شكل مجيء الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى السلطة بارقة أمل ستجود بمائها للتخفيف من أدران الممارسة السياسية في البلاد، ومن أنماط التداول والتفكير الأناني الذي ظل السياسيون المخلدون يقودون به الجماهير ويسوقونها كالقطعان ليظهروا أن لهم شعبية ووجودا ووجوها لا يولونها في الحقيقة إلا شطر المنافع وقلوبا تتقلب بتقلب الأنظمة وتستقبل كل رئيس بالمناصرة والتأييد اللامشروط ثم تلعنه بعد رحيله كأن لم تعرفه بالأمس، ورغم ما حققه ولد الشيخ الغزواني من تهدئة سياسية ومحاولة إنصاف المظلومين من خلال تبني شعار الإنصاف وتعيين قيادة للحزب لا تنتمي لجيل النخب الفاسدة، إلا أن حليمة أبت إلا أن تفرض على الحزب عادتها القديمة.
لقد أفرغ هؤلاء السياسيون النفعيون الممارسة الديمقراطية من محتواها، حيث اختزلوها في حشد الناس وسوقهم كما تساق البهائم، ترغيبا بمصالح أو مكاسب فردية أو قبلية لا تتحقق في أغبها، أو ترهيبا بفقدان مصالح أو تعسير مطامح دون أن يحقق أغلب هؤلاء السياسيين النفعيين أي صالح عام ينفع الناس ويمكث في الأرض، رغم ما يعدون به في كل موسم سياسي من إنجازات ينتهي ذكرها مع انتهاء عملية الاقتراع، فلم يغرسوا وعيا يستنار به ولا شجرا يأكل من ثمره إنسان أو حيوان.
ظل هؤلاء النفعيون يتحولون ويتلونون ويتسمون بألوان وأسماء أحزاب السلطة الحاكمة حتى أوصلتهم عقيدة الطمع والمصالح الأنانية إلى حزب الإنصاف الحاكم حاليا، غير أن محدودية المناصب وتعدد الطامحين للفوز بها أدخل قيادة الحزب في مواجهة مع واقع سياسي صعب، لا يمكن تجاوزه إلا من خلال استبعاد بعض المتصارعين، الأمر الذي يدرك الحزب أنه سيفتح باب الهجرة أمام منتسبيه إلى أحزاب أخرى، قد تحقق من خلالها ما تخشى زواله من اعتبار ومكانة سياسية، وتحافظ على الولاء الضامن للمصالح المادية والمعنوية.
يحتضن حزب الإنصاف بصفة نظرية الكثير من القوى يجمعها الطمع فيما تحت يد النظام وتفرقها المشارب والخلفيات والأهداف، الشيء الذي يجعل مهمة تسيير الحزب مهمة في غاية الصعوبة، ويجعل إرضاء الجميع غاية لا تدرك، فمنهم من أسس بنيانه على استغلال النفوذ ومنهم المؤلفة قلوبهم القادمون من صفوف المعارضة ومنهم الشباب المثقف الغير آبه كثيرا بسياسة الترغيب والترهيب إلى آخر ذلك من القوى المتناقضة التي لا يمكن للنظام ضمان ولائها إلا من خلال ترشيحها من أحزاب متعددة ولو شكليا حتى لا يلجأ المتمردون على قرارات الحزب للارتماء في أحضان المعارضة.
ظل الجميع يحبس أنفاسه ويتغذى على التكهنات والأماني ويغذي بها إلى أن كشف حزب الانصاف عن لوائح مرشحيه، عندها ساد الاستياء جموع المقصيين وبدأ الحشد والمغاضبة، ليجد الحزب نفسه في مواجهة حالة غضب عارمة شملت مختلف أنحاء البلاد، مهددة بالانسحاب والتوجه إلى أحزاب أخرى قد تكون معارضة، وبدأ الحزب محاولة احتواء أزمة الغضب هذه، من خلال التعهد للمغاضبين بمكاسب بديلة عن الترشح، أسوة بما دأبت عليه الأنظمة السياسية المتعاقبة على الحكم من استخدام وتوظيف سلطان الدولة ونفوذها في كل الانتخابات، حتى أصبح من التقاليد السياسية توظيف المال والجاه والجهة والفئة في الانتخابات، حتى تتم صناعة المشهد السياسي بالشكل الذي يخدم مصالح الطبقة المتنفذة، غير أن ذلك لم يمنع الكثيرين من الانسحاب وإعلان الترشح من خارج الحزب، مثلما حصل في مناطق كثيرة من الوطن، مثل النعمة ولعصابه وازويرات واترارزة وآدرارا .. إلخ
تميزت الانتخابات الحالية بنوع جديد من التصعيد لم نشهده من قبل، مثلته موجة الاستقالات العارمة من الحزب الحاكم، حيث كانت الانسحابات تحصل دون إعلان الاستقالة، ويرجع ذلك أساسا إلى تنامي الوعي لدى المواطن، مما ينذر بصيف سياسي ساخن قد يجعل الحزب الحاكم يفقد السيطرة على البرلمان، إذا لم توفق الأساليب التقليدية في إرجاع المتردين إلى الحظيرة.
ومما يؤسف ويحز في نفس كل غيور على موريتانيا وأهلها الشرفاء ما يتداول على نطاق واسع من أن مقاعد البرلمان أصبحت تباع وتشترى من طرف أصحاب المال، لتتحول مهمة البعض إلى استخدام المقعد لخدمة المصالح الخاصة للمنتخب بدل خدمة ناخبيه.
وفي الوقت الذي ترى فيه قيادة حزب الإنصاف أن معايير اختيار المرشحين كانت أقرب ما تكون إلى الموضوعية والإنصاف، يرى كثير من المغاضبين أنها عكس ذلك، ويعتبرون أن ترشيحات الحزب اعتمدت معيار النفوذ والمحاباة، كما أن مسيرو حزب الإنصاف يرون أن أغلب هذه المغاضبات ليست مقنعة، ولم تستطع تقديم شبهة فساد أو انعدام الكفاءة ضد من تم ترشيحهم من طرف الحزب، مما يعني تهافت حججهم، وأن انتماءهم للحزب لم يكن عن قناعة أصلا، وإلا لما رفسوا قرارته ثم يتحدثون بعد ذلك عن الحزبية والانضباط.
وبالنسبة لي أعتقد أن الأزمة أكبر وأكثر تعقيدا مما يتبادله أطراف أزمة حزبية آنية من اتهامات ويتذرعون به من مبررات، بل أن الأمر يتجاوز إلى أبعد من ذلك، حيث تعمدت الأنظمة المتعاقبة على حكم البلاد منع الأحزاب السياسية من بناء عناصر القوة الضرورية لبناء ديمفراطية سليمة تستند إلى أسس صلبة تساهم في تجسيد دولة القانون، وشجعت في المقابل النعرات الجاهلية والإثنية، ورعت وباركت الاجتماعات والمبادرات القبلية، وسمحت لرجال الأعمال أن يقودوا الجميع بقوة المال وأن يتزعموا الحراك المناهض لسيادة الدولة، وها هو الخلف اليوم يواجه النتائج الوخيمة لما جناه عليه السلف من سياسة هدامة.
ومهما يكن من أمر فإن بناء ديمقراطية سليمة يتنافى والاعتماد على مجموعات تمارس السياسة الحزبية بمنهجية وأدوات قبلية، تجمعها المنافع الضيقة وتفرقها، توالي الكراسي ومن يجلس عليها، دون مبادئ ولا إيمان بثوابت معينة.
لم تعد عقلية الأمس تستطيع تسيير واقع اليوم، نظرا لمتغيرات عديدة دولية ومحلية، الأمر الذي يحتم مواكبة العصر الجديد بما يناسبه من نمط التفكير والخطاب والممارسة.
حفظ الله موريتانيا من كل سوء.