصول على المال..والمثال يتكرر في السيارة الفاخرة، والفيلات التي تأخذ بالألباب على الطريقة الموريتانية, وجميع المظاهر الكمالية...إلخ.
لكن المتتبع للمجتمع الموريتاني يلاحظ أن هذه الضمانات الأخلاقية والاجتماعية التي اخترعها (العرف الموريتاني سابقا ولا يزال يتمسك بها) حاليا قد ابتعدت كثيرا عن معناها الأصلي الذي ظهرت من أجله فمثلا:
1) ـ (وخْيراتْ) كانت ترمز للعلم، والشهامة، والأخلاق الفاضلة، والأمانة، والصدق، والوفاء بالعهود.كماتقدم آنفا..
أما الآن فما إن تملك حفنة من المال بقطع النظر عن مصدرها حتى توصف بكل الأوصاف الحميدة: آفكراش, متروجل....الخ وهذا كون مشكلة لدى شريحة كبيرة من المجتمع, وربما أدى بالألفاظ السابقة أن تأخذ معاني جديدة تختلف جملة وتفصيلا عن معناها الأول, في ظل الوفرة المادية والترهل الذي أصاب هذا المجتمع, فبدل التضحيات الجسام التي قدمها الأجداد..والتي جعلتهم يشترون "موهوب الجليل شرح مختصر خليل" للحطاب بفرس عتيق، والقاموس المحيط بعشرين بعيرا! رغم ضيق الحال وشظف العيش../
نرى من الأحفاد من يبذر مخصصات مليارية كانت موجهة لنشر وصيانة هذا التراث في مشروع الكتاب, ومشروع إحياء التراث.ولم يقتصروا على سرقة الأموال المخصصة للمخطوطات والكتب فقط. بل شمل هذا الإجراء أيضا مباني المكتبات, إلى درجة محاولة تحويلها إلى مكاتب للقضاء, لولا تدخل اليونسكو بدعوى أن تلك المباني مسجلة عندها كمكتبات عامة نموذجية, لا يجوز المساس بها. ولكنهم بعد ذالك حولوها بفعل فاعل الى مكاتب لإحصاء السكان وبطاقة التعريف الوطنية...
وغاب عن هؤلاء ونظرائهم من المنتفعين أن الكتب والمكتبات, ستبقي شاهدة على عقوقهم لأجدادهم, وتقصيرهم في سمعة بلدهم وخطورتهم على الإنسانية..
ولا نراهم بعد هذا كله كونوا بهذه الثروة مجدا, ولا ذكرا, غير تفاخرهم بالأجداد الذين سرقوهم. فلولا إنتاج هؤلاء الأجداد ومكتباتهم, لما مُولت هذه المشاريع المليارية.. وهذا يعنى أنهم يعانون من أزمة حقيقية في الذات فمواطن الأزمة موجودة في الضمير وفي علاقته مع الواقع، وهذا يعني أن الأزمة تتصل بتفسير المشاكل أكثر من اتصالها بطبيعتها، فهي ليست أزمة في الوسائل وإنما في الأفكار.
2) ـ المثل أو(التفايش) كان الناس يتنافسون في العلوم، ومعرفة الأحكام، والشهامة وإكرام الضيف...الخ
وأضحت الآن على المنازل الضخمة، والسيارات الفاخرة, والاستجمام والنساء....الخ وغنى عن الإشارة ما هو ظاهر لغير العميان ما نعيشه اليوم من تنافس في حب المظهر و(التفاييش) في اقتناء آخر موديلات السيارات والموبايلات و السفر إلى الخارج للاستجمام في الفنادق الفخمة ذات الخمس نجوم والكازينوهات... الخ إلى درجة أنك تتوقع أن تصبح يوما ابن موديل السيارة كذا.. أو الوظيفة كذا..أو ابن أمريكا واسبانيا وآنكولا..تبعا للأموال التي تأتي من هذه الدول حتى وان كنا نقولها الآن لاشعوريا..وكدليل على هذا السلوك القديم الحديث نجد اللهجة العامية تلخصه في كلمة: ( سفيه الأندلس أو الأندلس الموريتاني ) كانت هذه العبارة في خلدي منذ فترة حين كنت آنذاك في مدينة انواذيبوا وكانت هذه المدينة في ازدهار منقطع النظير وقد لاحظت وقتها اهتمام سكان هذه المدينة الزائد باسبانيا والأندلس لا بهدف المتاجرة والتبادل وحدهما وإنما بهدف الاستجمام المترف والتبذير الجنوني للأموال.
وتشيء الأقدار أن يعيد الزمن نفسه ولكن هذه المرة في مدينة نواكشوط حيث لاحظت نفس ما لاحظته منذ عقود من ترف وتبذير تخطى سكان مدينة أنواذيبوا التي أصبحت خاوية على عروشها بخطوات !!!
وكوني أحب التطلع دائما من باب الفضول, ولا اكتفى بالظواهر فقط. رجعت أقمش في المراجع, علني أجد تفسير منطقي, لهذا الأندلسي الذي ما حل بمدينة إلا خربها أو يكاد..نرى الخبر اليقين عند مؤلف كتاب المجتمع الفضفاض حيث يقول:
(يرجعنا التاريخ إلى أيام المرابطين وبالضبط إلى يوسف بن تاشفين فمنذ دحرت جيوشه القادمة من عمق الصحراء الموريتانية جحافيل الصليبيين وأطال بذالك عمر الإسلام في اسبانيا خمسة قرون أخرى والاسبان يحتفظون في ذاكرتهم بهؤلاء (المورو) الذين أصبحوا علما للعروبة والإسلام. ولعل هذا هو الخيط الذي يربط بين الرواية الشفهية في الصحراء الموريتانية وأصولها الأندلسية.وما يمثله هذا التراث من فن وفقه وموسيقى غير أنه من الأغرب من هذا كله أن يتحول اسم "أندلس" إلى مفهوم حساني يعنى الترف والتبذير ولهذا تقول الحسانية " أسفه من الأندلس" وبهذا يؤكد الموريتانيون القدماء الذين يدعون لانتساب إلى " المورسيكيين " المهجرين من الأندلس, أنهم حفظوا درس التاريخ وتجربة المسلمين عندما أضاعوا سلطانهم بفعل حضارة الترف والتبذير.)
وهو ما لخصه ابن خلدون ففي تحليلاته للحضارة بيّن العوامل الموضوعية التي يكون انتشارها في المجتمع إيذانا بقرب أفولها مثل الترف والتفنن فيه، الأمر الذي يؤدي إلى تلون" النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا تستقيم حالها مع دينها ودنياها: أما دينها فلاستحكام صيغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤنات التي تطالب بها العوائد ويعجز الكسب عن الوفاء بها.." ثم يتحدث ابن خلدون بعد ذلك عن تفكك ما يسمى في العلوم الاجتماعية الحديثة بنسق القيم الثقافية واهترائه فيقول: "فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه وبالتعبير السوسيولوجي الحديث: "بطرق مشروعة وغير مشروعة" وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجمام الحيلة فنجدهم أجرياء على الكذب والمغامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الإيمان والريا في البياعات.... ثم تجدهم أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والجهارة به وبدواعيه وإطراح الحشمة في الخوض فيه، حتى بين الأقارب وذوي المحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك"...
كل ذلك يحتم نهاية الحضارة، وهنا يتطابق القانون العمراني الخلدوني مع إرشاد القرآن وتعليمه بهذا الصدد ويستنتج ابن خلدون هذا التجانس الكامل فيقول: "وإذا كثر ذلك في المدنية أو الأمة تأذن الله بخرابها وانقراضها وهو معنى قوله تعالى ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا﴾ الإسراء الآية: 16. وهكذا حيث ما اتجهنا وجدنا من الشواهد ما يكفي للدلالة على أن ما نشاهده بمنظارنا هو أقرب للغريزة منها إلى العقل، وإذا اختزلنا الكلام السابق في صيغة رياضية فإننا نجد أن الإنسان صاحب عمل مكون من قول وفعل وحين نضع العمل في معادلته الصحيحة نخرج منه خارج قوس (القول والفعل) ليكون في طرف، واليكن العمل في طرف آخر فتصبح المعادلة على الشكل التالي:
القول + الفعل = العمل.
فالفعل إما أن يكون مثلا أعلى فهو فعل إلهي، وإما أن يكون مثلا أدنى فهو فعل الحيوان، أما ما يفعله الإنسان فهو الفعل الذي لا يمكن أن يكون مثلا أعلى، فليس في الوسع قراءة آخر كلمة في صحيفة التطور، ولذا فهو عمل سائر في طريق الكمال ولا يمكن أن يكون مثلا أدنى لأن هذا لأن في هذا إسقاط بصفة العمل عنه واقتصاره على صفة الفعل وعندما يكون كذلك فقد خرج من هاويته الإنسانية والإنسان صاحب عمل مؤلف من قول وفعل، وإذا انفصل قول الإنسان عن فعله فقد صفة العمل التي جعلته إنسانا وفقد الحرية، لأن الحرية هي عمل في تحرير نفسه وتحرير وجود من حوله بوعيه لحركة الجدل... وانحط إلى مرتبة الفعل الأندى مرتبة الحيوان الأعجم.
وحين خرج الإنسان من دائرة الفعل والقول إلى دائرة العمل ليحقق حريته بما يفعل ضل الطريق إلى حريته بسلوكه طريق الفعل وحده أو طريق القول وحده.
أنظر إلى ضياع الحرية الذي تجده في قوله تعالى ﴿ يأيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون * كبر عند الله مقتا أن تقولوا مالا تفعلون﴾ سورة الصف الآية: 2-3. لقد ضاعت الحرية بضياع العمل وضاع العمل حين انفصل فيه القول عن الفعل والأصل هو القول + العمل. وأكبر تكريم لإنسان أنه اتؤمن على الحرية حين أعطي صفة العمل، وتكون المعادلة الجديدة:
القول + الفعل= العمل و= الحرية
على فرض أن كل طرف من أطراف هذه المعادلة قائم على وعي حركة الجدل، ولما كان الوجود كله مادة خاما لا عمل فيها، فهو ضرورة لا وجود فيه للحرية. لأن هذا الوجود بلغ بحركته أقصى الحرية حين بلغ القيد.
ونحرر منه على مقدار ما نقول ونفعل، أي على مقدار ما نعمل، ونعمل على مقدار ما نعي من حركة الجدل فيه...
ولكون هذا المجتمع لا يعمل, لقوله مالا يفعل, فانه يعيش حالة من الانفصام بينه وبلده لذا نراه يهرب من التفكير بانغماسه في الملذات إلى درجة تكييفه للعادات الوافدة مع عقله الجمعي. وهذا يسلمنا إلى معادلة جديدة أحد طرفيها البطن والفرج والطرف الآخر القلب والعقل وتكون المعادلة على الشكل التالي:
العقل+القلب = البطن+الفرج.
وعليه يتحدد تعقلنا للأشياء حسب تفعيل طرفي المعادلة بالنسبة للطرف الآخر. وتفسير ذالك أن الإنسان فيه غرائز دنيا تشده إلى تحت؟
وخصائص كريمة تدفعه إلى فوق؟ فإذا كانت هذه الخصائص أشد قوة ذهبت بالإنسان صعدا إلى آفاق الحق والخير والجمال. وإذا كانت مساوية لغريمتها ذهب السالب في الموجب وبقى المرء موضعه. وإذا كانت أضعف منها أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فلم تراه إلى مبطلا شريرا دميم الروح. والذي أقصده أن تحصيل الكمال تحتاج إلى معاناة علمية وخلقية...فالكريم لن يكون كريما إلا إذا قهر نوازع الشح. والشجاع لا يكون شجاعا، إلا إذا هزم بواعث الخوف...
ومن المعلوم أن أي إصلاح يتطلب خطة مدروسة نابعة من الواقع المفترض ولهذا يجب علينا أن نطبع تصورا ونرسم له مطامح، ونخلق له اتجاه معين يهدف إلى التقدم ولكن هذا سيبقى عقيم إلا إذا تجاوزنا هذه الأمور إلى عقل المجتمع الأمر الغير مطروح للنقاش الآن..ولسنا في حاجة بعد هذا كله إلى بيان تحقق ما كان يؤرق الاستعمار التقليدي وهو ما حققه عن طريق الاستعمار الذاتي. وتظهر خطورة الغزو الداخلي بالمقارنة مع الغزو الخارجي حيث أن هذا الأخير نوع تقليدي يتم من أطراف فاعلين من خارج المجتمع المغزو، وهو غير خطير ـ نسبيا لأنه مكشوف وظاهر(لغير العميان(.
أما الغزو الداخلي فإنه غزو ذاتي وهو مضمون النتائج وسليم العواقب كما رأينا.والغزو الخارجي نستطيع محاربته لأنه مكشوف ونحاكمه لأنه معروف، أما الغزو الذاتي فكيف نحاربه وأين نحاكمه، ومن يحاكم من؟ فالمفعول هو الفاعل والخصم قد يكون هو الحكم في نظر القانون!!
هذا وسبب تركيزي على هذه النقاط هو أنني بعد تأمل طويل وجدت ثروتنا من المعاني الغالية قليلة، وزادنا غير كاف لمواجهة تحديات مثل التي نعيشها اليوم حيث أصبحت السياسة كل شيء في هذا البلد وكأنها أضحت الأوكسجين الذي نتنفسه ولم تقتصر على الوطن فقط, بل تعدته بخطوات إلى الخارج, فما إن تفتح نشرة إخبارية مرئية أو مسموعة إلا وكان فيها خبر عن موريتانيا ذات الحكومتين..وتناسى هؤلاء أو غاب عنهم أن مآربهم الشخصية ومصالحهم الخاصة ألحقت بهذه الدولة من الضرر ما لم يلحقه بها سفراؤها في الخارج, فعلى مدى عقود من الزمن وموريتانيا تفتح في السفارات وتبعث بالسفراء وتنفق الملايين,, وفى الأخير تتفاجأ بأن هؤلاء أصبحوا سفراء حقائب, يقضى الواحد منهم ما شاء أن يقضى في الخارج في ترف منقطع النظير.
وعندما تحين العودة إلى الوطن تمتلئ الشنط بما غلا ثمنه وخف وزنه, بدليل ما نشاهده الآن على شاشات الفضائيات العربية والدولية من استهزاء وتنكأ بكل ما هو موريتاني. وهذا ما يوضح تقصير هؤلاء السفراء عن دورهم المنشود في التعريف بالبلد..وهم الذين استنزفوا خيرات هذا البلد عبر عقود.. فيكفي أن نعمل جردا عاديا لرواتبهم وميزانياتهم التي تجاوزت ما وراء البحار على مدى 40 سنة, لتتبين مدى خلل التفكير عند هؤلاء. ولا ينبئك مثل خبير، فسفراؤنا الحاليين والمتقاعدين عندهم خبر اليقين.غير أننا نرجح دائما الشعر أو "الغناء الحساني" ليتكلم بلسان حال هؤلاء قبل لسان مقالهم. والقصة تحكى عن أحد الذين عانوا من تسيب سفاراتنا في الخارج.
كان أحد سفرائنا في أحدى الدول الشرق أوسطية والتي عادة ماتمنح نوعين من الطلاب: طلاب عاديين، وطلاب من جهات أخرى، ونظرا للتأخر المنحة واقتراب ذهاب الطلاب العاديين في العطلة الصيفية إلى البلاد، وكان آنذاك يوم الاثنين آخر أيام السنة الدراسية وهو اليوم المحدد للقاء السفير بالنسبة للطلاب العاديين لذلك لجأ السفير إلى استبدال يوم الاثنين بالخميس بعد علمه بأن هؤلاء الطلاب سيذهبون يوم الاثنين في العطلة الصيفية "مناورة منه"، مدعيا أن ذلك اليوم من نصيب الطلاب الآخرين, فقال قائلهم بالشعر "الحساني":
يلگ كَانٌ الطلًاب ** كَلٌ أثٌنين أُذَ طَابٌ
أعليه أولا ينصاب **عن ملگاه أفلثنين
ذا السفير أو ينهاب ** أفست أيام أخرين
غير إبان أراعيه ** أتاليل مسكين
يتخاف عاد أعليه ** لخميس أمع لثنين
وما دامت دولتنا فاقدة لركيزتي التمثيل الدبلوماسي، و التعليم والبحث العلمي، فإنه من الصعب عليها أن تحافظ على توازنها الذاتي، مع تلبيتها لمطلبي الثبات والتغير. وبوجود خلل في هذه العوامل فستصاب حتما بالتقادم وبالتالي العجز..
ونحن هنا إذ نورد هذه القضايا إنما نبحث عن العلة الكامنة في الذات، فإن نحن نجحنا في معالجتها فإن المشكلة ستزول - تلقائيا- بزوال أسبابها وإن تجاهلناها وعالجنا الظواهر فقط، فستعاودنا بأشكال شتى،كمن يتوجه إلى البعوض بأطنان مبيدات الحشرات، ولا يفطن إلى تجفيف المستنقع الذي يحتضن بيوضها فلا تلبث أن تفقس من جديد.. وما ننشده هو رؤية إسلامية تقف على أرضية شرعية، وتتأطر بإطار ديني، وهذا لن يتحقق إلا إذا أعدنا النظر في ثقافتنا كلها، أعنى ثقافتنا الذاتية لننفذ منها ما ليس له رصيد من هداية الله وهذا دور العلماء والفقهاء.
ثم إعادة الثقة في الثقافة، والمثقف، والاستفادة من أصحاب العقول، وتوظيفها، وتنميها، ومساعدة أصحابها، على النهوض والتغلب على العراقيل التي تعترض سبلهم.
ولا شك أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى النهوض بالبلد، وجعلها في مصاف الدولة المتقدمة، فالمواهب ثمينة جدا، وجديرة بالتشجيع، والتنمية، كائنة ما كانت، ولا ينبغي إهمالها، ولا تجاهلها، سواء كانت فنية، أو أدبية، أو علمية. فالإنسان الموهوب، أكثر فائدة لنفسه، ومجتمعه، من ملايين البشر، ممن لا يتمتعون بالموهبة. فمن غير المعقول معالجة الملفات السياسية، بدون ركائز ترتكز عليها. والثقافة للناس أشبه بالسلاح للمقاتل الذي يمنح لصاحبه معنى من القوة والمتعة لا يجده في غيره.وعندما نرتبط بهذه الثقافة فإننا سنهتم بها وقد لا نرقى إلى مرتبة الأجداد لكن مما لاشك فيه أننا على الأقل سنفتح أعيننا لنشاهد خفايا الغزو الذاتي, بعدما تولي زمن الغزو التقليدي.
الهوامش
1ـ) الكتب
محمد عنبر: جدلية الحرف العربي,دار الفكر المعاصر الطبعة الأولى, 1408 ها 1987 م أ.د. عبد الكريم بكار:تجديد الوعي, دار القلم, الطبعة الأولى, 1421 ها ـ 2000 م الدكتور عبد العزيز التويجري: مستقبل اللغة العربية,منشورات المنظمة الإسلامية للتربية الثقافة والعلوم ـ ايسسكوـ1425هاـ2004 م.
كتاب الأصالة: محاضرات ملتقى الفكر الاسلامي التاسع عشر لجزء الأول الجزائر 1405 ها ـ 1985 م.
معرفة الله:دلائل الحقائق القرآمية والكونية, المرابط ولد محمد لخديم,تقديم الدكتور حسين عمر حمادة,رئيس قسم البحوث باتحاد الكتاب العرب بدمشق,تصدير,الأستاذ الجليل حمدا ولد التاه,الطبعة الأولى دار الوثائق دمشق,2001م,الطبعة الثانية,دار وحي القلم,بيروت لبنان سنة 2002 م,حاصل على جائزة شنقيط للدراسات الاسلامية,سنة 2003م.
المجتمع الفضفاض,محمد محمود ولد سيدي يحي طبعة أنواكشوط 2001م.
2ـ) المجلات والجرائد
التجديد: مجلة علمية فصلية محكمة, تصدر عن الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا, العدد الأول, رمضان ها1417/ يناير1997 م
الإسلام اليوم: مجلة دورية تصدرها عن ـ ايسسكوـ العدد 19 السنة 1423هاـ2002 م
الموكب الثقافي: الجمعية الوطنية للتربية والثقافة والعلوم: العدادان 4.5 مايو 1996م
الشعب: الوكالة الموريتانية للأنباء، العدد: 8403 إبريل 2006م.