ما زلت حتى الآن أتذكر فاجعة سقوط بغداد، وكأنها حدثت في هذا اليوم الذي يصادف ذكراها العاشرة، وما زلت أتذكر على وجه الخصوص مراسل الجزيرة "ماهر عبد الله" رحمه الله، وهو يغطي ـ وبشكل مباشر ـ تفاصيل حدوث الفاجعة على شاشة الجزيرة.
لقد أدهشني في ذلك اليوم "ماهر عبد الله" رحمه الله، وأحسست بأنه كان يتحدث نيابة عني وعن الملايين من المحبطين الذي كانوا يتابعون سقوط بغداد بمرارة وبألم وبحيرة وبذهول أيضا، ودون أن يكون بإمكانهم أن يفعلوا شيئا سوى الاستمرار في متابعة "ماهر عبد الله" رحمه الله وهو ينطق بكلمات عفوية، لكنها كانت تقطر ألما وخيبة وإحباطا.
كان "ماهر عبد الله" رحمه الله على مستوى الفاجعة في ذلك اليوم، ولا أنسى كلماته وهو يعلق ساخرا على إسقاط أكبر تمثال لصدام حسين رحمه الله في بغداد، وهو التمثال الذي كان إسقاطه يحتاج أيضا لتدخل الجيش الأمريكي بعد أن استنجد به بعض العراقيين الذي حاولوا إسقاط التمثال ففشلوا في ذلك.
من قبل ذلك، وفي نفس اليوم ظهر "صدام حسين" رحمه الله في حي الأعظمية بشمال بغداد والتف حوله عدد من العراقيين الذي كانوا يرددون ـ وبحماس ـ "نفديك يا صدام"، وكانت تلك العبارة تنبئ بقرب الكارثة.
لم يكن المهم هو حماية العراق ولا بغداد بل كان المهم عند أولئك هو شخص "صدام". ومن قبل ذلك بسنوات، وتحديدا في العام1995 أسس "عدي صدام حسين" ما عُرف بفدائيي صدام، والذين تضخم عددهم كثيرا قبل سقوط بغداد، والمصيبة أننا لم نسمع يوما عن فدائيي العراق و لا عن فدائيي بغداد.
حتى المعركة التي سبقت سقوط بغداد كانت تختزل شيئا من الكارثة. كانت المعركة تدور وبشراسة في مطار صدام أو في مطار بغداد. كان "الصحاف" يسميها معركة مطار صدام، لأن كل شيء في العراق كان يختزل في شخص صدام. أما أمريكا فقد سمتها بمعركة مطار بغداد، وفي ذلك خدعة كبيرة أرادت من خلالها أمريكا أن توهم بعض العراقيين بأنها قد جاءت لتقيم دولة مؤسسات، والحقيقة أن أمريكا إنما جاءت فقط لكي تقيم دويلة طوائف سيظهر فيما بعد بأنها أسوأ بكثير من دكتاتورية "صدام حسين" رحمه الله.
لقد تم اختزال العراق، كل العراق، في شخص صدام، وكان ذلك يكفي لوحده لأن تحصل كارثة. ومما يؤلم حقا أن "صدام حسين" رحمه الله ظل يستجيب لكل شروط ومطالب أمريكا : برنامج النفط مقابل الغذاء، تدمير السلاح العراقي، إعطاء لائحة بأسماء العلماء العراقيين، وهي اللائحة التي ستسلم فيما بعد للموساد لتولي تصفيتهم واحدا بعد الواحد. ولكن ما إن وصل الأمر إلى المطالبة بتخلي "صدام" عن السلطة، حتى بدأت التنازلات تتوقف، ليبدأ من بعد ذلك الحديث عن الخطوط الحمراء. وفي الدكتاتوريات يمكن دائما أن تتم التضحية بالبلد من أجل بقاء الكرسي، ولكن لا يمكن أبدا التضحية بالكرسي من أجل بقاء البلد.
سقطت بغداد، وقبيل سقوطها ظهر "الصحاف" وهو يعلن في آخر مؤتمر صحفي له بأن الأمريكيين ينتحرون الآن بالآلاف، ولم يكن "الصحاف" يعلم وقتها بأنه قد بقى وحيدا في ساحة المعركة يحارب بخطاباته وبمؤتمراته الصحفية المثيرة.
تبخر الفدائيون، وتبخر الجيش العراقي العظيم، وتبخر الحرس الجمهوري الذي كان يقال لنا بأنه سيبدل وجباته الغذائية بوجبات من لحوم الجنود الأمريكيين،. تبخر الكل فجأة، وانكشفت أسوار بغداد، ولم يبق في ساحة المعركة إلا بعض المتطوعين العرب الذي اختاروا الشهادة بدلا من الاستسلام أو الهروب.
سقطت بغداد بعد أيام معدودة من الحرب، فكانت الفاجعة التي أذهلت الجميع، وأصابتهم بإحباط لا يزال يفعل بهم الأفاعيل.
سقطت بغداد لأن أمريكا الظالمة الباطشة جاءت بكل ما تملك من قوة لتدمر هذا البلد العظيم، وكان لها ما أرادت.
سقطت بغداد لأن المال الخليجي أنفق بكرم لتدمير هذا البلد العظيم، وكثيرا ما ينفق المال الخليجي لتمويل حروب أمريكا التي تستهدف العرب والمسلمين.
سقطت بغداد لأن "صدام حسين" رحمه الله استنزف كل خيرات العراق ومقدراتها في "قادسياته" الطائشة. فأعلن حربا قادسية على إيران، وأعلن حربا قادسية ثانية على الكويت، وظل يرفض أن يعلن حربا قادسية على الصهاينة الذي دمروا المفاعل النووي العراقي نهارا جهارا. ولم يقرر الرد عليهم إلا بعد عقد كامل من الزمن، وبعد أن أصبح الرد بلا تأثير وبلا معنى، فأطلق صواريخ معدودة في الوقت الضائع، للاستهلاك الدعائي والسياسي ليس إلا، وسيدفع "صدام" حسين رحمه الله للعدو أضعاف تلك الخسائر التي تسببت بها تلك الصواريخ.
سقطت بغداد لأن "صدام حسين" رحمه الله كان دكتاتورا وكان مستبدا، ولذلك فلم يكن غريبا أن تكون ردة فعل جزء كبير من الشعب العراقي بذلك السوء الذي شاهدناه يوم سقوط بغداد.
عراقي بائس يتعامل مع صورة "صدام حسين" رحمه الله بطريقة بائسة، ويفرح بوصول الدبابات الأمريكية إلى وسط بغداد.
كانت مشاهدة ذلك العراقي البائس وهو يفعل فعله البائس ذاك هي من أكثر الأشياء التي أغاظتني في ذلك اليوم، وما أكثر ما أغاظني في ذلك اليوم من مشاهد مؤلمة لم تندمل جراحها بعد.
ذُبحت بغداد في ذلك اليوم بالكثير من السكاكين، وضاع دمها هدرا بين عدد من الجزارين الذين لم يرحموها حتى عند الذبح.
وبطبيعة الحال فقد كان الوزر تتحمله أمريكا، وفي كل الجرائم التي ترتكب ضدنا كعرب وكمسلمين لا بد أن تكون أمريكا هي من يتحمل الوزر.
وكانت دول الخليج ـ وكعادتها ـ شريكا من الدرجة الأولى.
وقطعا فلم يغب أيضا "صدام حسين" رحمه الله عن المشاركة في فاجعة سقوط بغداد. سقطت بغداد في ذلك اليوم الحزين، وما زلنا إلى غاية هذا اليوم نعيش مرارة الفاجعة. وتبقى كلمة: رحم الله "صدام حسين" فرغم ما ارتكب في حق بلده من جرائم، إلا أن الله قدر له أن يغادر دنيانا كما يغادرها الأبطال، ويكفيه أن مئات الملايين شاهدوه وهو ينطق بالشهادة قبيل تنفيذ حكم الإعدام.
ورحم الله "ماهر عبد الله" فقد أدهشني في ذلك اليوم بتغطيته الاستثنائية لفاجعة كانت ـ وبكل المقاييس ـ فاجعة استثنائية.