من الصعب أن يوفق الإنسان في كل شيء. لقد عرفت البلاد شخصيات نحتت أسماءها بأحرف من ذهب في سجل التاريخ. ولقد تنوع أولئك الرجال في عطائهم ومناهجهم والمسارات التي اعتمدوا؛ فمنهم من أبدع في العلوم الدينية ومنهم من أبدع في الشعر وفي ميادين ثقافية شتى. ومنهم من أبدع في
السياسي، فسطر النضال لتوجيه البلاد إلى ركب الديمقراطية والتقدم. رفضوا الظلم، ورفضوا الدكتاتورية؛ رفضوا تكميم الأفواه وتعطيل الحريات، فناضلوا، وضحوا بالغالي والنفيس لتطبيق المساواة، وحرية التعبير؛ ولتجريم العبودية والقضاء على آثارها؛ وللتناوب السلمي على السلطة، وليعتمد منهج الحوار والحكمة لحل فتيل الأزمات بدل العنف والصدام.
وبالرغم عن نضالات أولئك الشجعان، والتقدم البارز الذي عرفته البلاد في مجال الديمقراطية وحرية التعبير، فإنه لا يزال الكثير والكثير يعترض تنمية البلاد، وولوجها ركب الدول المتقدمة اقتصاديا وديمقراطيا. لا زالت موريتانيا حديثة العهد بالانقلابات، ولا زالت الحقوق المدنية بحاجة لتحقيق المزيد من العدالة والمساواة بين المواطنين؛ ولا تزال الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية تتربص بهدوئنا واستقرارنا محاولة قلب سفينتنا وإغراقنا في الصراعات والصدامات وعدم الاستقرار؛ ولا زالت العبودية تحصد في الأبرياء وتهدد وحدة الوطن. ولا زلنا بحاجة لإنجاز الكثير والكثير، مما يستوجب منا اللجوء لعبقرية آباء النضال، ومواقفهم الشجاعة وحكمتهم الخلاقة.
إن البلاد اليوم تعيش في أزمة تنذر بالأسوء إذا لم يتعاطى الجميع كأس الإخاء ويركن للغة المشاورة والعقل بعيدا عن التخندق السياسي الضيق وتقليب المصلحة الخاصة على مصلحة الوطن.
ورغما عن ما يقوله النظام عن إنجازاته، والفتوحات التي حقق، لا تزال الأزمة تراوح مكانها، وكل ما تم تحقيقه لم يؤدي لحلها ولا لتحقيق الألفة بين الطيف السياسي الذي بلغ الخلاف بينه مستوى من الغليان ينذر بحرب سياسية قد تدمر كل شيء، وتزيد الهوة اتساعا، والأمور مأساة.
لم يعد أحد يطمئن لتأجيل الاستحقاقات، والأفق يكاد ينسد، ولا آجال اتضحت لإجراء أي انتخابات، حتى أن التخوف أصبح ينتاب الجميع من احتمال تأجيل الرئاسيات.
اليوم، وبعد مضي قرابة السنتين على انطلاق الإحصاء الشامل للسكان، بالكاد تم تقييد نصف الموريتانيين، فيا ترى، متى سيقيد الجميع لو استمر الإحصاء على ذات الوتيرة؟ وكم سيستغرق من الوقت بعد انقضاء الإحصاء لحصول كل مواطن بالغ التصويت على بطاقة تعريفه؟ ثم كم من الوقت يكفي لإعداد اللائحة الانتخابية؟ وكم من الوقت يكفي لسحب بطاقات الناخب، إضافة لفترة الحملة الانتخابية؟ يبدو بديهيا أن الانتخابات الرئاسية ستتأجل، وأن أي استحقاق سواء كان شيوخا أو بلديات أو نيابيات لن يكون ممكنا قبل نهاية سنة 2014 على أقل تقدير، إن لم يتأجل عن ذلك لغاية 2015.
سيبدو الأمر غريبا أو مبالغا فيه لدى البعض، ولكن الحساب البسيط، والتوقعات البديهية، المؤسسة على تباطئ الإحصاء وقلة وسائله وانعدام موارده وكذلك غياب الإرادة الصادقة لتسريعه، يوحي ببساطة أن الانتخابات مستحيلة الإعداد خلال سنة 2013 وستكون عسيرة الإعداد قبل نهاية 2014.
نحن اليوم في بداية شهر إبريل من سنة 2013، والباقي من السكان الذين لم يتم إحصائهم حتى الآن يناهز المليونين؛ وعلى امتداد قرابة السنتين لم يحص إلا نصف السكان، حيث لا يقل الموريتانيون اليوم عن أربعة ملايين نسمة، فكم سيكفي إذا من الزمن لإحصاء ما تبقى، علما أن المتبقي، من لم يتم إحصائهم بعد، هم أولئك الموجودون في المناطق النائية والتي لا يوجد بها الانترنت، والإحصاء قيد أصلا به؟
لنفترض أن وتيرة الإحصاء تسارعت، وأنه أمكننا إحصاء باقي السكان في سنة بدل سنة ونصف، سنكون عندها في شهر إبريل من سنة 2014. ثم لو استمر سحب بطاقات التعريف وتوزيعها أربعة أشهر إضافية، لكنا حينها في شهر سبتمبر 2014. ثم لو استغرق التسجيل على اللوائح الانتخابية مدته القانونية (ثلاثة أشهر) لكنا حينها شهر نوفمبر 2014، وبالبساطة نجد أنفسنا في نهاية 2014 لإعداد الانتخابات النيابة والبلدية والشيوخ، ولن يبقي من نهاية سنة 2014 وقتا كافيا لإعداد الانتخابات الرئاسية، فتتأجل طوعا أو كرها إلى سنة 2015.
لن يستطيع البلد أن يتحمل استمرار الأزمة في ظل انقضاء جميع المأموريات الانتخابية، وعدم وضوح أي أفق لتجديدها. ويتأكد بجلاء، أننا بحاجة لمخرج، وأنه أصبح لزاما علينا أن ننظر للواقع نظرة موضوعية وشجاعة تمكننا من استقرائه قراءة صحيحة، واتخاذ ما يجب للتصدي لمخاطر الانزلاق. إن الوضع السياسي أصبح خطيرا، تطبعه لا شرعية المؤسسات الدستورية. البرلمان منتهي الصلاحية والبلديات كذلك ومؤسسة المعارضة لقيت نفس المصير، والانتخابات لم تتحدد ملامحها بعد؛ ووهم وشَكِ الانتخابات لم يعد يغري أحدا.
لا توجد اليوم أغلبية ولا توجد أقلية، فالأغلبية انتخبت لأربعة سنوات وانتهت مأموريتها، وكذلك الأقلية، لم تعد أقلية هي الأخرى. الحكومة فاقدة المصداقية لا طعم لها ولا رائحة، تكاد لا تحس بها ولا ترى إلا ظلال أشباحها. والشعب يترقب في غمرة الخيبة، والتململ والنكد آخذ منه مبلغ الجهد، وأصبح على حافة الانفجار. والهدوء خداع يكاد يصعق بهيجان دمَّار، لن يبقي على سلطان ولا على ظلال.
لا مناص، إن الحتم حل، وإن الخيار يكاد يرفع، فاختر لنفسك قبل فوات الأوان، أي الدارين تختار. إما الحكمة والتعقل والبصيرة، إما السير بالمكابرة والتخبط وتراكم الأزمات. ليس النجاح أن تحكم وتتأمر، بل النجاح أن تنجو بجلدك من الحكم، وأن تذكر بعده بخير. حكم قبلك المختار ولد داداه، وتحكم قبلك توسيسكو، وحكم قبلك مانديلا، وتحكم قبلك القذافي وكل ترك في الغابرين ذكرى، فأي الأذكار تختار. أنا أختار لك الأفضل، فهل لنفسك تختار؟ سيكون عسيرا عليك الاختيار إن أصغيت للمرجفين في القصر، الذين لا صاحب لهم ولا عدو، ولا هم لهم إلا جيوبهم، ولا يعرفونك إلا ما دمت في الحكم، فاسمع لضميرك ولشجاعتك، وقرر كما فعلت 2005، لما أنهيت الاستبداد بعدما كاد يستسلم له الجميع.
أنا اختار لك أحسن اختيار، إذ لا مناص من احد الاثنين: إما السير في المسار الخاطئ وسيؤدي للانهيار، حيث السير على شفى جرف هار. تمضي في تأجيل الانتخابات؛ استحقاق بعد استحقاق، وفي سبيل التسيير الأعمى وتصفية الحسابات بين الأهل والأعداء. تستأثر بالحكم أي ما استئثار فلا تشرك فيه قريبا ولا جارا. فتتكدس الأزمات وترتفع الأسعار ويزداد صف الفقراء حتى يبتلع الطبقة الوسطى ويبتلع كذلك طبقة الأغنياء. ليس هذا ما يليق بك ولا بموريتانيا. وإما أن تشبث بشجاعتك، أنت شجاع لا يكابر في ذلك مكابر، فلولا شجاعتك لا نتصر الرّصاص؛ فتعد الحسابات، وتركن للغة التشاور الحوار. ولنأتي إلى كلمة سواء، تخرجنا من أتون الأزمات والصراع، وتبعث لدى الجميع الاطمئنان.
لنتداعى إلى حل سواء، فنركن لنداء العقل والحكمة والتجربة، ونلجأ لحكمة حكيمنا ومجربنا، ومخلصنا من الأزمات؛ نلجئ لمبادرة رئيس جمعيتنا الوطنية، السيد مسعود ولد بلخير.
إن الرجل قدم تحيلا عن وضعية الوطن بأرقى ما يمكن أن يكون من أسلوب وموضوعية. قدم مبادرة، هي في واقعها ميثاق تأسيسي شامل يضع لبنة قويمة لما يجب أن تكون عليه البلاد. جاءت مبادرته في نص قويم، شخص الوضعية العامة بنزاهة وموضوعية، وخلص إلى أن البلد في أزمة متفاقمة، قد تصل لما لن تحمد عقباه، إن هي لم تتدارك وتحل. إن الرجل بادر بالحل إبان انقلاب 2008، فلم نكترث كثيرا، وبعدها بقرابة سنة من النضال والمشقة في مواجهة الانقلاب، وبعد ما عيي الجميع رهقا وحارت العيون خوفا من المجهول، جاء اتفاق دكار بمبادرته دون زيادة ولا نقصان. ليست وضعية البلد السياسية ولا الاجتماعية ولا الاقتصادية بالمطمئنة ولا تتمايز كثيرا عن ما كانت عليه إبان أزمة الانقلاب. فالأفق السياسي مسدود وكل المأموريات تقادمت، وتوشك المأمورية الرئاسية أن تتقادم قبل حلول أي استحقاق انتخابي. والوضعية الاقتصادية غير مطمئنة وتنذر بانفجار خطير، البطالة مستشرية والأسعار مرتفعة، والقوة الشرائية متدهورة، والفقر يزداد، والبؤس يكاد يودي بالجميع، ولم يعد الوضع يتحمل أكثر ولن يتحمل؛ وأصبحنا على شفا جرف هار.
إن مبادرة الرئيس مسعود هي خلاصك يا هذا! لا يمكن أن تحكم لغاية 2015 ببرلمان منتهي الصلاحية، وببلديات منتهية المأمورية، وبحكومة فاقدة للمصداقية لا لون لها ولا طعم بها ولا رائحة، ولم تعد تنفعها الرتوش ولا اللمسات.
إنه لا مناص من التشاور بين الفرقاء تدعيما للحوار، وإثراء لما أنجز. ولنتفق على حكومة تدير الوقت الإضافي، وتخلصنا وإياك من الشحناء وشح النفوس، ونأمن بها تحولنا السلمي إلى الديمقراطية.
إننا اليوم بأمس الحاجة لحكمة حكمائنا ولشجاعة شجعاننا. وإن لنا من حكماء وشجعان ومواهب أثبتت عبقريتها ونضالاتها وحبها لوطنها ما يستوجب منا اللجوء إليها وتحكيم حكمتها لإخراجنا من دوامة الأزمات التي أرهقتنا.
إن من الشجاعة والحكة أن نتدارك الأمور قبل فوات الأوان. إنه عليك يا رئيس الجمهورية أن تتشبث بشجاعتك، أنت شجاع لا يكابر في ذلك من كان، فلولا شجاعتك لما وصلت المستشفى ولما قمت من الفراش، وأن تعيد النظر في الأمور من حولك، وتتلافاها قبل أن تؤول للأسوء. وإنه عليكم يا زعماء المنسقية وأبناء البلد الأبرار أن تعلموا أن الترحيل بالعنف القيصري والمواجهة قد يودي بالجنين (موريتانيا).
لن يرحل ولد عبد العزيز قبل انتهاء مأموريته ولو اعتصمتم ألف اعتصام، فالرجل جسور يعشق التحدي، ولم يبق من الوقت ما يستحق الرهان. فدعوه ينهي ما تبقى من مأموريته حتى تغيض الأرحام بسلام. إن ترحيل القسري لا يمكن أن يكون إلا بالعنف، والنماذج التي نرى من عنف الثورات العربية وما خلفت من أموات وأرامل وأيتام ومتشردين وتدمير للبنى التحتية والممتلكات، ليس بديلا لمشاكلنا ولا حلا سليما يرضى به عاقل. ليس الحل في اللامبالاة والمكابرة بالداء، وليس الحل بالترحيل القسري ولا في التوليد العنيف. إن الحل هو ذاك الذي جاءت به مبادرة ذلك المخلص لوطنه المحب لبلده، ذلك الرجل الذي سبقت له السعادة وانحدر من الخير، السيد مسعود ولد بلخير.