من الجيد أن تتساءل عن قدرة وأخلاق من تودعه مالك وتكلفه بعملك..
الدولة كيان حي ويتمتع بكامل المؤهلات الشخصية التي يتمتع بها الأفراد.
فهي توصف بالقدرة والعجز والقوة والضعف وبالانضباط أو الفوضوية.. الخ.
وكل تلك الصفات - كغيرها - هي صفات لشخصية كائن حي يصدر عن مدخلات اجتماعية وسلوكية ونفسية وتربوية، تماما كأحدنا.
لست أدري بماذا سأصف الدولة الموريتانية في حال سؤلت عن بعض صفاتها ومؤهلاتها الشخصية أو عن تقييمي لسلوكها كدولة.
ما أنا بصدده الآن هو لفت الانتباه لخطورة مانقوم به جميعا حيال تربية وتكوين وتأديب وترويض هذا الكيان، ومحاولة فهم آثار جهله وسوء أخلاقه وعنجهيته وانعدام مسؤوليته.
من البدهي أن التعليم يرقى بالأمم والجماعات والأفراد، لكن ذلك يحدث كنتيجة لتحول المعرفة إلى ممارسة، ويمكن للممارسة أن تحيل ثروة العلم إلى هباء منثور في وجه عاتية، لذلك يتعين أن نتدارس أخلاقنا كأساس حضاري ننطلق منه لترشيد وتسديد جهدنا.
من هذا المنطلق سنتساءل عن أخلاق هذا الكيان الذي نرسل إليه كل ثروتنا وننتظر منه إعادتها إلينا كمنجزات راشدة.
فكما أسلفت من الجيد أن تتساءل عن قدرة وأخلاق من تودعه مالك وتكلفه بعملك.
ماذا يحدث عندما تمنح الدولة الامتيازات لمن يمتلكون سلاح البذاءة والجرأة على الباطل والاستعداد للبهت والنيل من الأعراض؟
وفي المقابل تهمل وتهمش - بل وتذل - أصحاب الكفاءات المعرفية والأخلاقية وأصحاب العقول الوازنة والرأي المؤصل الراجح؟ .
من الممكن أن ترى الضابط السامي بكل قوته ونياشينه وتكويناته وتدريباته وماتحت إمرته من جند وعتاد، يرتعش خوفا من ضعيف جاهل دنيء سيء السيرة والمسيرة، لا يمتلك مؤهلا غير البذاءة.
في هذا المثال يتم ترحيل السلطة الفعلية إلى سلطة وهمية خاضعة لسلطة أعلى.
والسبب هو هيمنة الجبن على شخصية الدولة لذلك يمكن وصف الدولة بالدولة الجبانة حين يخضع الجنرال والوزير والمدير وغيرهم لسلطان الخوف من محترفي وممتهني ابتزاز الدولة.
لأن الأمة قد تغتفر فساد مسؤول لكنها لاتغتفر رهنه لكل قوتها ( المادية والرمزية) في يد أي كان ولا لأي سبب.
فالمسؤول الفاسد خير ألف مرة من دول جبانة.
ونتيجةُ هذا الابتزاز لا تتوقف عند حدود الارتهان المادي والمعنوي للدولة وإنما يتمدد لسرطنة كيانها بالتافهين الذين يتسللون إلى واجهة المناصب السامية وشبه السامية كأثمان وترضيات للمهادنة معهم أو مع من يقدمهم.
والنتيجة هي كيان إداري مشلول الحركة عقيم التفكير يستنسخ ذاته مع الوقت.
ولا يتوقف مد التفاهة عند هذه الحدود وإنما يشوه الوعي السياسي من خلال التدخل في انسيابيته، فجوقة الابتزاز جعلت النقد السياسي نميمة، فطغت بذلك قيم المجاملة والمتاركة على قيم التفاعل والحركية السياسية .
وتحولت الكيانات السياسية إلى عصابات متوارية تخدم أنصارها وأتباعها وأحلافها خلف ستار الدولة وبأدواتها ومقدراتها( أي الدولة) .
كل ذلك جعل من النمامين سفراء وعيونا لذوي الجاهات والمناصب، فعلت أثمانهم وأقيامهم ونالوا هيبة وحصانة من القانون نتيجة دورهم الخادم لعناصر مجتمع السلطة.
في دولة كهذه من الطبيعي أن ترى أصحاب الكفاءة والفضل وهم يقومون بأدوارهم وفق تكليفات غير رسمية ويتلقون تعويضات غير منضبطة مقابل " تسماك" الدولة التي خضعت بالكامل لسلطة الشعبوية والابتزاز.
في ظروف كهذه علينا أن نقوم بوضع خطة لتحرير الدولة من هيمنة جيوش " الطلاَّبة" و "العيَّابه" و " السلابه" وذلك بإخضاعها الكامل لسلطة الأخلاق والكفاءة.
كيف يمكننا فعل ذلك دون أن يخير المسؤول سمعته" الطيبة"؟
ذلك ما سأتناوله في التكملة الموالية..