حوار على رصيف الكرامة / الولي ولد سيدي هيبه

altقصة من وحي الإعلام الملتزم بقضايا الانسانية

من دوافع كتابة هذه القصة المستوحاة من الحقيقة تلك الرغبة الجامحة و الكامنة بداخل كل مسلم في القول، من فوق  كل المنابرالمتاحة، إن الدفاع عن نبي و رسول إسلام السلام و المحبة و الأخلاق الفاضلة العظيمة و المنجاة من النار سيد الكونين و الثقلين محمد صلى الله عليه و سلم،

 هو في واقع الأمر شأن "ملايير" الآدميين المنحدرين من كل السلالات، المنتمين لكل  الأعراق و الأجناس و المنتشرين في كل أصقاع المعمورة  يصلون عليه بكرة و عشيا  امتثالا إيمانيا للأمر الإلهي (إن الله و ملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليما) و احتسابا يقينيا و هم يتبعون هديه لتحقيق توازنهم النفسي و المادي...

و ليس الغربيون الذي اعتنقوا هذا الدين، و الذين  يهتمون  بشأنه دراسة و  تثمينا و بقدرته على النفاذ إلى العقول، بأقل في ذلك الدفاع من سواهم إن لم يكونوا أكثر تسلحا و أكثر مهارة في واجهة التيارات و الطوابير الهدامة.

 

و القصة التالية هي تكريس لحوار على رصيف إحدى ساحات الفكر و الفن  في "القارة العجوز" بين مثقفين، و قد دار حول ما كان من الإساءة المنحطة المنكرة إلى رسول البرية و منقذها من مهالك الدنيا و أهوال القيامة؛  حوار يفضي بالرجلين إلى الاصطفاف عن بينة و اقتناع إلى تيار الحق المنتصر أبدا، تيار دين المصطفى صلى الله عليه و سلم (صلوا عليه و سلموا) بعيدا عن كل المؤثرات و الاكراهات.

*******

كانت أضواء مدينة "استراسبورغ" الأوروبية المبهرة اللامعة بكل الألوان ـ المتخذة و المتبعة على العادة كل أشكال و اتجاهات التضاريس و البنايات ـ شاحبة و فاقدة لأي بريق في تلك الليلة الباردة إلى حد التجمد. و قد أقدم خلالها في جرأة مطلقة لم يقيدها أي وازع أخلاقي أو ديني، أنذال ساقطون، على الإساءة بوضيع الرسوم و سقيم الألفاظ  و منحط الأفلام إلى نبي الهدى، الرحمة المهداة إلى العالمين لإنقاذ الإنسانية من ضلالات و سفالات الجهل.

وكان رصيف المدينة الجميل ـ الذي يضج في كل يوم تبزغ بإذن الله شمسه من حلك كونه، بحركة براءة الفن و سمو الفكرـ خاليا على غير المألوف من مرتاديه المتعطشين في تجدد سرمدي إلى سيل إبداعاته و خصيب منابته و وافر محصوله.

 

جلس الشاب ذو الثلاثين خريفا "ريتشارد فيلكر" على المقعد الشاغر البارد وقد أخذ منه الحزن و الحسرة كل مأخذ بعد أن طعن الوعي النبيل، من منظوره، في الصميم وبعد ما رأى من انتكاسة هذا الوعي ما حز في نفسه و شوش أفكاره.

 

وبينما هو غارق في حسرته إذا بـ"كوهن صهيون ليفي" الأربعيني يطل - بشعره البني المتجعد و بشرته المائلة إلى السمرة قليلا  و أنفه الكبير القابع فوق شاربين أصفرين نازلين على شفة علوية سميكة غطت نهائيا بكثافة شعرها المصفر بفعل النكوتين و القطران على الأسنان الشبيهة بأسنان سمك القرش - و يهبط عليه من الظلام كالشيطان المارد ممسكا بيده قلما مازالت آثار الإثم الأسود تقطر منه على ورقة تمسكها يده الأخرى المرتعشة من البرد على الرغم من القفاز الذي يغطيهاها.

 

رفع ريتشارد فيلكر وجهه و قال مخاطبا كوهين صهيون ليفي:

 

ـ هل جن الغرب وهو في أوج ازدهار الفكر وسمو العقل بعد أن تحرر من ربقة عهود الظلامية التي سكنته طيلة القرون الوسطى و انحط خلال حقبها المتتالية إلى حضيض عاقر البهيمية في أجوائه النتنة إلى أن... إلى أن وصله قبس من أنوار الإسلام ليتشبع يومها من سمو رسالته و ينهل من نبل مقاصده؟...

- أم هل هي نوبة لؤم جديدة وتنكر لدين ما زال مع ذلك نبيه ورسوله الكريم محمد صلى الله عليه و سلم على رأس لائحة أعظم مائة رجل عرفهم تاريخ الإنسانية... وهو الغرب ذاته من أعدها و حدد معاييرها الاختيارية ثم بصم على نتائجها بشهادته تحت وطأة وجوب التزامه بحكم النزاهة الفكرية  و النظام و القانون ؟

 

ـ أجبني كوهين ... لست افهم... أنا ريتشارد فيلكر مسيحي حتى النخاع ومسلم حتى الثمالة... و لقد ترسخت بمهجتي محبة المسيح عليه السلام أضعاف ما كان بي حينما اطلعت عن كثب على مكانته في الإسلام وكيف بينها كتابه المقدس القرآن ببديع اللفظ وعالي الوصف و سحر بيان و إعجاز.

 

ـ أنا أجتح على الغرب "المقزم" و المحشور كرها في زمرة لا شرقية و لا غربية أخلت بكل قواعد اللياقة الأدبية و بقواعد المدنية السامية والإعلام المتحضر، المترفع في سموه عن اعتبارات ولى عهدها... إعلام هو ذاته الذي حقق لهذا الغرب المطعون في الصميم تلك الذات الفريدة التي بهرت من حوله شعوب العالم الأخرى و جعلتها تلهث وراء  مثاليته المتحررة من إكراهات النفس المرسلة على هواها و تلك المتقوقعة داخل اعتباراتها الضيقة المطبوعة بالخرافة.

 

هب "كوهن صهيون ليفي" منتصبا على ساقيه الدقيقتين اللتين تحملان كرشا ممتلئة و صدرا منتفخا بعدما ما لم يجلس إلا قليلا فقال و الضجر يخنق صوته:

 

- أنا أجيبك يا ريتشارد، يا من نسيت قلب الأسد الذي دخل ذات يوم أورشليم فحررها من قبضة الإسلام وطهر أرض المسيح من عدالة هذا الدين المزعومة... استمع إلي أيها المارق ثم اعلم أن هذا الغرب لن يقبل أبدا بالإسلام دينا ولن يتخذ رسوله قدوة و معلما ....

ـ لقد فات الأوان يا كوهن صهيون ليفي ... إن الغرب القابع في ذاتك مات منذ أمد بعيد... مات بالتحديد يوم عالج صلاح الدين الأيوبي ريتشارد قلب الأسد بالطب النبوي المحمدي ليرجع إلى أوروبا و قد شفي من بعد اليأس و في القلب منه حبا غير منكتم لنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم... وإن غرب الصحوة المشبعة بقيم الإنسانية والنزاهة الفكرية هو اللب الذي خرج من بين فرث ماض استعماري ولى ودم حرب عالمية أعطت دروسا صنعت حاضرا من الوعي المتحرر و أرست قواعد التكفل بالٍمستقبل الذي ستكون فيه حتما الغلبة للحق المطلق... و أنى لذلك الحق أن يكون في غير ملة الإسلام.

 

ـ كفى فلسفة و هراء يا ريتشارد و أجبني عن أي لب تتحدث يا ريتشارد وأي حق مطلق تعني؟

ـ أو تعلم يا كوهين لم يغطي غربك قناعك و لم تقام من وقت لآخر في مسرح كذب هذا القناع مناورات خبيثة -  تستهدف نبيا أجمع القاصي و الداني على تربعه عرش القلوب المجردة من أدران الغل و الحسد ـ في  انفصام تام عن واقع ما يجري من تحول الأفئدة المتواصل إلى الإسلام بحثا عن الخلاص من تيهها و سعيا إلى النجاة من عبثية الوجود التي حاصرتها في عالم كشف كل أوراقه؟

 

ـ قل لي يا ريتشارد كيف ذلك؟ فأنت تبدو واثقا و مقتنعا بما تقول؟

 

ـ استمع إلي بعقلك يا كوهن... دع ريشة الإثم والغدر التي بيدك تسقط في حضيض الأحقاد و ثبتها في جيبك حتى لا ترتعش ثم أنصت إلي لعلك تحفظ عني و تفهم مني ما أملته صحوة الضمير الحي... إن  محمدا هو أعظم رجل عرفته الإنسانية وإن رسالة الإسلام التي كلف بتبليغها هي أعظم هدية لهذه لإنسانية... أزل عن عينيك غشاوة الأحقاد التي حملتك إياها تقاليد النفاق و استدع من عمقك البكر دوافع الصدق و صحوة الضمير... فإنك إن فعلت ترى من عظمة هذا الرجل و قربه إلى نفسك المحررة ما تهتز به طربا و تلبس به حلة جديدة من نبل المقاصد وحسن السعي إلى بناء النفس الفاضلة.

 

ـ مهلا ريتشارد.. أو لست تدعوني فيما ذهبت إلي الإسلام و نبذ علمانيتي التي حققت فيها ذاتي؟

 

ـ علمانيتك؟ أو صهيونيتك؟.. الذي يهمني أنا حقا هو أن تخرج، و أنت المثقف، من دائرة آحادية النظرة في الفكر و أن تعتنق الحق مجردا.. خذ هذا الكتاب "رجال حول الرسول" و اقرأ على مهل ما جاء فيه عن رسول الإسلام و صنعه الأمة ثم وسع دائرة معرفتك بالأديان و احكم بكل تجرد.

 

ـ لقد هززت كياني ألمعتقدي و دعوتني حقا إلى ما لم أنتبه له في أية لحظة... صحيح أن الإساءة إلى محمد ـ و دعني أصلى عليه و أسلم ـ عمل مناف لكل القيم الإنسانية كما هو صحيح أيضا أن هذه الإساءة إنما أثبتت لمن لم يكن يعرف أنه رجل عظيم يسكن في قلوب الملايير على ظهر المعمورة؛ ملايير هبت كرجل واحد لنصرته و الذود عنه بأرواحها و أموالها.. إنني أشهد على ذلك من خلال عجزي و عجز من أساؤوا معي دون وعي معرفة قدر الرجل  وقيمة رسالته الفريدة... و نحن لم نجن سوى مزيد من احتقارنا أنفسنا و مزيد من شعورنا بالعزلة عن عالم الحقيقة من حولنا.

 

ـ الله أكبر.. هكذا يجب أن يكون المثقف الواعي الذي لا يجافي الحق بكل شجاعة و حياد و يأخذ به بلا شرط أو قيد...

و بضيف مطرقا:

ـ دعنا إذا كوهين نقف مع الحق في وجه هذه الهجمة البربرية التي تنتمي قلبا و قالبا لزمن ولى و لاعتبارات متجاوزة.

ـ نعم يا ريتشارد و دعني إذا أستخرج ريشتي من جيبي بيد لم تعد ترتعش و شاهدني و أنا أضعها سلاحا في صف الحق دون إكراه أو توجيه.

21. أبريل 2013 - 16:22

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا