امتلأت صفحات المواقع التفاعلية منذ أمس بكلمات وشعارات تضامنية جميلة مع الحمالين الواقعين منذ أيام تحت بطش آلة القمع العسكرية، بعد مطالبتهم بالحد الأدني من حقوقهم المسلوبة منذ عشرات السنين،ورغم ما في هذه الحملة التضامنية
من معان وطنية وإسلامية وإنسانية رائعة لكن تركيزها على الحمالين صورا وشعارات يقدم صورة خاطئة عن حقيقة الأزمة ،فهي ليست أزمة الحمالين ولا حتى أزمة المحمول لهم بإطلاق إنها باختصار وبكل أسف أزمة المحمول له، أو دعونا نقولها دون مواربة أزمة الرئيس التاجر أو أزمة الجمع بين التجارة والإمارة.
لم ينتفض هؤلاء العمال الوطنيون الشرفاء مطالبين بضمان صحي وهم يحتاجون ذلك و تحتاجه أسرهم الضعيفة الهشة، ولا للمطالبة بعقود عمل تحترم الاتفاقيات الدولية والقوانين المحلية وتعطي عملهم صبغته القانونية والإسلامية والإنسانية وتجعل بينه فرقا - ولو في الشكل - وأشكال العبودية التقليدية البدائيه..
..لم يطالب هؤلاء بالحق في السكن اللائق أو التعليم الواجب لأسر لو قدر للرصافي أن يلتقيها لعرف أنها أحق بقصيدته الحزينة
لقيتها ليتني ما كنت ألقاها... تمشي وقد اثقل الإملاق ممشاها
أثوابها رثة والرجل حافية.. والدمع تذرفه في الخد عيناها
إنما انتفض هؤلاء مطالبين بأن يكون التعويض الذى يحصلون عليه مقابل رفع الأثقال أقل من ربع ما تحصل عليه الرافعات الحديدية المملوكة للمحمول له؛ تلك الرافعات التي تنافس هؤلاء على مصدر رزقهم الوحيد في حين يمتلك الرئيس المحمول له مصادر رزق تبدأ من راتبه الذى يفوق مجموع رواتب الحمالين العاملين في ميناء نواكشوط المستغل، وتمر عبر تعويضات الرحلات المكوكية ولاتنتهي بالنصيب المتأتي من الصناديق القادمة من أصدقاء علاوي، وغيره من الصناديق الخاصة المبوب عليها في ميزانيات الدولة والتي يتصرف فيها رئيس الصناديق وفق هواه بعيدا عن أي رقابة أو تفتيش اللهم إلا ما قد تقوم بها مفتشة الدولة السيدة منت فرجس حديثة العهد برئاسة نساء الحزب الحاكم!!!
إن الأزمة الحقيقية والعميقة التي تتهاوي فيها موريتانيا حاليا هي أزمة حاكم لاوجود لكيان جمعي في ذهنه، حاكم يقدر المواقف على أساس ماتدره من دخل على ذاته وعلى محيطه المرتبط بمصالحه، وهنا الكارثة والمشكل الذى لايريد الكثير من الموريتانيين مواجهته رغم وضوحه الذى لم يكن يحتاج إلى برهان .
لقد كانت تسجيلات أكرا المخزية دليلا لمن كان يحتاج إلى دليل على فداحة المصيبة الواقعة على هذا البلد وأهله ؛فالرئيس الذى يتباهي بنصرة الفقراء ومحاربة الفساد يفاوض عصابات المافيا على " كومسيوهات " من تجارة غير شريفة، ويعترف أنه دفع مسبقا، ويرضخ بعد ذلك لابتزاز شركائه في " محاربة الفساد عن طريق تبييض الأموال" !! فيصدر تعليماته السامية " بتطلاع مليونين من واحد من الصناديق".. !!
هذا هو الرئيس الذى يصدر تعليماته السامية بقيادة عملية عسكرية شارك فيها جنرال وسبعة عقداء ضد المئات من الحمالين المطالبين بأن يكون تعويضهم أقل من ربع التعويض الذى تحصل عليه رافعات المحمول له، ... نعم عملية عسكرية بمعني الكلمة أصيب خلالها أكثر من عشرة جرحى واعتقل عدد من المناضلين، وتنقلت المواجهات بين مقاطعة الرياض و وسط العاصمة.
لوكان من يملك القرار لدينا بالأمس رئيسا حقا لتعاطي بطريقة مختلفة مع مطالب هؤلاء الشرفاء البسيطة جدا، والعادلة حقا، والمنصفة صدقا، لكنه الرئيس التاجر، صاحب الرافعات الحامل والمحمول له، لايري في المطالبين بحقوقهم مواطنين شرفاء ، بل يرى فيهم منافسين ومتطلعين للمشاركة في المكانة عن طريق تحسين وضعهم المعيشي والإنساني وهما أمران يتطلبان في قانون المستبد التاجر قمعا عنيفا وهذا بالضبط ماحصل بالأمس وما يحصل اليوم، وما سيحصل في الغد إن نغتنم جميعا الفرصة ونخلص أنفسنا من هذا الحكم العسكري الغبي.
إن الانتفاضة العظيمة التي يقودها هؤلاء الرجال العظماء ضد المحمول له هي أعدل انتفاضة وهبة شعبية تعرفها هذه البلاد منذ فترة وواجب الجميع هو مناصرتها لاعتبارات شرعية وأخلاقية ووطنية؛ فهي انتفاضة ضد وضع مزر وجريمة مكتملة الأركان تورطت فيها كل الأنظمة المتعاقبة ضد هؤلاء الرجال الشرفاء، وظل الجميع – ساسة وحقوقيين وإعلاميين يسكتون عنها وعليها – أما اليوم وقد ثار هؤلاء ضد ظلمهم ومن أجل حقهم فلا أقل من نصرتهم بكل ما يحتاجون من دعم سياسي وإعلامي ونضالي ومادي وذلك حتى لاينفرد بهم المحول له مرة ثانية ويكسر هبتهم ويفرض عليهم حلولا ترقيعية يورط فيها بعضهم ويترك البقية ترفل في قيودها، وفقرها واستغلالها وحرمانها وبالتالى يترك شريحة واسعة من المجتمع تستمر في معاناتها وشعورها بالضيم والهوان والغبن والحقد حتى على مجتمع تقمعها أجهزته الأمنية والعسكرية، وتبخل عليهم سلطته السياسية والمالية بتعويض أوقية واحدة عن الكيلو غرام، وتضن عليهم نخبه بواجب التضامن والنصرة والمؤازرة.
أخيرا أقول للحمالين أنتم أصحاب حق ولستم مصدر أزمة.. الأزمة عند من قمعكم من يستغلكم من يريد أن يكون أجر الحديد أكبر من أجركم.. الأزمة عند من لم يدرك بعد أن زمن الاستغلال والاستعباد والاستبداد قد ولى.. لا تفزعكم صرخاته أن لا حل.. لا حل إلا العودة إلى ظروف الذل والهوان فقد علمتنا تسجيلات أكرا المخزية ان تلك سجيته في التعاطي مع المشكلات يتورط فيها أولا ويتنكر لها ثانيا لكنه سرعانما ينقلب و يعطي التعليمات بفتح الصناديق وتقديم الحلول.. سيرضخ لمطالبكم فلاتستعجلوا ولاتقبلوا بأقل من معاملة إنسانية لائقة لكم في بلدكم ثقوا أن المحمول له سيرضخ وأنكم منتصرون.. منتصرون.. منتصرون.