أدرك أن الجزء الأكبر من نخبة الرأي في البلد مشغول هذه الأيام بتحديد التموقع المناسب له على الخريطة السياسية في ظل الانتخابات المرتقبة هذه السنة.
كما أدرك أن عددا أكبر من الرأي العام جعل من متابعة المحاكمة التي انطلقت وكواليسها همه الرئيس.
لكن آمل أن أجد من بين القراء من يوافقني الرأي في أن الانتخابات المرتقبة حدث تقليدي لا يختلف كثيرا عن انتخابات كثيرة سبقته، وأن المحاكمة التي بدأت شأن قضائي لا تدخل في دائرة تأثير المواطن ولو كان من نخبة الرأي.
وإذا وجدته دعوته إلى التفكير معا، بصوت عال، في شأن مستقبل وطننا، من منظور يتجاوز طاحونة الأحداث اليومية، ويهدف إلى تحديد الرسالة الخاصة بهذا الوطن والرؤية العامة المجسدة للإنجازات الأكثر أولوية بالنسبة له والتي يجب أن يسعى لتحقيقها في الأمد المتوسط (من نحن؟ وما ذا نريد؟)، مستحضرين كون هذا الوطن جزءا من مجموع، هو أمة الإسلام ككل.
ولا إطار زمني لذلك المجهود الاستشرافي أقل من الأمد المتوسط، ويناسب تحديدا ربطه بالاستحقاقات الرئاسية نظرا لمحوريتها وتأثيرها في الشأن العام في ظل نظام جمهوري رئاسي.
لذلك فإن العمل على رؤية للأمد المتوسط في أفق 2029 يبدو مناسبا كن الناحية العملية.
وكمنطلق للتفكير والاستلهام والاسترشاد فإن لدينا برنامج (تعهداتي) لرئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي يمثل، قبل قيمته السياسية كمشروع زكته غالبية الشعب الموريتاني، وثيقة ذات قيمة علمية وعملية كبيرة، بوصفه يجسد رؤية كفاءة وطنية لها عمق أكاديمي في علوم الاستيراتيجية، ووصلت إلى التقاعد بعد مسار طويل في مراتب قيادية عليا في الدولة.
ثم إن لدينا كذلك البرامج الانتخابية (المشاريع المجتمعية) التي قدمها أربعة من المترشحين الآخرين لرئاسيات 2019 الماضية، أصحاب كفاءات وطنية عالية، سياسية وعلمية، ومن بينهم معالي السيد سيدي محمد ولد بوبكر، كوزير أول سابق قاد أول حكومة في العهد الديمقراطي سنة 1992، وفي المرحلة الانتقالية سنة 2005، وكان قد وصل لتوه بعد مسار طويل في مراكز القرار في الدولة والتأثير في علاقاتها الدولية.
كما أن لدينا أيضا وثيقة استيراتيجية تنموية مهمة، يتزامن أفقها التخطيطي (2030) تقريبا مع موعد الرئاسيات المذكورة لسنة 2029، وهي استيراتيجية النمو الشامل والرفاه المشترك 2015-2030.
وقد نجحنا إضافة إلى ذلك في بلورة جملة من الاستراتيجيات القطاعية، تم تحيين غالبها خلال الفترة الأخيرة.
فهذه إذن جملة منطلقات وشواخص محددة، تسمح بدعوة القارئ الكريم الذي يتوسم في نفسه الاهتمام والأهلية الكافيين لذلك للتفكير معا حول هذا الموضوع.
وتجدر الإشارة إلى أننا تعودنا في واقع عملنا الفكري أن تكون لنخبة الرأي في البلد أطر ومرجعيات متباينة للتفكير، مثل: مرجعية الموالاة، مرجعية المعارضة، مرجعية الاستقلال، مرجعية الاعتزال للسياسة أصلا، ...الخ.
فجسدنا نوعا من التماهي بين العمل الفكري والعمل السياسي، ولعلنا نحتاج إلى أن نتوقف ونسأل أنفسنا: هل يلزم فعلا تمايز أطر التفكير بتمايز الأطر السياسية؟
أم هل ليمكن لنخبة الرأي أن تجد حلا إبداعيا، لتوحيد إسهامها الفكري أولا ثم العملي بعد ذلك، رغم تمايز الأطر السياسية التي اختارتها.
ألا يمكن أن تتمثل بوادر الحل المطلوب مثلا في:
١- الانتباه إلى أن تفكير النخبة ينبغي أن لا يكون مرتبطا أصلا بإطار سياسي معين، بل هو تفكير مجرد؛ يبدأ من الرسالة (مجال تركيز الأولويات مع استحضار التكامل مع العالم من حولنا) والرؤية (المكتسبات الطموحة الممكنة) المناسبتين، قبل الوصول إلى الإسهام في بلورة الخطط والمقترحات العملية التفصيلية.
٢- الخروج من الارتهان للإطر السياسية، والتفكير الموازي لها؛ مما يمكن نخبة تبنت هذا المسار أن تمثل قوة اقتراح وإثراء للعمل الاستيراتيجي والتشغيلي المطلوب: على مستوى التشخيص وتقديم الحلول.
قوة اقتراح تبرز مواضع الإجماع، وتحول الخلاف حيث بقي إلى تنوع مقبول في المقاربات والمعالجات لا يفسد للود قضية.
٣- كما يمكن لمثل هذه النخبة، على المستوى العملي، أن تعمل كقوة مناصرة ودعم واعيين موضوعيين لكل الجهود التي ترى فيها المصلحة العامة للبلد أينما كان مصدرها.
أقدم هذا الطرح للقراء الكرام، وإن شئتم سميتموه معي مبادرة فكرية نخبوية، مساهمين في أن نعيد للإسهامات الفكرية للنخبة دورها ومحوريتها، وإلى كلمة "مبادرة" بعض معانيها الأصلية الجميلة.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
المختار ولد كاكيه