تتعرض بلادنا منذ بواكير تاريخها السياسي الحديث لبروز الدور الذي تلعبه الشائعات السياسية في إدارة البلد وفي ما يجري فيه من حراك سياسي واجتماعي، فقد لعب تلك الشائعات دورا كبيرا أيام الإمارات بوصفها الوسيلة الإعلامية الأكثر وثوقا وانتشار، وككل العادات السيئة فقد نقلنا معنا هذه العادة إلى المدينة عند الاستقلال و احتفظت الشائعة بدورها خصوصا أن المجتمع المتمدن في بلادنا كان ضيقا جدا و تعامل مع الشائعة هو الآخر ..
و عند قيام تجربتنا الديمقراطية و في غياب آلية سياسية موثوقة للمحافظة على الحكم آنذاك ، تم اللجوء إلى تشويه الديمقراطية و إدخال آليات جديدة ترفضها الديمقراطية أصلا و تكافحها مثل القبلية و الجهوية و الفئوية ، و قد عمدت هذه الآليات إلى تفريغ الديمقراطية من محتواها كوسيلة لإدارة الاختلاف و تنمية البلدان ، و طريقة مميزة للحكم ، إلى وسيلة للسيطرة على القلوب و العقول في بلدنا بواسطة الرشوة و المحسوبية و تدوير الإشاعات ، فكا يكفيك في فترة ما أن تعد شائعة و تطلقها عبر وسائل معلومة لتعين أو تقال أو تضر أحدا أو تنفعه ، و كل ذلك لشيوع و نفوذ ما يسمى الشائعة السياسية . فما هي هذه الشائعة و ما هي تمحوراتها و ماهي وسائل تأثيرها ؟
الشائعة ( كما وردت فى موسوعة علم النفس للدكتور عبد القادر طه ) هي : عبارة عن خبر أو قصة أو حدث يتناقله الناس بدون تمحيص أو تحقق من صحته , وغالبا ما يكون غير صحيح , أو يكون مبالغا فيه سواء بالتهويل أم بالتقليل ) و تشرف على ترويج هذه الشائعات أجهزة و أشخاص مكلفون بذلك ، و لها تقنيات خاصة و دراسات تهتم بها و بمفعولها و تأثيرها . و قد تفطن علماء النفس لذلك في باكورة دراساتهم النفسية ففي أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها لاحظ عالما النفس ألبورت وبوستمان أهمية الشائعة والشائعة المضادة في التأثير في معنويات الناس وأفكارهم واتجاهاتهم ومشاعرهم وسلوكهم , ولاحظا أن الشائعات تنتشر أكثر في وقت الأزمات وفى الظروف الضاغطة أو المثيرة للقلق وفى فترات التحول السياسي أو الاجتماعي , ووجدوا أيضا أنها تنتشر حين يكون هناك تعتيما إعلاميا أو غموضا في المواقف أو كذبا معتادا على ألسنة المسئولين الحكوميين أو تضليلا متعمدا ومعتادا عبر وسائل الإعلام المختلفة . , و إذا نظرنا إلى ما تمور به بلادنا من شائعات منذ تعرض الرئيس محمد ولد عبد العزيز لطلق ناري و من شائعات مضادة ، يجد ذلك ناتجا عن حاصل المعادلة و الذي تشكل طرفاه من موضوع شديد الأهمية و غاية في الغموض ، فالموضوع يتعلق بصحة الرئيس و ما شهده من غموض و تعتيم إعلامي فمنذ الأربعة و العشرين ساعة الأولى و التي شهدت تصريحين لوزير الاتصال و الرئيس نفسه ، لم تقدم الحكومة خبرا رسميا عن صحة الرئيس و لا عن مكان تواجده و لا عن إدارة البلد ، و لا كيف تسير أمور الدولة ، فوفر ذلك مرتعا خصبا للشائعات ، فشهد منحناها تصاعدا لم يسبق له مثيل و تدرجت من قدوم الرئيس في وقت قريب و حتى موته اكلينيكيا ، و لم تتورع وسائل الإعلام المحترمة عن التعاطي معها و ترويجها ، و كذلك الشخصيات المسئولة و القيادية في البلد و في مختلف الأطراف روجت و تفاعلت و تعاطت مع هذه الشائعات و كل ذلك يدخل في دوافع إطلاق الشائعات و التي من أهمها :
1-العدوان : تجاه الشخص المستهدف بالإشاعة وذلك لتشويه سمعته أو تغيير موقف الناس منه , وهذا يحدث كثيرا تجاه أصحاب النفوذ والسلطان حين تطلق عليهم شائعات بالسرقة أو استغلال النفوذ أو الرشوة أو الخيانة . و كثير هذا النوع من الشائعات في بلادنا و يتم استغلاله سياسيا و اجتماعيا دون التثبت و دون التحقق من الأمر ، و لعل اتهام الدولة للوزير الأول السابق يحيى ولد أحمد الوقف خير دليل على النوع من الشائعات ن فمع أن الدولة تمتلك الآليات للتحقق من الأمر و إنارة الرأي العام حوله ، فلم تعمد إلى ذلك و أخذت تتعامل مع الموضوع كإشاعة و بطريقة ابتزازية تنطلق من بوصلة توجه الحزب الذي يرأسه ولد الوقف .
2- الإسقاط : وذلك بأن يسقط مروج الشائعة ما يضمره في نفسه على شخص آخر أو أشخاص آخرين , فمثلا هو لديه ميول للكذب أو الخيانة أو الرشوة أو التضليل فيسقطها على الآخرين .و هذا النوع من أخطر الشائعات حيث يتم تعميم أي عمل مرفوض و ينبذه المجتمع على الناس جميعا ، مثل أن جميع الموريتانيين مرتشون ، و جميعهم جهويون و لا يؤمنون بالدولة ، و كل هذه التعميمات ناتجة عن حالة يحسها المتكلم في نفسه فيعممها على الجميع .
3- التنبؤ : حيث تشير الشائعة إلى احتمالات مستقبلية يعتقد مروج الشائعة في قرب حدوثها , وهو يهيئ الناس والظروف لاستقبالها و تنطلق هذه الشائعات ما يحلم به المجتمع و ينتظره فيقوم دائما بصياغة شائعات حوله ، و قد تكون رواسب من العقل الجمعي أو القضايا الغيبية .
الاختبار : وذلك بأن تكون الشائعة كبالونة اختبار لمعرفة نوعية وقدر استجابة الناس لحدث معين حين يقدر له الحدوث فعلا , فمثلا تسرب شائعة بغلاء أسعار بعض السلع , ثم تدرس ردود أفعال الناس فإذا وجدت معقولة ومحتملة ربما يتم فعلا رفع الأسعار وأما إذا وجدت غاضبة ومستفزة فيمكن تكذيب الشائعة واعتبار الأمر كأن لم يكن .و لعل هذا أكثر نوع من الشائعات في بلادنا حيث يختص به جهات معنية يقوم بترويجه و دراسة الاستجابات و أنواعها حوله ، و تستعمله الأجهزة الأمنية كثيرا ، و كذلك الأحزاب السياسية ، و كل المهتمين بجس نبض الشارع فبدل اللجوء إلى استطلاعات الرأي و الاستبيانات العلمية ذات النتائج الواضحة و العلمية الموثوق منها ، يعمدون إلى الشائعات كنوع من اختبار و جس نبض المجتمع لمعرفة ردود أفعاله .
جذب الانتباه : حيث يبدو مروج الشائعة أو ناقلها على أنه عليم ببواطن الأمور وأن لديه مصادر مهمة للأخبار لا يعرفها بقية الناس , وربما يكون هذا تعويضا عن نقص أو عدم ثقة بالنفس . و لعل أكثر من يستعمل هذا النوع من الشائعات في بلادنا هو وسائل الإعلام بمختلف مشاربها و توجهاتها . فمن أجل أن تبرز مؤسسة إعلامية قربها من مراكز القرار و معرفتها ببواطن الأمور تنسج شائعة و تروجها تعطي انطباعا معينا عن قربها من أشخاص معينين هم المعنيون بهذا الأمر و قد تريد خدمتهم من خلال تلك الشائعة متناسية أنها تضرهم من حي لا تريد ، و لعل من أعرب هذه الشائعات ما روج أخيرا عن لقاء في الرئاسة بين الرئيس محمد ولد عبد العزيز ، و الرئيس السابق أعلي ولد محمد فال ، و رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو ، و هي شائعة تسعى لتسكين الغضب الذي يشعر به المحيطون بالرئيس و القريب من الطرفين ، و كذلك تترك رسالة للمعارضة التي ساندت ولد بوعماتو بأنه يمكن في أي لحظة و بواسطة الأهل و الأقارب ان ترجع المياه إلى مجاريها بين الرجلين .
في معمعان هذا الكم الهائل من الشائعات بأنواعها التي تمور بها بلادنا و يتعاطاها الناس أكثر مما يتعاطون الحقيقة ، و تأخذ حيزا كبيرا في أحاديث الصالونات ، و يتخصص فيها جوالون على المكاتب يروجونها و يشذبونها و يتبلونها حتى يمكن للمواطن البسيط أن يستسيغها دون التأكد منها و لو من منطقيتها أو تاريخها .
و لعل أهم هذه الشائعات و أخطرها التسريبات التي نشرتها بعض المواقع الالكترونية أخيرا و التي يسمع فيها حديث بين الرئيس محمد ولد عبد العزيز و شخص من العراق – حسب هذه المواقع _ و يتحدثان فيها عن صفقة مشبوهة و هذه الشائعة بدأت بتصريح لنويل مامير في فرنسا تم تصريح للمصطفي ولد الشافعي ذكر فيها أحداثا وقعت في أكرا تبعها تحقيق في موقع سينغالي ليأتي الدور على عميل مالي و من ثم تتلقف المواقع الموريتانية الخير _ التسريب ، فتقدم تسجيلات طالما تحدث البعض عنها و ادعى البعض حوزتها أو شرائها فتدخل المعارضة على الخط في صمت مطبق للجهات الرسمية فأخيرا يأتي تصريح خجول من الحزب الحاكم .
كل هذه الأحداث أدت إلى إرباك المواطن البسيط الذي لا يعرف حقيقة كل هذا ، و لا يجد تكذيبا أيضا من الجهات المعنية ، و في الجانب الخاص بإفريقيا فقد ألتزم الرئيس الصمت حتى الآن ، بدل سرعة ردة فعله عندما تعلق الأمر بنائب فرنسي و بالرأي العام الفرنسي و الدولي . في حين تم تجاهل الأمر عندما نشر في موريتانيا و عندما بدا الشعب الموريتاني يتفاعل مع الخبر ، و هو المفروض أن يوضح له الرئيس كل شيء و يعطيه تسويغات لما سمع و ما شاهد .
كل هذا يجعلنا في دوامة كبيرة ، فرغم أن الكثير منا يتشدق بحرية الرأي و باليد الطولى لوسائل الإعلام و للصحافة التي لا تفوتها شاردة و لا واردة ، بل قد تكتب عن ما لم يقع أصلا .. هنا نجد صمتا مطبقا من الأطراف الرسمية المعنية ، و كذلك ندرة في الخبر ، فكل الذين يروجون للقرب من مصادر القرار لا خبر لهم ، و كذلك من هو قريبون من المعارضة لا خبر لهم ، و يبقى المواطن الموريتاني البسيط ضحية التعمية من طرف الدولة و التسريبات و الشائعات من طرف المعارضة ، و ستختفي عنه حقيقة ما جرى في هذه التسجيلات كما اختفت عنه حقيقة ما جرى في الطلق الناري الذي تعرض له الرئيس ، و كما اختفت عنه حقيقة طلقات أخرى ربما لم يعلم بها أصلا .