تعود أزمة الحمالة في ميناء نواكشوط المست-غ-ل الي الواجهة من جديد... في كل البلدان تعنبر النقابات العمالية ظاهرة صحية وتلبى لها مطالبها وتحترم لها حقوقها لأن إحترام الحكومة وقطاع الأعمال للعمالة هو المبدء الوحيد لحسن النية والدليل على النضج المدني...
لكن عندنا، لاتهتم الحكومة ولاتكترث للعمالة ولا لحقوق العمال ولا الأساتذة ولا المعلمين ولا "لمعلمين" ولا "الحراطين" ولا "البيظان" ولا "لكور"...كل الألوان والوظائف عندنا في بوتقة واحدة يصبغها لون القهر السياسي والحرمان الإقتصادي وإستعباد بعضنا لبعض خارج كل النصوص والقوانين والأعراف والنواميس...
ذكرتني قضية العمالة هذه الأيام في ما يسمى بميناء نواكشوط الي مقال كنت قد كتبته عنه خلال إنتفاضتهم الأولى بتاريخ 27 أغسطس 2010 عندما عاثت فيهم شرطة "العقيد" عزيز ضربا بالسياط من جهة ورفض رجال الأعمال الجشعين لتلبية ابسط حقوقهم من جهة أخرى..
"خلال الأسابيع الماضية كثر الحديث عن الإضرابات والمواجهات بين عمال الشحن والتفريغ في ميناء نواكشوط اليتيم و الشرطة من جهة وبين هؤلاء الحمالة والعمالة الأجنبية من جهة أخرى. إن الكثير من الناس لا يعرف حقيقة الظروف التي أدت بهؤلاء الحمالة إلي التظاهر و الامتعاض ولا الظروف الاجتماعية و السياسية والاقتصادية التي تعيش فيها هذه الشريحة المعذبة والمضطهدة والمستغلة على الرغم من مساهمتها الكبيرة في اقتصاد البلد وتوزيع البضائع.....
فهؤلاء هم من يقوم بتفريغ السفن التي تحمل الأرز والقمح بل باختصار تحمل الحياة لمجتمع لا يستهلك إلا ما يستورد و لا ينتج أي شيء، بل هم أيضا من يشحن الشاحنات التي توزع المواد الغذائية في جميع أنحاء الوطن.....
فلو توقف هؤلاء عن العمل فإن عجلة الاقتصاد ستتوقف لا محالة، فأرباب العمل لا يمكن لأي واحد منهم أن يحمل خنشة واحدة من الأرز أو السكر ولو كان سيتقاضى مقابل ذلك 500 أوقية أو حتى ألف أوقية، لكنه لا يشعر بالذنب وهو يعطي 8 رجال 500 أوقية مقابل طن أي 20 خنشة و هو يبيع الخنشة ب 8000 أوقية.....
أخواني دعونا نتكلم بلغة بسيطة وواقعية و نستعين بمعطيات من الواقع المر والحيف الصامت والاستغلال البشع الذي يطال جميع المواطنين و لاسيما الطبقة العاملة والكادحة مثل الحمالة الذين لا يملكون من مقومات الحياة إلا عضلاتهم التي يستغلها بعض التجار المتحايلين ودمائهم التي يشربها من ينصبون أنفسهم دفاعا عن حقوقهم.....
أصل الحكاية أنه منذ سنوات تم إنشاء مكتب مسئول عن حقوق العمال في الميناء وخصوصا عمال الشحن والتفريغ (الحمالة) يطلق عليه BOMEP عين عليه حديثا أحد الانقلابين السابقين و يتقاضى راتبا شهريا يزيد عن مليون أوقية. يعني هذا المكتب بالدفاع عن حقوق العمال وتنظيم سير العمل و ضمان مصالح رجال الأعمال.....
فمثلا كل سفينة من الحجم الكبير تحمل حوالي 14000 طن من الأرز أو السكر تحتاج إلي مابين 8-9 أيام للتفريق وحوالي 150 عاملا مقسمين على ثمانية فرق. كل سفينة يجب عليها أن تدفع بين 15 – 17 مليون أوقية لمكتب الشغيلة هذا قبل البدء في تفريغها، هذا المبلغ الطائل من المفترض أن يوفر منه ضمان صحي و وجبات غداء أو عشاء لهؤلاء العمال البسطاء أو حتى على الأقل أن يحضر لهم منه الشاي. المفارقة هي أن هؤلاء العمال ليس لديهم أي حق في أي شيء سوى حق العمل و الأكل على حسابهم في اليوم الذي لا يجدون عملا لا يحق لهم شرب الشاي فما بالك بالضمان الصحي علما أن حالات الموت المفاجئ والصرع متفشية بين هؤلاء العمال.....
"إن العمل في هذا الميناء أشبه بسجن كبير و نحن أشبه بعبيد نعمل فقط من أجل تغطية تكاليف التنقل و شراء الفطور لأطفالنا في الصباح ثم نهرب بعد ذلك خوفا من أن يطلع أبناؤنا على عجزنا عن توفير وجبة الغداء" يقول أمبارك ولد فوده، حمال كان يجلس تحت ظل شجرة لعله يستريح بعد مطاردة الشرطة له.....
هناك آخر كان يتمدد تحت أشعة الشمس و كأنه يريد أن يتحلل ويتبخر مع آخر نفس فيه، حاول أن يستجمع أنفاسه عندما رآني أقترب منه ثم قال "هؤلاء التجار والدولة يتمالئون علينا ويحاولون قتلنا، فهم يفضلون هؤلاء الأجانب علينا. لكننا نحن المواطنون ولن نسمح لأي عامل أجنبي أن يشتغل بثمن بخص ليحل محلنا" ثم استرسل محمود قائلا " اسمع ما سأقوله: أنت لا تفهم أي شيء عن هذه القضية فنحن كنا نحمل خنشة 50 كلغ بسعر 25 أوقية منذ عشرات السنين و الآن نحن لا نطالب بالمستحيل بل نريد فقط أن نواكب ارتفاع الأسعار الجنوني و نرفع سعرها إلي 50 أوقية فقط أي 1 أوقية لكلغ واحد أي 1000 أوقية بدل 500 أوقية، لكن هؤلاء التجار و ؤلائك المرتشين واللوبيات في الميناء لا يريدون الخير إلا لأنفسهم ولا يعملون إلا لحساب جيوبهم".....
سمعت صوتا آخر في الخلف يقول "نعم منذ حوالي شهرا كنت محظوظا عندما دعاني مدير المكتب BOMEP مع بعض الزملاء لتنظيف منزله الجديد الذي اشتراه في حي تفرغ زينة بما يزيد على 100 مليون أوقية كما قال لنا أحد أقاربه الذي كان يراقبنا في المنزل. فلك يا ابني أن تتصور كم هؤلاء البشعين والاستغلاليين يعيشون على حسابنا بينما نحن لا نجد حتى مراحيض لقضاء الحاجة، ففي ميناء نواكشوط لا يوجد إطلاقا أي مرحاض عمومي صالح للاستخدام".....
بعد هذا الحديث مع هؤلاء المهمشين والمحرومين زادت رغبتي في معرفة حيثيات الاستغلال والغلول والمحسوبية الذي يتم بصمت في دهاليز ميناء نواكشوط بعيدا عن أعين الكثير من الناس. تذكرت أني أعرف زميلا يعمل في الميناء فذهبت أليه ليفسر لي و يوضح لي ملابسات هذا الموضوع الشائك والمعقد أكثر مما يمكن للمواطن العادي والمراقب أن يفهم....
بعد حديث طويل قال لي صديقي إن "ميناء نواكشوط أشبه بمملكة تنهار يوما بعد يوم وهو وكر للخفافيش و المرتشين و التجار الظالمين و الجائرين". ثم يضيف " هؤلاء العمال لهم الحق أن يثوروا ويقتلوا التجار والمسئولين عن حقوقهم بل ولهم الحق في قتل كل أجنبي يحاول أن يستغل إضرابهم وغيابهم ليعمل دون أي شرط أو قيد"، " فالتجار هم من يتعامل مع الرؤساء والمدير و السكرتيرات لتسهيل أعمالهم على حساب هذه المخلوقات التي لا تفقه قولا ولا تميز بين حقوقها وواجباتها. أما الآن فلما بدأت عقلية الشغيلة تتغير بدأنا نرى هذا النوع من الصراعات والمظاهرات".....
يضيف صديقي بكل مرارة و حنقه " إن قيمة إيجار كل سفينة تأتي إلي موريتانيا تصل إلي 15 ألف دولار يوميا و هو الشيء الذي يلعب عليه المكتب والإدارة لتأخير كل من لم يدفع أكثر و تعجيل كل من يدفع بسخاء. ففي العام الماضي جاءت سفينة لأحد التجار تحمل 14000 طن من السكر، لكن أحد التجار الآخرين المنافسين لهذا التاجر استغل قرابته بالمدير ليؤخر باخرة غريمه من التفريق لمدة 15 يوما وهي المدة التي كانت كافية لتتسبب في إفلاس التاجر للأبد. فهو لم يكن بحسبانه أنه سيدفع 225000 دولار من ربحه".....
كذلك سونمكس قتلها التجار العام الماضي عندما تسببوا في تعطيل حمولتها من الأرز لمدة شهر فوجدت نفسها مضطرة لتسديد 600000 دولار لشركة الشحن والتصدير الأجنبية التي لا تهتم للصراع وتضارب المصالح بين التجار والدولة أو التجار فيما بينهم. لم تستطع شركة سونمكس تسديد المبلغ فأعلنت الإفلاس"....
إن مظاهرات الحمالين ليست ظاهرة عرضية، بل هي انعكاس لصراع مصالح تدور رحاه بين من يطلق عليهم أرباب العمل المستغلين للعمال ولبعضهم. هذا النوع من الصراعات يعكس أيضا بدوره مستوى نضج الحكومة والمواطن ومدى تطبيق القوانين في دولة القبيلة فيها والروابط الجهوية أقوى بكثير من الدولة وفوق القانون. فإلى متى سيظل هؤلاء العمال المنسيون و المواطنون مقهورين و مستغلين وممتهنين بلا وظيفة ولا مهن ودون أدنى حقوق العيش الكريم؟ أم أن ربح رجال الأعمال وإثراء عمال الدولة لابد له من استغلال المواطنين و الاتجار بحقوق الآخرين....؟"
في وطننا، لاتتقن السلطة فن الحلول الجذرية للمشاكل الملحة كما أن النقابات العمالية والمجتمع المدني لايتقن فن الصمود من أجل الدفاع عن مبادئه... داخل هذه الدائرة المفرغة تتلاشى الأحلام وتضعف الإرادة وتتحول الحرية الي رماد تذروه الرياح في عيون الذين يرون أبعد من الأفق الكئيب... من تحت الرماد سينبعث طائر الفينيق ويحلق في سماء الحرية والأمان ويغني للذين سيولدون من جديد...