الصحافة مهنة فريدة .. مهنة المتاعب لما لها من تأثير وسحر على أذهان العامة .. هذه حقيقة راسخة لا مراء فيها ولا جدال .. ؛ وهي رغم متاعبها مصدر للسلطة وللجاه وكم كان صادقا إبن خلدون حين قال : الجاه يورث المال ..!
كثيرون هم "الكتّاب " كثيرون بأقلامهم ، أوراقهم ، وبقايا التسويد التي لا تفارق ذيل مقالاتهم البالية ، كثيرون بأسمائهم الطويلة المركبة وبصورهم المثيرة للشفقة وهم يتسولون بلهجتهم المكتوبة رغيف اليوم .. ، إنهم يرضعون صاحبة الجلالة بثدييها ويسمونها في تشدق "حرة" ؛ إنهم النقيض تماما لأولئكم الذين يكتبون للناس ومع الناس ، أولئكم الذين يكتبون بعرق البؤساء ودماء الشهداء ، بآهات المظلومين ، وتنهدات المكلومين ، أولئكم قليل جدا ، وبحت أصوات غالبيتهم .
أنا ــ وأعوذ بالله من أنا ــ هاو مسكين ما زال يتخبط الطريق ، ويبحث عن فرص في الحياة ، منبهر بالتكنولوجيا ومسحور بعصارتها ، متابع ــ وهذا ذنب ــ بحكم الشوق والانتماء ، وبحكم الفضول المستحكم لكل ما ينشر ، أتلقفه ظمآنا وأبحث عن معنى .. ولا معنى لكل ما أضيع فيه الوقت كل يوم .. مقالات متكررة لنفس الأوجه ونفس السحنات ، تعيب هذا بدرهم وتمدح ذاكم بقنطار ، وقد "نزعت البركة" من كليهما .. ، لذلك فإن كل ما تقرؤونه آنفا أيها الأكارم ، أيها الفضوليون ، وطبعا أيها المتسولون ، ليس سوى خاطرة عابرة لهاوِ مسكين .. يتخبط الطريق . ولذلك أيها الأعزاء فإنني أرجو أصحاب "الأقلام السيالة" وذوي الحكمة والبصيرة أن يتغافلوا ــ مشكورين ــ عن هذه الأسطر.
تابع هذا الهاوي في الفترة الأخيرة الشد والجذب بين كل من رابطة الصحفيين الموريتانيين ونقابة الصحفيين الموريتانيين .. وهو خلاف جديد قديم ، قديم في وقوعه جديد في تفاصيله ونزوله عن المستوى الذي كان يجب أن يظل عليه حتى ولو تأبدت حالة الخلاف ، واستحكمت حلقاته .. ، والحقيقة أن هذا الخلاف ذكرني بأيام الإضراب الذي خضته وثلاثة من زملائي يوم كنا مذيعين بإذاعة موريتانيا ، وتم طردنا منها جهارا نهارا ، ولم نمنح حتى أيّ حق ! ؛ لذلك سادتي فإنني سأمر سريعا على تفاصيل سريعة صاحبت إضرابنا وفصلنا ، ونحن في "الفصل" بلهجة أهل الديار مقدًّمون وعارفون .
يوم قررنا أن نتقدم بعريضتنا المطلبية للإدارة مذيلة بنيتنا الإضراب إن نحن لم نتلق تجاوبا ، انسحب عنا بعض من الطاهرين من زملائنا وقد كانوا يتقدمون اللائحة تحمسا للحصول على حقوقهم وإثباتها .. كانوا يشعروننا بأنهم أكثر حرصا على إحقاق الحق وإنهاء حالة الصمت المخزي التي رانت طويلا وكثيرا على أروقة الإذاعة وقد بدأت هذه المؤسسة العريقة تلفظ أنفاسها الأخيرة .. فأخذنا لهم العذر وقلنا لعل ضنك العيش وصعوبة الحال غصبتهم على التزام الصمت ، وأكرهوا على تراجعهم إكراه من اطمئن قلبه للإيمان ..
فقلنا على الله المتكل ، واجتمعنا مساء ، أربعتنا وقد تحلقنا حول محمد ولد زين رابعنا الذي كان يحضر آخر نشراته في مساء السادس عشر من أكتوبر لعام عشر وألفين .. لقد تألق ولد زين في تلكم النشرة وكأنما كان يعلم أنها ستكون الأخيرة له في إذاعة الصمت ! . أتذكر جيدا أن رئيس تحرير من بين رؤساء تحرير الإذاعة الكثر اتصل بالمدير العام للإذاعة حينها محمدّو سالم ولد بوكه ، وسأله هل يستدعي لنا الشرطة ! ، فأجاب الأخير ــ مشكورا ــ بأن الأمر لا يستدعي ذلك .. ما زلت أضحك كلما تذكرت هذه الواقعة ، وأندم شديدا أنني لم أبادر بطلب ضابط الحرس المناوب في الإذاعة تقديم خدماته لرئيس التحرير المذكور عفا الله عنه .
بدأنا منذ تلكم الليلة نفهم أسطورة جحا مع العصا والجزرة وتم إبعادنا فورا عن جميع النشرات الإخبارية ..
اتصلنا بكل من النقابة والرابطة وسألناهما أن تقفا إلى جانبنا ، فكانتا تتعذران بالإنشغال .. ، الأخت النقابة أخرجت من بطنها مشكورة أحد أفراد مكتبها التنفيذي وكان النقيب حينها خارج العاصمة ، وقد بادر هذا العضو بأخذ زمام المبادرة من أجل التفاوض مع مدير الإذاعة لإرجاعنا لجدول النشرات ووضع أجندا للحل ، تنصفنا وتنصف سعادة المدير .. ، ووصل النقيب إلى نواكشوط وأكملنا مع الإثنين مشوار المفاوضات في أيامه الأولى .. لم نلبث أن اجتمعنا نحن أنفسنا بالسيد ولد بوكه المدير العام للإذاعة .. وكان صريحا معنا بقدر ما كنا معه .. ، لا توظيف ، ولا تعنيكم سياسة الإذاعة .
مشوار المفاوضات الذي بدأته النقابة منذ اليوم الأول انتهى بفصلنا فصلا تاما عن العمل ، ظهيرة الثاني من نوفمبر ، شهر أعياد الإستقلال المجيدة .. ، وظلت السيدة النقابة مصرة على مواصلة المشوار حتى تحقيق المطالب .. استمر المشوار ولم تتحقق المطالب ، أو لعلها تاهت من طوله ! ، ولو أنا أخذنا بما بلغنا من أحاديث كثير منها مثبت بأدلة لدخلنا شحناء مع بعض من آل النقابة .. لكننا آثرنا أن نتجاوز ، والله يحب العفو ..
الأقسى والأمر أننا أمضينا يومين كاملين نتسول المواقع الإخبارية أن تنشر خبر فصلنا ، وفعل قليل منها على مضض ..
لحد الساعة لا يعلم إلا القلة لماذا فصلنا ــ ولم أذكر أهمه هنا ــ ، ولا أتذكر أن وقفة احتجاجية نظمت من أجلنا .. ولا حتى تنديدا نصيا مكتوبا من قبل أي هيئة صحفية أو إعلامية .. كل ما لقينا من تضامن كان إما بمبادرات شخصية أغلبها على استحياء ، تنتهي بالتوصية ثم التوصية ، أن لا يعلمن أحد بأننا اتصلنا بكم ، وكأننا مصابون بطاعون معدِ لا دواء له .. أو مبادرات مشكورة من طرف زملاء وأساتذة أحسوا بالظلم الذي حاق بنا ، وكتبوا عن ذلك ، فلهم من شخصي المتواضع ألف سلام .
النقابة والرابطة ، كلتاهما أبلغناهما ، وكلتاهما كانتا على علم بتفاصيل التفاصيل .. و تعرفان ــ كمؤسستين ــ ما لحق بنا من أذى .. لكن، لعل ظرفا فرضهما على الصمت ، وما علينا إلا حسن الظن ..
قصتنا هذه مع الإذاعة كانت درسا تعلمت منه شخصيا أن المؤسسات النقابية في موريتانيا صور جامدة ، مهمتها حضور المؤتمرات ، وإلقاء الخطابات وتقاسم السفريات واللقاءات مع الشخصيات النافذة ، في موريتانيا وخارجها ، والأخيرة مربط الفرس .. ، فصل بعدنا كثيرون وأهين كثيرون وكثيرون ، وأصبح الصحفي في موريتانيا أكثر ذلا وأقل قيمة ، وبرأيي أنه بالوضع الحالي يستحق "وضعا" أكثر ..
حضرت يوما لقاء لوزير الإعلام السابق حمدي ولد اسويح مع نقيب الصحفيين العرب المصري مكرم أحمد ، وتمنيت لو أنني مت قبل أن أسمع الطريقة التي كان يرد بها ولد اسويح على مكرم أحمد ، لا حبا في مكرم وإنما حزنا على فهم معالي الوزير لمعنى العمل النقابي الصحفي ..
اليوم وأنا رهين لمتابعتي لكل شاردة وواردة في جيش المواقع الإلكترونية الموريتانية التي باتت تتكاثر كأحزابنا الوطنية ، وجرائدنا الصفراء . أجدني أكثر خجلا وخزيا وندما أنني دخلت يوما هذه المهنة بدافع الرغبة والحب .. ، أجدني أكثر إصرارا على أن لا أعرف نفسي أبدا في المستقبل بأنني صحفي ، وقد أصبح الحلاقون وسائقو التاكسي والعاطلون الفاشلون ، صحفيين بالفطرة .. ، كيف لا ولا إطار ولا معيار ولا أساس لدخول مهنة الصحافة ..
منذ فترة وأنا أتابع ـ كمهاجر ـ وسائل الإعلام العربية باهتمام شديد .. التي غطت أحداثنا المتلاحقة بشكل كبير وجعلت منا شعبا عرضة للفرجة وموضعا للتندر ولم تستطع صحافتنا بكل أنواعها القيام بواجبها في نقل الحقيقة عنا .. ، من خلال متابعتي لصحفنا لاحظت كم هي بعيدة كثيرا وغريبة جرائدنا .. اكتشفت لأول مرة أن الصحافة لدينا يمكن أن تكون قطاعا في وزارة الداخلية و"البريد والمواصلات" ــ رحم الله أيامها ــ بدلا من أن تفرد لها وزارة كاملة بكل مصالحها وموظفيها وكراسيها ومخبريها .. !
إن أي قارئ لصحافة موريتانيا المحلية اليوم ليس بحاجة أبدا إلى حكواتي مؤرخ ليحكي له عن تاريخ الصحف والصحفيين ، وليس بحاجة أبدا إلى العودة إلى التجارب الموءودة في تاريخ هذا الوطن المنسي أبدا ، فكل تلك القمامة المتكدسة على الأرصفة ليست جرائد ، ولا تمت إلى الجرائد بصلة ، صفراء اللون ، صفراء المحتوى بعيدة كل البعد عن اللغة السليمة التي تدعي الكتابة بها ، وهي إذ تعنون صفحاتها بألوان صحفية أبدعها العالم الآخر لتقفوا ما ليس لها به أي علم ..
أجدني أكثر خزيا وأنا أتابع مستوى الإسفاف الذي وصلت إليه قياداتنا الإعلامية ورموزنا .. وقد كنت أجد فيها المثال والقدوة ، والنموذج المثالي ، وكنت أعذر هفواتها بضعف حالها ، وانعدام إمكاناتها .. لكنني اليوم فهمت ، وعسى أن لا يكون فهم بنعلي ..