مجمل ما يكتب في مواقعنا الألكترونية وصحفنا الإعلامية، يطغى عليه الطابع السياسي والدنيوي الصرف أو الثقافي العام، بينما يقل الحديث عن المواضيع الكبرى، التي حث عليها خالقنا جل شأنه في كتابه المحفوظ، القرآن الكريم.
ففي الوقت الذي ركزت فيه جميع سور كتابنا المعصوم، على مواضيع المصير والبعث والنشور و"فريق في الجنة وفريق في السعير"، وتذكيرا -بمختلف الأساليب المؤثرة-بموضوع البعث وضرورة الإستعداد، لهذا السفر النهائي المهمل، المجهول التوقيت "وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت". ومسألة بعث الرسل وردود الفعل المختلفة لدى المستهدفين، في مختلف الأحقاب والأزمان والأمكنة، وتفاصيل المنهج الرباني "ما فرطنا في الكتاب من شيء"، "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين".
إلا أننا ننشغل في معظم أوقاتنا بالبحث عن القوت وطرق جمع هذه الفانية الزائلة، ورغم عدم الفلاح في ذلك في أكثر الأحيان-أي في مهمة جمع هذه الدنيا-، لتكون المحصلة إهمال الإعداد والتزود لهذا السفر الخطير المصيري، مع الفشل في تحقيق المقاصد المادية، محل الجهد والتركيز، والتضحية بكل اعتبار تقريبا، في أغلب تلك التجارب والمتاعب الفارغة.
ونقرأ في سجلات كتابنا مرارا وتكرارا، مملا أحيانا، مشاكل السياسة والإجتماع والإقتصاد، وغير ذلك، ولا نكاد نلاحظ إلا لماما، حديثا مذكرا منبها، إلى ضرورة ترسيخ التوحيد والإعتقاد السليم والتهيئ الدائم، عبر تزكية النفس-لهذا المصير والمآل المحتوم- "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها".
إنها منازل، قدر الله أن ننزلها يوما، فأجدر بنا أن نتذكرها من حين لآخر، هذا السفر المهمل، وهذه المآلات الحتمية، -قبرا أو مرحلة البرزخ- "إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار"، ثم يكون تحديد المصير النهائي، بعد البعث والنشور، وعبور الصراط، ووضع الموازين القسط ليوم القيامة.
وإذا كان حمد النعم ضروري ومطلوب شرعيا، بإستغلالها في الاتجاه السليم، وتذكر أهمية ما نعيش من صحة وعافية في أبداننا وسائر أحوالنا، إلا أن التهيئ بإستمرار، لهذا الرحيل، أو الموت المحتوم، في غاية الإلحاح والأهمية، وجدير بنا أن نضع دائما هذه القضايا الكبرى نصب أعيننا. وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ".
إن تعامل –أغلبنا- مع موضوع نهاية هذا الجسم الفاني عبر الموت، وما يترتب على ذلك، من تنقل إلى محطات أخرى، يوحي بالغفلة العميقة عن الموت، فهو كما قيل "اليقين الذي يشبه الشك".
فلا داعي للغرور، فهذه الحياة، مجرد قاعة اختبار وابتلاء بمختلف صنوفه، من السراء والضراء، ولا نجاح بدون صبر كبير واحتساب وتوظيف حكيم حازم للنعم في المقابل، فلا تعدو حياتنا اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر، وفي حساب المؤمنين فرصة عابرة للإمتحان فعلا، وليكن الإلتزام بمنهج الإسلام، عنوان حرصنا وسعينا لكسب رضوان الله والجنة، والسلامة من سخط الله وعذابه، في نار لا قبل لأحد بالصبر عليها.
وا رحماك، اللهم أهدنا وأرزقنا الإستقامة وحسن الخاتمة والقبول عندك، يا أكرم الأكرمين، يا ذا الجلال والإكرام "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد."
"إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّاسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلاتَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ".
وإنها آيات وأحاديث ومواعظ من الصحابة والتابعين وغيرهم، كلها فرص لتعميق الإيمان وفهم الطريق إلى الله، ولعلنا نوقن فعلا أنها، مجرد قاعة امتحان مصيري خطير، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُممِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ". وقال جل شأنه: "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور". وقال سبحانه وتعالى في سورة الكهف: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاوإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ"، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: "الدنيا حلوة وخطرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت النساء"، وقيل في مواعظ الصالحين المتبلتين: "نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل"، ومن الحديث: "ألا إن الدنيا عرض حاضر بأكل منه البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق ويقضي فيه ملك قادر، ألا و إن الخير كله بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار، ألا فأعملوا وأنتم من الله على حذر وأعلموا أنكم معروضون على أعمالكم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره".
وقال الشاعر في هذا المعنى مما أورده الحافظ النووي رحمه الله، في كتابه رياض الصالحين:
إن الله عبادا فطناء
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحي موطنا
جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا
أين مواظبتنا على الصلاة في مواقيتها وبيوت الله، أين حرصنا على "ترموتر"، إيماننا زيادة وتصاعدا وتمكينا للشهادتين، أين مراقبتنا لأعمالنا وإخلاصها ومطابقتها للسنة، وأين سهرنا على برور الوالدين وحقوق الأزواج والأطفال والجيران والأرحام؟. أين الإنفاق -مهما قل- دون إتباعه بالمن والأذى؟ "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى"، أين صومنا دون غيبة ودون لغو مع التزام شروط صحته وآدابه وأجوائه الإيمانية، أين الغضب في الله، والنصرة في الله، والجهاد في الله، قصد تحرير الأرض والعرض، في فلسطين وغيرها، من ديار المسلمين المغتصبة المستعمرة، أين الحج المبرور وعمرة "بلا سياحة جنسية"، أو مبالغة في التجارة على حساب المقصد الأصلي الأولى والأحرى؟؟؟، أين وأين، مما ينبغي أن يكون شغلنا ومكب اهتمامنا في الليل والنهار، قبل فوات الأوان وانقطاع فرصة الحياة، والرحيل إلى ساحة المحاسبة والتمحيص.
قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"،
وفي خضم هذا الوجود المضطرب المتحرك على الدوام، حيث الميلاد –دخولا- إلى ساحة الإختبار، وموتا، إيذانا بالخروج المفاجئ غالبا، من ميدان الإمتحان.
فيجدر بنا أن نحمد ربنا حمدا كثيرا، ونستغفره كثيرا ونتوب إليه توبة نصوحا، مع رد الحقوق إلى أصحابها، ونستعد للرحيل، والمغادرة الحتمية لقاعة التمحيص.
فكم من صحيح مات من غير علة، وما أكثر الأخبار المنهية للحياة، على مختلف الصور والصنوف، فهلا انتبهنا، قبل فوات الأوان.
اللهم رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم، نبيا ورسولا، اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا.
إن حياتنا كلها، بما فيها، من مناشط، ولو نوما عميقا أو متعة حلال، لو وافقناها مع الشرع، سلوكا ومقصدا خالصا لوجه الله الكريم، لكانت كل ألوانها الفردية والجماعية، والنسكية والسياسية والمالية وغيرها، تحت قبة الإسلام الشامل الكامل.
فلنعتصم بحبل الله جميعا، ولنتذكر مهمتنا الواسعة، الإستخلاف، بالنيابة الإيجابية عن الله في هذا الكون العبرة، "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"، إنها أمانة ثقيلة من عبادته بالمفهوم الواسع إلى برور الوالدين، والقيام الصحيح الحازم على أمر الناس "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"، "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنهكان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما" وبكثرة تلاوة القرآن، وتدبره، والإحتكاك بروضات العلم والذكر، والصبر على أهله، تستجيب النفس، الغافلة المريضة للعلاج، لتتجه إلى مهمتها الحقيقية، النافعة دنيا وآخره وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَرَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُعَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْمَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَأَمْرُهُ فُرُطاً".
قال الله تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا"
وقال: "فأذكرني أذكركم وأشكروني ولا تكفرون".
وقال لقمان الحكيم: نصيحة لإبنه: "يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة كما يحيى الأرض بوابل القطر".
عسى أن تكون الحياة بين شكر النعمة واستخدامها حمدا وتعبدا لله، والصبر على الضراء احتسابا وتدبرا واتعاظا، في تقلب أحوال الحياة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ".
لنكون بموتنا مستريحين لا مستراح منهم، وما من صواب فمن الله وما من خطئ فمني.